أقلام وأراء

د. غانية ملحيس: من الجمعية العامة إلى ميدان الحرب: قرار ترامب وإعلان الأصيل حضوره

د. غانية ملحيس 31-8-2025: من الجمعية العامة إلى ميدان الحرب: قرار ترامب وإعلان الأصيل حضوره

قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأخير بمنع الوفد الفلسطيني من حضور اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة ليس مجرد حدث بروتوكولي. بل يمثل بداية مرحلة جديدة في إدارة الصراع.

القرار الأمريكي بمنع الرئيس الفلسطيني ومعه ثمانين شخصية وطنية من الحصول على تأشيرات لدخول نيويورك والمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في ايلول / سبتمبر/ المقبل يشكل إعلانا صريحا عن تحول نوعي: من مرحلة كانت فيها إسرائيل وكيلا منفذا لمشروع الغرب الاستعماري، إلى مرحلة تتولى فيها الولايات المتحدة قيادة الحرب السياسية والدبلوماسية والإعلامية مباشرة، إلى جانب دعمها العسكري واللوجستي.

يكشف هذا القرار بوضوح أن مرحلة “التواري خلف الوساطة المنحازة” أو “الوكالة الإسرائيلية” آخذة في الأفول، وأن واشنطن لم تعد تكتفي بإدارة الحرب عبر وكلائها، بل اضطرت لخوضها بنفسها في مختلف الميادين: العسكرية، والسياسية، والدبلوماسية، والإعلامية.

أولا: الخلفية التاريخية لصناعة الوكلاء الغربيين

منذ قرون، وخصوصا بعد الحرب العالمية الأولى، اعتمدت السياسة الغربية على فكرة صناعة وكلاء محليين لخوض الحروب نيابة عنها، لتجنب الانخراط المباشر في ميادين الصراع الساخنة.

تجسدت هذه السياسة في استخدام الحركة الصهيونية كأداة تنفيذية ضمن المشروع الإمبريالي الأوروبي الساعي للاستيلاء على المشرق العربي والإسلامي، مع إعادة تشكيل مكوناته الأصلية – العربية والتركية والكردية والفارسية – وتمهيد الطريق لاستبدال فلسطين، الواقعة في مركزها الجغرافي والديموغرافي والحضاري، بكيان استيطاني يهودي غربي هجين.

الفشل الذي واجهه نابليون في جذب اليهود لاستيطان فلسطين والمشاركة في مشروعه الاستعماري، إلى جانب التنافس البريطاني، كشف للغرب ضرورة تحويل التنافس بين القوى المتنفذة إلى تعاون، مع التركيز على فلسطين كمركز للمشروع الاستعماري. في هذا الإطار، تحالفت الإمبريالية اليهودية مع الإمبرياليات الأوروبية لبناء شراكة استراتيجية بين مشروع يهودي خاص ومشروع إمبريالي عام للهيمنة على المنطقة والعالم.

وبذلك أصبح تأسيس الحركة الصهيونية كأداة وكيلة نتاجا وظيفيا طبيعيا لهذا التعاون الاستعماري، ومقدمة لمراحل تنفيذ اتفاقيات سايكس-بيكو ووعد بلفور، التي رسخت السيطرة الغربية على فلسطين وعموم المنطقة.

وتنامت الحاجة إلى الوكلاء إثر الحرب العالمية الثانية وانتهاء حقبة الاستعمار المباشر، ودخول النظام الدولي عصر الثنائية القطبية وبداية الحرب الباردة. وزادت الحاجة إلى الوكلاء بعد انهيار الثنائية واستعادة الأحادية القطبية في مطلع تسعينيات القرن الماضي، لإدامة الهيمنة العالمية لنظام الحداثة الغربي المادي العنصري.

ثانيا: إعادة تعريف الدور الأمريكي – من “الوسيط المنحاز” إلى “الأصيل المقرر”

لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية عبر تاريخها وسيطا منحازا كما ظل الخطاب الفلسطيني والعربي يروج لعقود، بل كانت شريكا مؤسسا للمشروع الصهيوني وراعية لنشأته وتوسعه، وداعمة لتفوقه العسكري وتغوله على محيطه العربي والإسلامي. يتضح هذا الواقع منذ مطلع القرن العشرين، وبلغ ذروته في صفقة القرن 2020، وأصبح من المستحيل إنكاره في القرار الأخير الذي اتخذه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 29 آب/ أغسطس 2025 بمنع الرئيس الفلسطيني، المطواع، و80 شخصية وطنية من حضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول /سبتمبر القادم. هذا القرار يمثل إعلانا رسميا عن تولي واشنطن قيادة الصراع مباشرة، بعد فشل الوكيل الإسرائيلي في حسم المعركة ميدانيا.

