أقلام وأراء

د. غانية ملحيس: هل بلغ عصر الحداثة المادية العنصرية الأمريكية منتهاه؟

د. غانية ملحيس 18-10-2025: هل بلغ عصر الحداثة المادية العنصرية الأمريكية منتهاه؟

تتناقل وكالات الأنباء أن ملايين المتظاهرين الأمريكيين سيخرجون غدا السبت في 18/10/2025 إلى الشوارع، في مختلف أنحاء الولايات المتحدة، احتجاجا على سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وذلك تلبية لدعوة أطلقتها حركة «لا ملوك»، رفضا لسياسات ترامب، ودفاعا عن الديمقراطية.

حين يخرج ملايين الأمريكيين إلى الشوارع احتجاجا على سياسات رئيس يفترض أنه منتخب ديمقراطيا، لا يبدو المشهد مجرد تمرد سياسي عابر.

هذه الاحتجاجات ليست ضد شخص بعينه، بل ضد بنية حضارية كاملة بدأت تفقد شرعيتها الأخلاقية والروحية.

لقد عاد السؤال الذي حاولت الحداثة الغربية والأمريكية طمسه طويلا:

ما الذي تبقى من الإنسان حين يُختزل في السوق، ويُدار مصيره بمعادلات القوة والمصلحة؟

الذين ما زالوا يراهنون على دونالد ترامب بوصفه “المنقذ” أو “المخلّص القوي”، مدعوون إلى رؤية المفارقة في جوهرها.

إن ترامب ليس خرقا في النسق الأمريكي، بل هو صورة مكتملة له، تجسيد فج لعقلانية فقدت البوصلة، ولقوة بلا معنى، ولسياسة بلا روح.

1. من أزمة الحكم إلى أزمة المعنى

الموجة المتنامية من الاحتجاجات في الغرب عموما، وفي الولايات المتحدة الأمريكية خصوصا، ضد ترامب تكشف تحول أزمة نظام الحداثة المادية العنصري من مستوى الإدارة إلى مستوى الوجود.

فليست القضية فيمن يحكم، بل في طبيعة الحكم نفسه، وفي العقل الذي صاغه.

ترامب ليس ظاهرة طارئة، إنه مآل طبيعي لمسار طويل من التوحش المادي، الذي جعل من “النجاح” مرادفا للهيمنة، ومن “العقلانية” أداة لتسويغ القمع والإقصاء.

إن الغضب الشعبي المتعاظم هو تمرّد على العقل الأداتي، الذي جعل الديمقراطية واجهة للرأسمالية المتوحشة، وحوّل الدولة إلى شركة كبرى تُدار بالحسابات، لا بالمبادئ.

2. سقوط الأسطورة الأمريكية

لقد شيّدت الولايات المتحدة سرديتها الكبرى على ثلاثية براقة: الحرية، والديمقراطية، والحلم الأمريكي.

لكن هذه الثلاثية لم تكن سوى واجهة أيديولوجية لسلطة مادية وعنصرية مقنعة.

لقد خاضت الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1776 حتى 2025 أكثر من 20 حربا كبرى، وحوالي 100 تدخل عسكري أو عملية محدودة حول العالم.

وأصبحت القوة العسكرية الأكثر نشاطا عالميا منذ الحرب العالمية الثانية.

وتشير التقديرات إلى أن المجموع التقريبي للضحايا البشرية المرتبطة بالسياسات الأمريكية بلغ حوالي 14–16 مليون إنسان على الأقل.

ولا يشمل ذلك الجرائم الكبرى التي ارتكبتها في تاريخها، مثل إبادة السكان الأصليين أو تجارة العبيد، التي قتلت أكثر من مئة مليون إنسان.

لم تكن هذه الحروب دفاعا عن قيم إنسانية، بل عن الأسواق، والنظام المالي، ونمط الاستهلاك.

