د. غانية ملحيس: حين تتسع الصورة: ما وراء “الألف مؤثر” معركة الوعي في زمن ما بعد الطوفان

د. غانية ملحيس 7-12-2025: حين تتسع الصورة: ما وراء “الألف مؤثر” معركة الوعي في زمن ما بعد الطوفان
من يقرأ مقالات يحيى بركات عموما – وبخاصة مقاله الأخير “المؤثرون الألف” – يلمس القدرة الفريدة للكاتب على التقاط الصور فكريا وبصريا، فيصحب القارئ في مشهد سينمائي مدهش، ويعرض حسا سياسيا لافتا: كيف ارتجف الاحتلال حين أفلتت الصورة من يده، وكيف استدعى جيشا من المؤثرين ورجال الدين لمحاولة إنقاذ رواية تتداعى أمام العالم.
يبرع يحيى عبر وصف سينمائي كثيف لحملة غير مسبوقة في تاريخ الدعاية الإسرائيلية، وربما في تاريخ الإعلام، ويجعل القارئ يرى بوضوح مشهد “جيش السرديات” وهو يهبط إلى فلسطين ليعيد إحكام القبضة على الوعي الأمريكي.
وكعادته في التقاط الصور الفنية المكتملة للمشاهد السياسية، يغري متابعيه، أمثالي ويستنفر الفكر والعقل والحواس معا، ويحفز على التمعن، والانخراط بالمشاركة بطبقات أخرى كي تتسع الرؤيا، فالمشهد كما يصوره بدقة، ليس حملة علاقات عامة فحسب، بل تجسيد لهزة عالمية أعمق أعادت تعريف موقع إسرائيل وفلسطين معا في الضمير الدولي.
أولا: الطوفان: اللحظة التي تغيّر فيها شكل العالم
يشير بركات إلى الصورة التي خرجت من قلب الدمار بوصفها اللحظة التي أسقطت الرواية الإسرائيلية. وهذا صحيح، لكنه جزء من قصة أوسع.
فما بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر ليس مجرد “انكشاف” بصري، بل هو تحوّل بنيوي عميق في فهم العالم لطبيعة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
1. نهاية أسطورة “الديمقراطية المحاصرة”
الطوفان فجّر مفارقة مركزية: الدولة التي ادّعت أنها الضحية الدائمة، لم تعد قادرة على تبرير قوتها الهائلة. ولا على إقناع العالم بأنها “تدافع” عن نفسها وهي تمارس إبادة جماعية غير مسبوقة في التاريخ قديمه وحديثه، وتستهدف محو الإنسان والمكان والتاريخ والذاكرة في قطاع غزة. ويدعمه نظام الحداثة الغربي المادي العنصري بكل قوته.
2. انتقال الفلسطيني من “موضوع للخبر” إلى “فاعل للتاريخ”
لأول مرة منذ أكثر من قرن: أصبح الفلسطيني هو من يفرض جدول السرد، ويحدد نقاط الاشتباك الرمزي، وبات العالم يتعامل معه بوصفه شعبا يغيّر المعادلات لا مجرد متلق للعنف.
هذه النقلة هي ما جعل الصورة التي يتحدث عنها يحيى بركات فعّالة ومربكة للمنظومة الإعلامية الغربية.
ثانيا: لماذا أمريكا تحديدا؟ البعد الذي لم يُقَل في قصة “الألف مؤثر”
يلفت بركات إلى أن الرعب الحقيقي لم يكن في غزة، بل في الولايات المتحدة الأمريكية. وهذه نقطة جوهرية تستحق توسعة: ما جرى في أمريكا لم يكن مجرد “تغيّر رأي”، بل تغيّرا جيليا في مواقف قطاعات واسعة في المجتمع.
1. انهيار الاحتكار الديني – السياسي لإسرائيل
الجيل الإنجيلي الجديد لا ينظر إلى إسرائيل بالمنظار نفسه الذي ساد خلال نصف قرن:
• 48 % من الإنجيليين الشباب أصبحوا ينتقدون إسرائيل علنا.
• ثلثهم يرفض الرواية الدينية التقليدية للصهيونية.
رغم أن حملة “الألف” تبدو مشهدا دعائيا، إلا أنها في جوهرها محاولة لإعادة ربط إسرائيل بالبنية الإنجيلية الأمريكية التي بدأت تتفكك.