وقد سبق للرئيس السابق جو بايدن أن أوضح قبل عقود بأن “إسرائيل أفضل استثمار أمريكي”، وأنه لو لم توجد إسرائيل لوجب على الولايات المتحدة خلقها. هذا لا يترك مجالا للشك في أن إسرائيل ليست شريكا مستقلا، بل أداة وظيفية في الاستراتيجية الأمريكية العالمية، تنفذ السياسات التي تحددها واشنطن. ووصف المستشار الألماني إسرائيل قبل بضعة أشهر بأنها تقوم بـ ” لعمل القذر نيابة عن الغرب”، ما يبرز طبيعة العلاقة الوظيفية الموكلة لإسرائيل ويهودها، الذين تخلص منهم الغرب نفسه (بالتواطؤ بين الإمبرياليات الأوروبية والإمبريالية اليهودية) بالإبادة والتهجير من أوروبا، وأعاد توطينهم في فلسطين، ليس لإنقاذهم من العنصرية كما يُروج، وإنما لاستغلالهم في مشروعه الإمبريالي للسيطرة على المشرق. وعليه، فإسرائيل ليست مصدر القرار، بل منفذ للسياسات الإمبريالية الغربية الصهيونية في المنطقة، فيما الولايات المتحدة هي التي تضطلع بدور القيادة وتحدد أهداف الحرب ومساراتها.

وبالتالي، يتضح أن أي رهان فلسطيني أو عربي على الوسيط الأمريكي لحل الصراع العربي-الصهيوني وجوهره الفلسطيني-الإسرائيلي هو وهم كبير. فلم تكن أمريكا مجرد وسيط في اتفاقيات كامب ديفيد الأولى (1979)، ولا في اتفاقيات أوسلو (1993) ووادي عربة (1994)، ولا في الاتفاقيات الإبراهيمية (2020) والمحاولات الجارية لتوسيعها عربيا وإسلاميا. بل أصبحت الأصيل الذي يقود الصراع ويوجه الحروب لحسمه في جميع الميادين: العسكرية، والسياسية، والدبلوماسية، والإعلامية، والاقتصادية.

ثالثا: الانتقال من الحروب بالوكالة إلى الحروب بالأصلاء

تاريخيا، اعتمد الغرب عموما، والولايات المتحدة الأمريكية خصوصا، على الحروب بالوكالة لتحقيق أهدافهم الاستراتيجية بأقل تكلفة ممكنة: بشريا، سياسيا، اقتصاديا، قانونيا وأخلاقيا، متجنبين الانخراط المباشر في ميادين الصراع الساخنة.

في المنطقة العربية، لعبت إسرائيل هذا الدور. وفي أوكرانيا تم توظيفها كوكيل لمواجهة روسيا. كما تتأهب تايوان لتأدية دور مماثل في مواجهة الصين.

غير أن صمود غزة واستعصاؤها على الإبادة والاستسلام كشف محدودية قدرة الوكيل على تحقيق أهداف الأصيل. لم تعد إسرائيل قادرة على حسم الصراع سياسيا أو عسكريا بمفردها، ما يدل على أن الاعتماد عليها قد بلغ حدوده القصوى.

هذا الواقع دفع الولايات المتحدة إلى خوض الحرب مباشرة، ليس فقط بالدعم العسكري والاستخباراتي واللوجستي والإعلامي، والتحكم في الرواية العالمية، ومنع مؤسسات النظام الدولي التي أنشأها الغرب نفسه، مثل مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، من القيام بواجباتها المهنية، بل أيضا بالتدخل المباشر لحسم الصراع في الميدان السياسي والدبلوماسي لاستكمال أهدافها.

بهذا التحول، يتضح أن الغرب، وخصوصا الولايات المتحدة، لم يعد يعتمد على الوكيل لتحقيق مصالحه، بل أصبح الأصيل الذي يتولى قيادة الحروب بنفسه بعد فشل الوكلاء في الحسم، سواء في أوكرانيا أو فلسطين على السواء.

