د. غانية ملحيس: تصدّع المركز ونهضة الهوامش: قراءة في دلالات فوز زهران ميماني برئاسة بلدية نيويورك 2025

د. غانية ملحيس 8-11-2025: تصدّع المركز ونهضة الهوامش: قراءة في دلالات فوز زهران ميماني برئاسة بلدية نيويورك 2025
حدث محلي بحمولة كونية
اللافت في انتخابات رئاسة بلدية نيويورك لعام 2025 هو حجم الاهتمام الأمريكي والعالمي الذي رافقها، بما يوازي الاهتمام الذي أحاط بانتخابات الرئاسة الأمريكية نفسها التي أعادت الرئيس الإشكالي إلى سدة الحكم، حاملًا أجندة معلنة لتكريس تفوّق “أمريكا البيضاء” في الداخل، ودفع العالم إلى الامتثال لشروطها عبر منطق سحق الأعداء وإخضاع الحلفاء.
لكن السؤال الجوهري هو: لماذا كل هذا الاهتمام بانتخابات بلدية تقتصر صلاحياتها الجغرافية على حدود مدينة واحدة، وتخضع لإطار فيدراليٍ صارم؟
ولماذا أثار فوز زهران ميماني بهذا المنصب كل هذا الصدى في الأوساط العربية، بل حتى الفلسطينية التي تواجه في هذه اللحظة محوا وجوديا في غزة والضفة الغربية وسائر فلسطين الانتدابية؟
الإجابة عن هذا السؤال تتجاوز حدود الحدث السياسي إلى ميدان التحليل الحضاري والرمزي:
فالانتخابات التي جرت في نيويورك، المدينة – الرمز للعولمة والمال والإعلام – لم تكن مجرد منافسة محلية، بل اختبار لوعي الإمبراطورية الأمريكية بذاتها، ولحدود قدرتها على الاعتراف بتعدد حقيقي داخل مركزها (هابرماس، فانون).
أولا: تصدّع الهيمنة الأمريكية البيضاء من الداخل
العولمة كأزمة هوية للمركز الإمبراطوري
لم تكن العولمة مشروعا اقتصاديا فحسب، بل كانت نظاما معرفيا للسيطرة، هدفه إعادة صياغة العالم على صورة الذات الغربية البيضاء (إدوارد سعيد، سمير أمين).
العقل الأداتي الذي وجّهها رأى في الإنسان موردا ووسيلة، وفي الطبيعة مادة للإدارة، وفي الآخر موضوعا للتطويع أو الإقصاء (هوركهايمر وأدورنو، هابرماس).
وبذلك تحوّلت “الهيمنة البيضاء” إلى بنية معرفية ترى في نفسها معيارا للإنسانية جمعاء، وتلزم العالم بالقياس عليها.
الجوهر المادي للحداثة قبل العنصري
من المهم إدراك أن الهيمنة البيضاء لم تنشأ من تصنيف عرقي، بل من منطق مادي أولا.
فالحداثة المادية التي تقطع صلة الخلق بالخالق، تقوم على تحويل العالم إلى موارد قابلة للاستغلال: الأرض، والثروات، والقوى البشرية، المعرفة، وكل ما يمكن تحويله إلى سلعة أو أداة للسيطرة (طه عبد الرحمن، فانون).
العنصرية، في هذا السياق، ليست السبب الأول للهيمنة، بل أداة لاحقة للتبرير الرمزي والسياسي للاستغلال المادي (فانون).
ففي بدايات الاستعمار الأوروبي أواخر القرن الخامس عشر، كان الهدف الأساسي السيطرة على الأراضي والثروات، قبل أن تظهر تصنيفات عرقية لتبرير الإبادة والاستعباد.
وبالمثل، في العولمة المعاصرة، تبقى السيطرة على الموارد الاقتصادية والمعرفية أولوية، وتصبح العنصرية غطاء رمزيا يحافظ على الهيمنة ويشرعنها.
وهكذا، فإن اختزال الوجود بالمادة بذريعة التحديث والتقدم، وفصل العقل عن الروح، وتسليع البشر هو جوهر الحداثة المادية الأوروبية، التي طرحته كنموذج حضاري لإدارة العالم، بديلا عن الحضارات الإنسانية التي سبقته.
والعنصرية جاءت كنتاج طبيعي للعقل الأداتي الذي شكل مرتكزها، والذي قاد إلى هيمنة العرق الأبيض الذي أسس لفصل الفعل عن القيمة، وأخضع الأخلاق لمنطق الكفاءة والمنفعة المادية (طه عبد الرحمن، فانون، هابرماس).
من الهيمنة البيضاء إلى تآكل المعنى
حين تصبح السيطرة غاية في ذاتها، تفقد الإمبراطورية الأمريكية التي تقود نظام الحداثة المادي العنصري قدرتها على إنتاج المعنى (جان بودريار، باومان).
من هنا، فإن الأزمة الأمريكية اليوم ليست في تراجع قوة نظام الحداثة المهين، بل في فقدان الشرعية الرمزية:
لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية التي تقوده قادرة على إقناع نفسها أو العالم بأنها تمثّل الحرية أو العدالة أو التقدّم.
فوز زهران ميماني كشف هذا التناقض بعمق:
فالمركز الذي يفاخر بتعدديته يجد نفسه أمام سؤال وجودي:
هل يستطيع أن يعترف بتعدد حقيقي لا يخضع لمنطقه الأبيض؟
هل يمكنه أن يرى ذاته في مرآة لا تعكس بياضه وحده؟
نيويورك كمختبر لانكشاف التناقض
لم يكن اختيار نيويورك مصادفة. فهي قلب العولمة النابض: موطن رأس المال، والإعلام، والأمم المتحدة، والتنوّع الذي جرى تحويله إلى سلعة (إدوارد سعيد).
لكنها أيضا المكان الذي يختبر هشاشة النموذج الحداثي الليبرالي ذاته.
ففوز ميماني، في مدينة كهذه، لم يكن انتصارا «للديمقراطية المقننة لإدامة الهيمنة» بقدر ما كان اختبارا لمقدرة المركز على تقبّل صورته الأخرى، تلك التي طالما أخفاها وراء خطاب المساواة الشكلية.
ومن هنا يتحوّل الحدث إلى مرآة تكشف أن الإمبراطورية لم تعد تمتلك السيطرة على صورتها.
فـ«الآخر» الذي وُضع على الهامش صار الآن في قلب المشهد، لا بوصفه تابعا، بل بوصفه علامة على انكشاف بنية التفوق التي شكلت وعي أمريكا بذاتها (إدوارد سعيد، طه عبد الرحمن، فانون).
الإمبراطورية في زمن ما بعد العولمة
ما نراه اليوم هو دخول أمريكا طور ما بعد العولمة: مرحلة تمتلك فيها القوة العسكرية والتكنولوجية، لكنها تفقد القدرة على إقناع العالم بمعناها (باومان).
القوة باقية، لكن الإيمان بها يتآكل. ومن هنا، فإن فوز ميماني ليس انقلابا سياسيا، بل إعلانا رمزيا عن بدء تفكّك المعنى الإمبراطوري.
في لحظة كهذه، يصبح الصدع في المركز مرآة لتصدّع أوسع في المنظومة التي شرعنت الاستعمار والإبادة، وفي مقدمتها فلسطين وقطاع غزة، حيث يتكشّف الوجه الحقيقي للعقل الأداتي وقدرته على تحويل القوة إلى نظام عالمي مستمر وشرعي على مستوى الفكر والممارسة (طه عبد الرحمن، إدوارد سعيد، فانون).
ثانيا: الوعي العربي والفلسطيني في تلقي الحدث
بين الانكسار والتعويض الرمزي
التفاعل العربي والفلسطيني مع فوز زهران ميماني لم يكن اهتماما انتخابيا فحسب، بل كان تعبيرا عن توق عميق للعدالة في عالم يشرعن الظلم الأبيض.