ولا يقتصر الأمر على الإنجيليّين الأمريكيين، بل يطال اليهود الشباب الذين بدؤوا يعون حقيقة الصهيونية، ويرفضون التماهي بينها وبين اليهودية، ويتحررون من سيطرتها، ويجاهرون بإدانة الإبادة التي ترتكبها إسرائيل باسمهم ، وباتوا أكثر جرأة في التعبير عن دعم حق الشعب الفلسطيني في الحرية وتقرير المصير، ولعل أكبر دلالة على عمق التحول منح 33% من الناخبين اليهود في مركز تجمع اليهود الأكبر خارج فلسطين المحتلة، أصواتهم لزهران ممداني المهاجر المسلم المجاهر بإدانته لحرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، في انتخابات رئاسة بلدية نيويورك في 4/11/2025.
2. الجيل الرقمي لا يخضع لرقابة الكيانات التقليدية. الجامعات، الفنانون، النقابات، لم يكتفوا بالاحتجاج، بل شاركوا في إعادة تعريف المعيار الأخلاقي في المشهد الأمريكي. جيل z لا يشاهد التلفزيون، ولا يخاف من تهمة “معاداة السامية”، ولا يسمح للسلطة أن تحدد له معنى الظلم.
هذه البيئة هي ما جعل إسرائيل تستنفر مئات المؤثرين: إنها معركة على مستقبل الثقافة السياسية الأمريكية، وليس على قصة واحدة.
ثالثًا: ما وراء الصورة، التكنولوجيا بوصفها ساحة المعركة
أشار يحيى بركات إلى الوحدة 8200، لكن ما يحدث اليوم يتجاوز الحرب الرقمية التقليدية:
1. الذكاء الاصطناعي يدخل المعركة
ليس سرا أن بعض الشركات الإسرائيلية طوّرت مبكرًا أدوات رقمية متقدمة تُستخدم في الدعاية السياسية وإدارة الحملات وإنتاج محتوى مولّد لتعزيز سرديات محددة.
في المقابل، وللمرة الأولى، يواجهها جيل عالمي يمتلك أدوات مشابهة:
كشف الحسابات الوهمية، رصد التضليل، خلق محتوى مضاد لحظيا.
الذكاء الاصطناعي لم يعد حكرا على جهة واحدة، صار أداة متاحة أيضا لصانعي المحتوى المناهض للتضليل، وللجهات التي توثق الانتهاكات وتردّ على الحملات المضللة.
2. سقوط هيبة الإعلام التقليدي
بعد عام واحد من الحرب، سجّلت منصّات التواصل:
• تراجعًا بنسبة 60% في تأثير شبكات التلفزة الأمريكية على الرأي العام،
• مقابل ارتفاع غير مسبوق للمحتوى الشعبي غير المؤسسي.
هذه هي اللحظة التي فقد فيها “ظلّ” إسرائيل قدرته على التخويف، كما وصف يحيى بركات.
رابعا: البعد الفلسطيني الغائب:
مأزق السلطة والمقاومة في ظل احتلال استيطاني عنصري إحلالي يشكل إحدى النقاط المهمة، التي ألمح لها بركات ولم يتناولها بإسهاب لأنها ليست في محور مقاله، وعبر عنها قلقه، وهي البنية الفلسطينية الداخلية في معركة الوعي.
1. مشكلة “الممثل” في الرواية الدولية: في الوقت الذي تنتصر فيه الرواية الشعبية عالميا:
• تبقى السلطة الفلسطينية خارج المشهد، مرتبكة، مترددة، صامتة، محكومة بمعايير سياسية وإدارية تجعلها عاجزة عن ملامسة الرأي العام العالمي.
• يعمق الإرباك تجند بعض النخب الثقافية الفلسطينية والعربية في الاصطفاف الايديولوجي والسياسي لتبرير التخاذل بلوم الضحية في صراعها من اجل البقاء بذريعة هول الخسائر.
• بينما تظهر المقاومة المحاصرة من عدوها وذويها كفاعل يفرض سرديته أخلاقيا، حتى على من يختلفون معها عقائديا وسياسيا.
هذا التناقض يخلق فراغا تمثيليا في الخطاب السياسي الدولي.
2. غياب قواعد الارتكاز الوطنية
لا توجد دولة كاملة الصيغة، ولا مشروع مقاوم مضمن في بنية سياسية جامعة، كما أن المؤسسات القادرة على حمل سردية طويلة الأمد ما تزال غائبة أو مهشّمة.