رابعا: قرار ترامب نموذجا للتحول في القيادة الأمريكية للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي

قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمنع الرئيس الفلسطيني و80 شخصية فلسطينية من حضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر المقبل لم يكن مجرد إجراء دبلوماسي عادي أو عقوبة رمزية. بل يمثل لحظة كاشفة للتحول الاستراتيجي في إدارة الحرب الأمريكية-الإسرائيلية مباشرة، سواء في قطاع غزة أو على امتداد فلسطين الانتدابية وجوارها العربي.

يوضح هذا القرار أن الصوت الفلسطيني لم يعد مسموحا له حتى على المستوى الدولي، وأن الولايات المتحدة هي التي تحدد مسارات الحرب وتفرض شروطها.

كما يكشف القرار أن أي رهانات سابقة على قدرة إسرائيل كوكيل على حسم المعركة كانت وهمية، وأن المرحلة الجديدة تتطلب من الفلسطينيين والعرب إعادة تقييم استراتيجياتهم والتعامل مباشرة مع الأصيل الأمريكي، وليس فقط مع الوكيل الإسرائيلي.

من خلال هذا المنع، يتجلى الدور الأمريكي المباشر في جميع الميادين: عسكريا، سياسيا، دبلوماسيا وإعلاميا، ما يجعل أي محاولة لإقناع الولايات المتحدة بالاعتدال أو الوساطة رهانا على من يقود الحرب بنفسه، أي على الأصيل.

خامسا: أزمة الرهان الفلسطيني والعربي على الولايات المتحدة الأمريكية والوعود الغربية

قرار الولايات المتحدة بمنع الرئيس محمود عباس من دخول نيويورك للمشاركة في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة يمثل محاولة لتقويض شرعية منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، عبر تقييد حضورها الدولي.

منظمة التحرير الفلسطينية معترف بها دوليا منذ عام 1974 كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة. وعندما تمنع أمريكا قيادات المنظمة من المشاركة في أعمال الأمم المتحدة، فهي تتجاوز القانون الدولي والشرعية الأممية، وتحاول فرض هيمنة النظام الاستعماري الغربي الصهيوني على المجتمع الدولي.

يعيد هذا القرار إلى الأذهان منع إدارة رونالد ريغان، عام 1988، ياسر عرفات من دخول أمريكا للمشاركة في اجتماعات الأمم المتحدة، انتقاما وردا على إعلان الدولة الفلسطينية وتصاعد الانتفاضة الأولى في ذلك الوقت. ونتيجة لذلك، نقلت الأمم المتحدة اجتماعها إلى جنيف.

يبدو قرار منع الرئيس محمود عباس إجراء عقابيا ضد أي مسعى للاعتراف بدولة فلسطينية أو حشد الدعم الدولي، تماما كما حدث مع الشهيد ياسر عرفات بعد إعلان الاستقلال عام 1988.

لكن السؤال الأساسي الذي يتبادر إلى الذهن: هل كانت هذه الخطوة خوفا من اعتراف بعض دول العالم بالدولة الفلسطينية؟
وهل كانت تلك الدول فعليا تنوي الاعتراف بها وإدراج إقامتها على جدول أعمال المجتمع الدولي؟

يكشف القرار، أيضا، العطب البنيوي الفلسطيني والعربي، المتمثل في استمرار بعض القيادات والنخب بالرهان على العدو كوسيط أو قوة يمكن الضغط عليها لتحقيق تسويات أو حماية.

الحقيقة الواضحة اليوم هي أن واشنطن شريك كامل في الحرب. تخوضها عسكريا وتقودها دبلوماسيا وسياسيا واقتصاديا وإعلاميا، بينما بعض القيادات الفلسطينية والعربية ما تزال تراهن على إمكانية تعديل الموقف الأمريكي أو الضغط عليه. أي رهان على “إقناع أمريكا بالاعتدال” هو رهان على الجلاد أن يخفف من حدة سكينه.