ففي لحظة الإبادة في غزة، رأى كثيرون في هذا الفوز انفتاحا رمزيا داخل حصن الإمبراطورية التي ترعى القتل.
إنه شكل من أشكال التعويض النفسي، ومحاولة لاستعادة الأمل في عالم لم يعد يعترف بالضحية إلا حين تُترجم بلسان المركز.
فلسطين كمقياس للعدالة الكونية
بالنسبة للفلسطيني، تمثل أمريكا بنية ما وراء الطبيعة للهيمنة، وليس مجرد دولة (إدوارد سعيد).
فهي التي منحت “الاستثناء الإسرائيلي” غطاءه الأخلاقي، وجعلت من القاتل نموذجا للحداثة، ومن الضحية عبئا على الضمير العالمي.
لذلك يُقرأ أيّ صدع في هيمنة أمريكا كعلامة على اهتزاز شرعية الإبادة نفسها.
إنه حدث معرفي بقدر ما هو سياسي، يُعيد طرح السؤال على الإمبراطورية: هل ما تزال قادرة على تبرير عنفها كأخلاق؟
من التماهي إلى الوعي النقدي
لكن هذا الفرح الرمزي يكشف أيضا استمرار التبعية الوجدانية للمركز، حيث يقاس التقدّم أو الاعتراف بمعايير الآخر.
فالوعي العربي ما يزال يربط كرامته بقبول المركز له، لا بقدرته على إنتاج رموزه المستقلة.
غير أن في هذا الانفعال بذور تحوّل: فهو يعكس إدراكا بأن العدالة الكونية ليست ممكنة إلا إذا استعاد الهامش القدرة على تعريف الإنسان خارج شروط الإمبراطورية (طه عبد الرحمن، فانون).
حينها يصبح التفاعل مع الحدث الأمريكي خطوة في مسار الوعي لا في أسر التماهي.
نحو وعي ما بعد الهيمنة
المطلوب اليوم ليس انتظار سقوط المركز، بل بناء بديل معرفي وأخلاقي يعيد تأسيس العلاقة بين القوة والمعنى (طه عبد الرحمن، والتر مينولو).
فالذي يُمحى ماديا في غزة يعاد إنتاجه معنى في الوعي العالمي، ومن بين رماد الإبادة يتشكّل خطاب إنساني جديد يرى في الإنسان قيمة لا تُقاس باللون أو العرق أو المنفعة.
حين يتصدّع المركز وتنهض الهوامش
ما كشفته انتخابات نيويورك هو أن الإمبراطورية الأمريكية دخلت مرحلة انفصال القوة عن المعنى (باومان).
لقد انتصرت العولمة في توحيد العالم تقنيا، لكنها فشلت في توحيده إنسانيا.
وباتت المعركة اليوم معركة على تعريف الإنسان ذاته: بين من يراه أداة في نظام السيطرة، ومن يراه غاية في ذاته (إدوارد سعيد، طه عبد الرحمن، فانون، هابرماس).
وحين يفقد المركز القدرة على إنتاج المعنى، تبدأ الهوامش باستعادته.
إنه الانتقال من “العالم الأمريكي” إلى العالم الإنساني، ومن “الحداثة الأداتية” إلى حداثة المعنى، التي تولد من الهامش المقموع، لا من المركز المنتصر.
وهكذا، فإن فوز زهران ميماني لا يُقرأ بوصفه حدثا أمريكيا محضا، بل كإشارة إلى انفتاح التاريخ على مرحلة جديدة:
مرحلة تتنازع فيها الإمبراطوريات الرمزية، وتنهض فيها الشعوب الممحوة
لتقول كلمتها، ليس عن العالم فقط، بل عن معنى الوجود، ومعنى الإنسان ذاته. من يحقّ له أن يُعرّف إنسانيته، وأن يكتب تاريخه بيده.