وهنا تبرز أهمية ما يقوله بركات عن “مسؤولية الصورة والرواية”، لكن مع إضافة ضرورية: السردية تحتاج مؤسسة، كما يحتاج الوعي إلى حامل سياسي. وبدون هذا، تبقى القوة الأخلاقية الهائلة التي ولّدتها غزة عرضة للتبدد.
خامسا: نحو سردية فلسطينية مستدامة
يبني مقال يحيى بركات على فكرة أن الرواية الفلسطينية باتت تمتلك فرصة تاريخية وهذا صحيح تماما. لكن استثمار هذه اللحظة يحتاج إلى أربع ركائز يمكن أن تُستكمل بها رؤيته:
1. توثيق الإبادة بوصفه مشروعا عالميا. لا يكفي أرشفة الأحداث،
يجب تحويلها إلى: أفلام، روايات، قواعد بيانات، شهادات علنية، ومناهج نقدية تستخدم عالميا.
2. شبكة مؤثرين فلسطينيين وعرب، لا منفعلين، بل فاعلين استراتيجيين
ليس ردا على “الألف مؤثر”، بل بناء شبكة: متعددة اللغات، تمتلك أدوات التحليل، تتدرب على إنتاج خطاب مؤثر لا انفعالي.
3. تحالف عضوي مع الجامعات العالمية
يجب الانتقال من “التضامن المؤقت” إلى “التحالف البنيوي”، عبر:
توسيع حركة المقاطعة، انشاء مراكز بحث مشتركة، برامج تبادل، أرشيفات رقمية، وفضاءات نقاش تعيد تعريف العدالة والحق.
4. مشروع ثقافي فلسطيني عالمي وهذه النقطة يلمّح إليها بركات في مقاله، ويمكن تطويرها عبر: سينما فلسطينية مستقلة، منصات توثيق جماعي، إنتاج سرديات تتجاوز الألم نحو الخيال السياسي.
حين تتسع الصورة، لا يعود العالم كما كان.
فما كشفه الطوفان لم يكن مجرد اختلال في توازن القوة، بل اختلالا في توازن الرواية. لقد تحوّل الفلسطيني من موقع المتلقي إلى موقع المُعرِّف؛ من ضحية تُروى قصتها بالنيابة عنها، إلى شعبٍ ينتج المعنى ويعيد ترتيب موقعه في المخيلة العالمية.
ومثلما التقط يحيى بركات لحظة انفلات الصورة من يد الاحتلال، فإن ما نحتاجه اليوم هو رؤيةٌ تُكمل المشهد: رؤية تربط بين التحوّل البصري والتحوّل البنيوي، بين ولادة سردية شعبية عالمية وبين عجز البُنى السياسية الفلسطينية عن مواكبتها. فالمعادلة الجديدة لا تكتمل من دون مساءلة جذرية لدور السلطة، وللسؤال الأعمق حول إمكانية الجمع بين السلطة والمقاومة تحت احتلال استيطاني إحلالي يبتلع المكان ويقيّد الفعل السياسي.
لقد بيّنت السنة الأخيرة أنّ العالم لم يتغيّر لأن الشاشات امتلأت بالدم، بل لأن الفلسطيني امتلك للمرة الأولى أدوات إنتاج الصورة وتفكيك الخطاب المضاد في الزمن الحقيقي. ومع صعود جيلٍ عالمي لا يخضع لرقابة المؤسسات التقليدية، أصبحت السردية الفلسطينية معيارًا أخلاقيًا يختبر به الناس أنفسهم، لا مجرد قضية يُعبَّر عن التعاطف معها.
ومع ذلك يبقى التحدي حادّا: كيف يمكن تحويل هذا الرصيد السردي والأخلاقي إلى مشروع سياسي قادر على حمله؟ وكيف تُبنى قواعد ارتكاز وطنية لا تنفصل عن معركة الوعي، بل تُكمّلها، وتمنحها شرعية طويلة المدى؟
إن الصورة التي اتسعت لن تعود إلى ضيقها القديم. لكن قدرتنا على تحويل هذا الاتساع إلى مسارٍ للتحرر، لا إلى لحظة عابرة، ستتوقف على قدرة الفلسطينيين – أفرادًا ومؤسسات – على بناء سردية تستند إلى قوة الفعل لا إلى ذاكرة الألم وحدها، وإلى مشروع سياسي لا يخشى مراجعة ذاته بقدر ما يسعى إلى تجاوزها.
حين تتسع الصورة، يصبح المستقبل هو السؤال الحقيقي.