لم يعد السؤال اليوم فيما إذا كان عباس سيتحدث في الأمم المتحدة فحسب، بل ما إذا كان المجتمع الدولي مستعدا للامتثال للإملاءات الأمريكية في محاولتها عرقلة أي مسار قد يسلكه الفلسطينيون لبلوغ حقوقهم.
القرار الأمريكي المباشر، وإعلانه قيادة الحرب بنفسه، وضع الفلسطينيين والعرب والعالم أمام واقع جديد: الأصيل يقود الصراع، والوكيل عاجز عن الحسم، والنظام الدولي بات إيلا للسقوط.

سادسا: ما المطلوب فلسطينيا وعربيا

لم يعد هناك مجال للمراوغة الفلسطينية أو العربية، كما يعكسه الموقف الفلسطيني والعربي الباهت الذي يكتفي باستنكار قرار منع الفلسطينيين من ممارسة حقهم المشروع وفق القانون الدولي، أو بالاستمرار في الرهان على وسطاء منحازين.

هذه الحقيقة المريرة ليست دعوة للاستسلام، بل فرصة لإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني على أسس القوة والوعي والاستقلالية.

على الفلسطينيين إدراك أن أي خطوة تعتمد على الخارج بلا أدوات وطنية حقيقية ما هي إلا وهم، وأن استعادة المبادرة لا تتحقق إلا عبر تعبئة الشعب، وتوحيد مكوناته خلف برنامج تحرري جامع، تنظيم القوة، وربط المقاومة بالقدرة الفلسطينية والعربية والإقليمية والدولية على الحماية.

سابعا: المطالبة الفورية بنقل اجتماع الجمعية العامة ونقل مقر الأمم المتحدة من نيويورك

إن أخطر ما يكشفه القرار الأمريكي هو اختطاف الأمم المتحدة نفسها من قبل واشنطن، ومن هنا تبرز الحاجة الملحة لطرح فكرة نقل اجتماع الجمعية العامة إلى جنيف. ونقل مقر الأمم المتحدة من نيويورك إلى عاصمة دولية محايدة تلتزم بالقانون الدولي.

ثامنا: آن الأوان للتعامل مع واشنطن كطرف صراع، لا كوسيط

بقدر ما يعمق القرار الأمريكي الأزمة، فإنه يفتح الباب لمشروع فلسطيني وعربي تحرري جديد يدار بالأصالة وليس بالوكالة.

الرهان اليوم يجب أن يكون أولا على الذات الفلسطينية والعربية، لا على من يمسك بيده سكين الحرب. مواجهة الأصيل تتطلب صوتا وقرارا وشجاعة، ليصبح الشعب الفلسطيني والشعوب العربية فاعلين أساسيين في صياغة مستقبلهم، وتحديد حدود أعدائهم، واستعادة الحق والكرامة إلى قلب المعركة.

تكشف هذه الأزمة المستجدة عن ضرورة إعادة بناء خطاب فلسطيني جديد، وأدوات نضالية أكثر تنوعا وفاعلية، لا تعتمد على وسطاء منحازين أو وكلاء عاجزين، بل على مواجهة الأصلاء مباشرة. ويجب ترتيب الأولويات، باستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، واستقلالية القرار الوطني، وتحويل القوة الشعبية الفلسطينية في المجالات كافة إلى عامل حاسم في الصراع.
فذلك هو الأساس في استنهاض الموقف العربي الشعبي والرسمي.

كما يجب على الفلسطينيين والعرب إعادة النظر في الحلفاء والأعداء، وفهم أن واشنطن ليست وسيطا يمكن الضغط عليه، بل جزء من آلة الحرب نفسها. وبناء أدوات مواجهة حقيقية ومستقلة يستند إلى القوة الشعبية، وربط الصراع الفلسطيني بالقدرة العربية والإقليمية على الحماية والدعم. والتحالف مع قوى التحرر في جنوب العالم، ومع القوى العالمية المناهضة للعنصرية والداعمة للحقوق المتساوية للشعوب في الحياة والحرية والعدالة وتقرير المصير.

التحدي اليوم ليس استرضاء الأصيل أو التفاوض مع الوكيل، بل التعامل مع الواقع الجديد الذي يقوده الأصلاء، والعمل على تطوير استراتيجية فلسطينية وعربية وعالمية مقاومة وفاعلة. قادرة على تحويل الإرادة التحررية إلى قوة حقيقية لاستعادة المبادرة. والتأسيس للنصر.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى