أقلام وأراء

د. غانية ملحيس: منطق الأسياد: حين يهدد الاستعمار العالم

د. غانية ملحيس 13-9-2025: منطق الأسياد: حين يهدد الاستعمار العالم

حين يفرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تابعه من سلاسل النفوذ، ويعلن رئيس وزراء الكيان الصهيوني، بالتزامن مع خطاب ممثله في مجلس الامن الدولي – بوقاحة مدهشة، أنهم «أسياد الأرض» وأن يدهم «ستطال كل من لا يمتثل لذلك في أي مكان من العالم»، فإننا لا نواجه تصريحا عابرا في سجالات السياسة، بل خطابا يكشف جوهر المشروع الاستعماري الصهيوني الإحلالي العنصري برمته. هذا الخطاب يعيد إنتاج لغة قرون مضت، عندما أعلن العرق الأبيض أنه السيد وما عداه ليسوا سوى بشر أدني مرتبة وعليهم الامتثال والطاعة. واشتُقّ الحقّ من ميزان السيف لا من ميزان العدالة والحقّ الإنساني.

خطاب معاليه أدوميم: إعلان سيادة أم استئصال حقّ

خطاب نتنياهو في مستوطنة معاليه أدوميم في سياق توقيع خطة E1 يوم الخميس 11/9/2025 “لن تكون هناك دولة فلسطينية” وأن “هذا المكان لنا”، وخطاب دانون أنهم سيواصلون العمل ولا حصانة لحماس في أي مكان من العالم، وخطاب ممثلة الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي، الذي يوفر حصانة لسلوك إسرائيل، ليس زلة لسان، بل إعلان أيديولوجي متكامل: رؤية للعالم تنفي الآخر، وتختزل الإنسانية في معادلة السيد الأبيض والأغيار العبيد.

عندما تُنكَسُ المرجعيات: من «لن تكون دولة فلسطينية» إلى تهديد الإنسانية

وما يجعل الأمر أشد خطورة أنّه يأتي في زمن يجري فيه الانقلاب على «النظام الدولي» و«القانون» و«حقوق الإنسان»، الذي بُني بعد الحرب العالمية الثانية على أنقاض الفاشية والنازية والاستعمار الكلاسيكي.
لنجد اليوم أنفسنا أمام خطاب يبعث من جديد ذات المنطق الاستعماري المادي العنصري للعرق الأبيض في القرن السادس عشر: احتكار الأرض، وتقديس القوة، وإبادة كل من يرفض الامتثال.

إنّه ليس تهديدا لفلسطين وحدها، ولا إنذارا لشعب يباد منذ أكثر من قرن وتتواصل ملاحقته في قطاع غزة والضفة الغربية وسائر فلسطين الانتدابية وجوارها العربي منذ 707 يوما. بل هو تهديد للعالم بأسره، بدءا بشعوب المنطقة: عربا فرسا وتركا وأكراد، وصولا إلى باكستان وسائر دول الجنوب.

إذا صمتت الشعوب اليوم عن إعلان «الأسياد»، فلن يكون غدا مكانٌ في العالم لغير من يملك السيف والمال والنفوذ.
هنا يكمن جوهر الاختبار الأخلاقي والسياسي لعصرنا: هل يسمح لخطاب الاستعمار الغربي العنصري أن يطل برأسه من جديد، ويشرعن نفسه بوصفه «منطقًا دوليًا» مقبولًا؟البعد الاستعماري – التاريخي

عبارة «نحن أسياد الأرض» ليست جديدة، بل امتداد مباشر للمنطق الاستعماري الذي حكم علاقة الغرب بالشعوب المستعمَرة، وما يزال، على مدى ستة قرون. هذا المنطق لم يرَ في الأرض ملكية مشتركة للإنسانية، بل غنيمة تحتكر بالقوة، وتُعاد صياغة خرائطها وفق إرادة الأقوى.

المشروع الصهيوني نفسه، كما المشاريع الأمريكية والكندية والأسترالية والنيوزيلاندية، تأسّس على هذا التصور: «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» لم يكن سوى صياغة مزيفة تخفي وراءها جوهر الاستيطان الإحلالي: إبادة واجتثاث السكان الأصليين جغرافيا وديموغرافيا وحضاريا، وإحلال غرباء مكانهم باسم «الوعد» أو «الحق التاريخي».

إنّ إعلان «السيادة المطلقة» اليوم يعيد تذكيرنا بأن الاستعمار لم ينته، بل أعاد إنتاج نفسه في صورة جديدة أكثر فجاجة وعقلا أداتيا لا رادع له، ولا يرى في الأغيار سوى بشر زائدين عن الحاجة يتوجب التخلص من غالبيتهم وإخضاع من يتبقى لسطوته. وإذا كان الاستعمار الأوروبي الكلاسيكي قد سقط رسميا في منتصف القرن العشرين، فإن الكيان الصهيوني يمثل استمرارا حيا له، بنموذجه الإحلالي الأول الأكثر فجاجة: احتلال الأرض وتغيير معالمها وإعادة تسميتها، إبادة السكان وتهجيرهم، مصادرة التاريخ، وإلغاء مقومات الوجود الفلسطيني.

إنّ أخطر ما في هذه اللغة أنّها لا تكتفي بنفي وجود الشعب الفلسطيني والتنكر لحقوقه، بل تعلن تحدّيها للعالم بأسره، مؤكدة أن منطق القوة وحده هو الذي يشرع الوجود والسيادة.

البعد الفلسفي – الأخلاقي

في إعلان «نحن أسياد الأرض» يتجلى جوهر فلسفة تقوم على ادعاء مسياني باحتكار الخير وفريضة مواجهة الشر، وتصنيف البشرية بين أخيار بيض يمتلكون الحق المطلق في الحياة وآخرون أشرار يتم تجريدهم من إنسانيتهم. فالخطاب هنا لا يتحدث عن علاقة بين كيانات متساوية، بل عن علاقة بين أجناس متفاوتة: بعضهم بشر بيض، أسياد، والآخرون وحوش بشرية، يباد من يتمرد منهم. من يملك القوة يملك الحق، ومن لا يمتثل يُمحى.

تذكّرنا هذه اللغة بأشد لحظات التاريخ ظلاما، حين صيغت حضارة الحداثة المادية الغربية العنصرية على قاعدة التفوق العرقي والاستعباد وإبادة الشعوب الأصيلة. الأخطر أنّ مثل هذا الخطاب يحاول تطبيع فكرة أنّ العدالة ليست قيمة كونية، بل امتياز يمنحه الأقوى لمن يشاء.

وبهذا المعنى، فإن الرسالة لا تهدد الشعب الفلسطيني فحسب، بل تُعلن سقوط المرجعية الأخلاقية التي قامت عليها البشرية الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية.
فما قيمة «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» إذا كان يحقّ لطرف أن يقرّر مصير الآخرين بوصفه «سيد الأرض»؟
وما معنى «العدالة» إذا تحوّلت إلى منحة من المستعمر؟إنّ مواجهة هذا المنطق ليست شأنا سياسيا فقط، بل معركة فكرية وأخلاقية تحدد إن كنّا ما نزال نؤمن بإنسانية مشتركة، أم أننا نقبل الانزلاق مجددا إلى عالم يتحدد فيه الإنسان بمدى قوته وقدرته على الإخضاع.

البعد الدولي- السياسي

لا يمكن قراءة خطاب «نحن أسياد الأرض» بمعزل عن السياق الدولي الذي يُطلق فيه. فالمقصود ليس فقط تكريس الهيمنة على الشعب الفلسطيني، بل توجيه رسالة صريحة إلى العالم بأسره:

أنّ القانون الدولي، ومبادئ الأمم المتحدة، وأعراف العلاقات بين الدول، ليست سوى أوراق بلا قيمة أمام إرادة القوة التدميرية للعقل الأداتي الذي يرى حقا مطلقا في فرض إرادته على العالم. ويضفي عليها قداسة التفويض الإلهي: فدونالد ترامب مبعوث العناية الإلهية، ونتنياهو ممثل شعب الله المختار ومنفذ وعده.
هنا يتبدى منطق خطير: تحويل مجلس الأمن الدولي، الذي يفترض أن يكون ساحة لحماية حقوق الشعوب، إلى منصة لابتزازها وتهديدها علنا. بهذا المعنى، فإن الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني لا يكتفون بانتهاك القرارات الأممية على الأرض، بل يسعون إلى إعادة تعريف وظيفة منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومؤسسات العدالة الدولية ذاتها، مثل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، من مؤسسات لضبط القوة إلى مسارح لاستعراضها.هذا المسار، إذا ما قُبل بالصمت، يعني أنّ النظام العالمي برمته يدخل مرحلة تآكل داخلي، حيث تصبح السيادة مرادفا للقوة العسكرية والمالية والاقتصادية فقط.

إنّ ما يُطرح أمامنا ليس صراعا محليا أو إقليميا، بل مسألة مصيرية تخص مستقبل العلاقات الدولية: هل سيبقى للعالم قانون مشترك ومرجعية أخلاقية، أم أن منطق «الأسياد» سيتحول إلى القاعدة الحاكمة، ليُشرعن الاستعمار مجددا كأفق عالمي؟

البعد الوجودي

خلف خطاب «الأسياد» يكمن سؤال أعمق يتعلق بمعنى الوجود ذاته. حين يعلن طرف ما أنّه المالك المطلق للأرض والحق في تقرير مصير الآخرين، فهو لا يسطو على الجغرافيا وحدها، بل على كرامة الإنسان وحقه في أن يكون. الفلسطيني والعربي وغير الأبيض في هذه المعادلة يُجرد من كيانه: لا ينظر إليه كطفل أو أم أو شيخ، بل كعائق ينبغي إزالته أو إخضاعه. وهنا تكمن فداحة الخطر: تحويل البشر إلى «ظلال» لا يحق لهم سوى الصمت أو الفناء.

إنّ هذا المنطق لا يهدّد الفلسطيني والعربي والمسلم فقط، بل يوجّه رسالة كونية: أن الضعفاء جميعا، في أي مكان من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، بل وداخل الدول الغربية نفسها، يمكن أن يُحرموا من حقهم في الوجود إذا قرر «السيد القوي» أنّهم لا يستحقونه.

في المقابل، فإن جوهر المقاومة – بأشكالها كافة، من الفكر إلى الفعل – هو رفض هذا النفي، وإعادة تعريف الوجود بوصفه فعلا إنسانيا مشتركا لا يُقاس بالقوة المادية وحدها.

بهذا المعنى، يصبح الفلسطيني – ومن خلفه كل المقهورين على امتداد العالم – شاهدا على معركة وجودية كبرى: إما أن يُفرض منطق «الأسياد» على العالم، وإما أن يُعاد الاعتبار للإنسان كقيمة عليا تتجاوز منطق الاستعباد والاستعلاء.

الاختبار الأخير للعالم: الأسياد أم الإنسانية

إنّ خطاب «نحن أسياد الأرض» ليس مجرد تهديد سياسي عابر، بل لحظة كاشفة تختصر جوهر الاستعمار في عصرنا: منطق القوة فوق الحق، والاستعلاء فوق الإنسانية، والهيمنة فوق القانون. في هذا الخطاب يتجلّى التقاء التاريخ الاستعماري بالممارسة الإمبريالية الصهيونية العنصرية، وينكشف عجز النظام الدولي عن حماية القيم التي ادّعى أنّه تأسس عليها.

لكن الأهم من ذلك أنّ هذا الخطاب يضع العالم أمام مفترق طرق: إمّا أن يُقبل منطق «الأسياد» كقاعدة جديدة للعلاقات البشرية، فننحدر جميعًا نحو فوضى تستباح فيها الأرض والإنسانية معًا، أو أن يُواجه بوعي نقدي وموقف أخلاقي يعيد الاعتبار لفكرة العدالة بوصفها قيمة كونية لا تقبل المساومة.

وإذا كان قادة تظام الحداثة الغربي المادي العنصري المهيمن يصرّون على إعلان سيادتهم المطلقة، فإنّ صوت الطفلة الفلسطينية نسرين التي قالت: «أنا شو ذنبي طفلة أتوجع»، يمثل النقيض الأعمق لهذا الادعاء. فبراءة الأطفال وحق الشعوب في الحياة لا يمكن أن تمحى بسطوة السلاح.

إنها معركة تتجاوز فلسطين والعالم العربي والمنطقة لتشمل مصير الإنسانية بأسره: إمّا أن يبقى الإنسان سيدًا لكرامته، أو أن نترك الأرض لمنطق الأسياد الزائفين وقانون الغاب.

المعركة اليوم ليست للنصر أو الهزيمة على خريطة، بل لاستعادة الاعتراف الإنساني كمرجعية لا يقهرها السيف والمال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى