د. غانية ملحيس: المفاتيح بعد الإبادة: تحوّلات الرمز الفلسطيني

د. غانية ملحيس 21-10-2025: المفاتيح بعد الإبادة: تحوّلات الرمز الفلسطيني
استوقفتني كثيرًا كتابات عبد الكريم عاشور وأم أيمن الصوص، اللذين يكتبان بحرقة عن المفاتيح من داخل قطاع غزة. ووجدتني، مرة أخرى، أعجز عن مقاومة غواية تجاوز اختصاصي في الاقتصاد والسياسة الذي أمضيت عمري في الكتابة فيه، قبل أن يستدرجني الأديب والناقد الأستاذ عادل الأسطة، الذي بهرني في خربشاته اليومية التي دأب فيها على نقل شهادات الغزيين عن فظائع حرب الإبادة غير المسبوقة في التاريخ البشري منذ يومها الأول، وفتح أبواب التفاعل مع كتّاب وشعراء وأدباء ومدونين، يسجلون بمداد الدم شهاداتهم حول وقائع الإبادة التي تنتزع أرواحهم وتدمي أجسادهم وتدمّر بيوتهم وتنتهك خصوصياتهم، بعد أن باتت الخيام وأشلاء المساكن والطرقات مسكنا لاثني مليون فلسطيني في قطاع غزة.
لقد فتحت تلك الشهادات جراح الفلسطينيين على اختلاف أعمارهم، فجميع مما يزال يكابد العيش في أي بقعة على وجه البسيطة اختبر مرارة الحروب واللجوء والاعتقال والملاحقة والخوف وألم الفقدان.
ووجدت نفسي أقتحم مجالا جديدا في الكتابة لم أكن أجرؤ عليه قبل الإبادة، راكبة الصعاب دون التسلّح بأدوات المعرفة، ومنخرطة في حوارات ثرية مع أدباء وكتّاب وشعراء كـ عاهد حلس وأكرم الصوراني وشجاع الصفدي وعبد الكريم عاشور ومحمد عمران الأسطل ويسري الغول وحكمت عليان المصري وجواد العقاد وآلاء القطراوي ومحمد الذهبي، وأم أيمن الصوص وآخرين ممن يحترقون داخل بيت النار، وممن يتلظون على لهيبه خارجه، كـ عادل الأسطة وسميح محسن، الذي بادر لجمع الحوارات في كتاب فريد صدر قبل أيام، وعواد أبو زينة وخالد عطية وحكيم عباس ونزهة الرملاوي وآخرين.
ربما وحده الفلسطيني، من دون سائر الخلق، يرى في المفتاح أكثر من مجرد قطعة معدنية تُفتح بها الأبواب، فهو رمز تاريخي وثقافي وفلسفي.
منذ نكبة 1948، حمل الفلسطينيون مفاتيحهم معهم في المنافي، لتصبح علامة على العودة والهوية والحنين والصمود.
ومع إبادة غزة الأخيرة منذ السابع من تشرين الأول 2023 والمتواصلة منذ 745 يوما، تحوّل المفتاح من أداة مادية إلى رمز وجودي وفلسفي، يربط بين الذاكرة والجسد والفضاء والوعي.
كلمات عبد الكريم عاشور وأم أيمن الصوص، وقراءة عادل الأسطة التي وصلت بين ما كتباه وما كتبه السابقون منذ النكبة الأولى حول رمزية المفاتيح، مثل غسان كنفاني وأبو سلمى وعلي الخليلي ومحمود درويش ومريد البرغوثي وآخرين، شكّلت معا نسيجا رمزيا جديدا يعيد تعريف المعنى الفلسطيني بعد الإبادة.
أولًا: التحوّل بعد الإبادة – من مفتاح العودة إلى مفتاح الوجود
حين يتكلم الداخل بلسان الرماد
في غزة، بعد الإبادة، لم يعد المفتاح الفلسطيني مجرد أداة فتح باب، بل أصبح ندبة في الجسد والذاكرة. السؤال لم يعد: متى نعود؟
بل أصبح: كيف نحافظ على معنى العودة داخلنا؟
المفتاح عند عبد الكريم عاشور
في كلمات عبد الكريم عاشور ترى كيف يصبح المفتاح شاهدا على وجود الفلسطيني، يحمل معه عبء الذكريات والمكان المفقود: “حين حملت المفتاح وجدتُه أثقل من الحديد… كأنّ البيوت التي سقطت ما زالت معلّقة فيه.”
المفتاح هنا ليس مجرد معدن، بل حامل للوجع والمقاومة والحنين.