ترامب، بهذا المعنى، لم يأتِ ليشوّه صورة أمريكا، بل ليكشف حقيقتها المستترة.

إنه الوجه الصريح لما كان الآخرون يخفونه وراء ابتسامات الدبلوماسية.

هو مرآة للحداثة الأمريكية حين تخلع أقنعتها، وتواجه ذاتها بلا تجميل.

3. الحداثة في لحظة ارتدادها على ذاتها

حين تتحول المادة إلى غاية بحد ذاتها، تنقلب الحداثة ضد نفسها.

وما تعيشه المجتمعات الغربية عموما، والمجتمع الأمريكي خصوصا، هو لحظة ارتداد: الحداثة التي وعدت بتحرير الإنسان من الأسطورة والدين، خلقت أسطورتها الخاصة – أسطورة السوق والعقل الأداتي.

والإنسان الذي تحرّر من السلطة السياسية أُخضع لسلطة الصورة ورأس المال والإعلام.

إن الاحتجاجات الواسعة التي يشهدها الغرب الاستعماري، والأمريكي خصوصا، ليست مجرد رد فعل على سياسات اقتصادية  أو عنصرية فحسب، بل صرخة ضد الفراغ الوجودي الذي أجّجه نظام الحداثة المادية العنصري.

فكلما ازداد الثراء، ازداد الفقر في المعنى.

وكلما نمت القوة، تقلّصت القدرة على إدراك العدالة.

4. العنصرية كبنية تأسيسية للحداثة الغربية والأمريكية

العنصرية ليست انحرافا أخلاقيا في التاريخ الغربي والأمريكي، بل هي جوهر مشروعه الحداثي منذ بدايته.

تفوق الجنس الأبيض وإبادة السكان الأصليين، واستعباد الأفارقة، وتحويل الآخر إلى “موضوع للاستثمار أو السيطرة” هي الركائز الأولى التي قامت عليها “أمريكا الحديثة”.

وما تزال هذه البنية تعمل حتى اليوم في أشكال جديدة: من تبرير إبادة الشعب الفلسطيني عموما، وفي غزة خصوصا، باسم الأمن، إلى تحويل العالم العربي والإسلامي إلى مجال للابتزاز السياسي والاقتصادي والمالي باسم “الديمقراطية” و“الاستقرار”.

وهكذا تغدو العنصرية الوجه الخفي للحداثة المادية حين تتجسّد في صورة “حضارة” لا ترى في الآخر غير الأبيض سوى مادة للاستغلال.

5. مفارقة ترامب: تغوّل الخارج وانكشاف الداخل

ترامب الذي يتغوّل على قطاع غزة، ويسلح ويمول الإبادة، ويتعامل مع العالم العربي والإسلامي وجنوب العالم بعقلية السيد الاستعماري، هو نفسه من أطلق العنان في الداخل الأمريكي لأبشع أشكال الانقسام والعنصرية.

لقد أعاد تعريف “الآخر” داخل مجتمعه كما يفعل خارجه: من ليس معنا فهو ضدّنا.

من تابع خطابه أمام الكنيست وفي شرم الشيخ في 13/10/2025، وملاحظاته المتكررة عن الثراء والأثرياء، وتفاخره بتقديم أحدث الأسلحة التدميرية لإسرائيل، والإشادة بكفاءة استخدامها في قتل الأطفال والمدنيين الفلسطينيين، وإعلانه في الوقت ذاته عن السلام الإبراهيمي و“بزوغ فجر تاريخي جديد”، يلحظ الدرك الأخلاقي والفكري الذي بلغته الحداثة الأمريكية المادية العنصرية.

هنا تتكشف القسوة المطلقة للسلطة المادية، حيث يصبح التفاخر بالدم أداة لإضفاء الهيبة على القوة، ويُستبدل الضمير الأخلاقي بالربح والسيطرة، لتتحول السياسة الخارجية إلى استعراض للقوة والعنف باسم “التقدم والتاريخ الجديد”.