المفتاح عند أم أيمن الصوص
في تجربة أم أيمن الصوص ترى كيف يصبح المفتاح عضوا رمزيا في الجسد الفلسطيني، يحمل المكان والذاكرة داخله:
“لم أترك المفتاح، لأنه لم يتركني. صار مثل قلبي، يدقّ حين أتنفّس وأخاف”.
ثانيًا: تحوّل في رمزية المفتاح ووظيفته
قبل الإبادة، كان المفتاح يمثل رمز العودة، موجودا في الذاكرة كعلامة على البيوت المفقودة، ووظيفته كانت تقديم وعد بالمكان.
بعد الإبادة، صار المفتاح نبضا حيّا للذاكرة والمعنى، وأصبح أكثر من كونه أداة فتح للباب. تحوّل المفتاح إلى رمز للوجود نفسه، محمولا في الجسد الفلسطيني، ومعناه الحياة والمعنى، ووظيفته أصبحت وعدا بالاستمرار.
في غزة، يصبح المفتاح عبئا على الذاكرة وشاهدا على الوجود.
في الجنوب، يصبح نبض الجسد وبقاء المعنى.
وفي الخارج، يكون أداة لحفظ الهوية وربط الداخل بالخارج.
وهكذا يتحول المفتاح من أداة فتح باب إلى أداة فتح المعنى، رابطا بين الداخل والخارج، وبين الجسد والوعي.
ثالثا: المفتاح والفضاء – من الخريطة إلى الجسد
حين تهاوت الجغرافيا
بعد الإبادة، لم تعد فلسطين مجرد مكان مادي، بل أصبح المفتاح علامة على وجود الفلسطيني داخل جسده وذاكرته، رابطا بين الخراب والمقاومة.
من الخريطة إلى الجسد
سقوط البيوت وتحول الفضاء إلى ركام لم يمحِ وجود الفلسطيني، بل حرّر الفضاء الرمزي.
أصبح المفتاح عضوا رمزيا يحمل المكان والذاكرة داخل الجسد، ويخلق فضاء جديدا للوعي والمعنى.
الجسد بوصفه خريطة الذاكرة
في كلمات عاشور ترى كيف أصبح القلب أرشيفا للبيت المهدّم، وفي تجربة أم أيمن كيف تمثل الكف التي تحمل المفتاح حفظ المكان المفقود داخل الجسد.
الفضاء المنهار والمتجدد
الدمار لم يمحُ الفضاء، بل حرّره.
المفتاح الذي أحمله في الذاكرة أصبح مفتاح الحياة والوجود نفسه، ليعلن أن الإنسان الفلسطيني هو الأرض التي لا تُحتلّ، وأن الجسد هو الفضاء الذي يحفظ التاريخ ويعيد إنتاجه.
رابعًا: الذاكرة والمعنى – نحو فلسفة المفتاح
المفتاح كفلسفة للوجود
المفتاح أضحى أكثر من قطعة معدنية، إنه مفهوم شامل للوجود الفلسطيني بعد الإبادة، يفتح المعنى أكثر من المكان، ويؤسس فلسفة صمود وبقاء.
المفتاح بين التاريخ والوعي
في الأدب الفلسطيني، من كنفاني إلى درويش، يمثل المفتاح علامة على العودة والهوية والصمود.
بعد الإبادة، أصبح المفتاح أداة فلسفية للوعي والجسد والهوية.
البعد الفلسفي-الوجودي
المفتاح يمثل وعيا ذاتيا وجماعيا، أداة مقاومة رمزية، ومفتاحا لفهم العلاقة بين الإنسان والمكان، مرتبطا بفلسفة ماركس وفانون في وعي الطبقة المقهورة ووعي الذات بعد الاستلاب.
المفتاح بين الجسد والروح
الجسد يحتفظ بالمفتاح، والذاكرة تحفظ الجسد.
بذلك يصبح المفتاح عضوا رمزيا في نظام الوعي الفردي والجمعي، يحمل الماضي والحاضر والمستقبل.
المفتاح كأفق مقاوم ومستقبل مفتوح
كل مفتاح هو وعد وجودي: إعادة إنتاج المكان والمعنى، الحفاظ على الهوية، وصون المقاومة.
حين يصبح الألم مفتاحا، يُفتح الغد من شقوقه
المفاتيح بعد الإبادة لم تعد مجرد رمز للعودة المادية، بل أصبحت رمزا للوعي والوجود والذاكرة والمقاومة.
المفتاح ينتقل من اليد إلى الجسد، من المكان إلى المعنى، من الماضي إلى المستقبل، ليؤكد أن الفلسطيني سيظل قادرا على خلق الأرض في ذاكرته ووجوده رغم كل الدمار.
المفتاح، بعد كل الخراب، يظل أداة للبقاء، للمعنى، وللإنسانية.