المفارقة أن هذا الخطاب الذي يُمارَس على العالم بحجّة التفوق، يعود ليقسّم الداخل ذاته.

كما يُخضِع الخارج بالسلاح، يُخضِع الداخل بالخوف، وكما يبرّر الإبادة ضد الفلسطينيين باسم الأمن، يبرّر القمع ضد المتظاهرين والمعارضين باسم النظام.

من يراهن على ترامب بوصفه تعبيرا عن “القوة الأمريكية”، يتجاهل أن هذه القوة ذاتها تُدمّر نسيج المجتمع الأمريكي من الداخل.

فالتغوّل على العالم هو الوجه الآخر لانهيار المعنى في الداخل، وكلاهما يصدر عن منطق واحد: منطق الهيمنة الذي فقد أي أساس أخلاقي.

وغزة، بما تمثله من مقاومة أخلاقية وروحية، تكشف هذا العجز العميق في النموذج الأمريكي، إذ تعيد إلى الوعي الإنساني معنى العدالة حين غاب، وتذكّر بأن القوة التي لا تتغذّى من القيم تتحول إلى وحش يلتهم صاحبه أيضا.

6. نهاية الأسطورة وبداية السؤال

يدلل التاريخ الإنساني المدون على أن الحضارات ما قبل عصر الحداثة الغربية المادية العنصرية كانت قادرة على قتل جماعي أحيانا (المغول)، لكن تأثيرها كان محليا وزمنيا محدودا.

أما الحضارة الغربية الحديثة، فقد أحدثت خسائر بشرية هائلة، واستغلالا طويل الأمد، وتأثيرا عالميا على الثقافة والسياسة والاقتصاد، مع اعتماد منهجي على العنصرية لتبرير سيطرتها على شعوب أخرى.

يفوق ذلك بكثير أي حضارة غير غربية ما قبل الحداثة في تاريخ البشرية.

هل بلغ عصر الحداثة المادية العنصرية الغربية عموما، والأمريكية خصوصا، منتهاه؟

ربما لم يسقط بعد، لكنه بدأ يرى صورته الحقيقية في المرآة.

المجتمع الأمريكي الذي يتظاهر غدا ليس مجتمعا بلا وعي، بل هو ضحية بدأت تدرك استلابها.

والخارج الذي يئنّ من العدوان الأمريكي ليس مجرد “آخر”، بل شاهد على سقوط النموذج الذي أراد فرض ذاته كقدر تاريخي.

إن سقوط ترامب أو صعوده لا يغيّر جوهر الأزمة، لأن ترامب هو عَرَض لحضارة فقدت توازنها بين العقل والمادة، بين التقنية والقيمة، وبين الإنسان والسوق.

وإذا كان بعض المرتعشين في فلسطين والعالم العربي والإسلامي ما زالوا يراهنون على “الرجل القوي” الذي قد يمنحهم مكانا في ظل القوة الأمريكية، فإنهم في الحقيقة يراهنون على جدار يتصدّع من الداخل.

لقد آن للعالم أن يرى المفارقة:

القوة التي تقتل في غزة هي نفسها التي تخنق الإنسان من باريس إلى لندن، ومن روما إلى برلين، وأمستردام وبروكسل واستوكهولم، ومن نيويورك وسان فرانسيسكو وشيكاغو إلى أتلانتا، وسائر أنحاء الولايات المتحدة.

الحضارة التي ترفع شعار الحرية تمارس عبوديتها الحديثة بأدوات رقمية وشعارات لامعة.

من هنا تبدأ الحقيقة: لا خلاص يأتي من داخل الحداثة المادية العنصرية، لأنها بلغت نهايتها الأخلاقية.

وما بعد هذه النهاية لن يكون إلا عودة الوعي إلى الإنسان – الإنسان الذي يملك المعنى لا السلاح، والكرامة لا المنفعة.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى