
د. غانية ملحيس 3-12-2025: المطر الذي يُسقط الأقنعة… ويكسر وهم الحضارة
قراءة مكملة لمقال يحيى بركات “حين تتحول الأمطار إلى سلاح، ويصير البرد آلة قتل “
المطر الذي يغرق غزة ليس حدثا مناخيا، بل حدث كاشف لجوهر عصر كامل.
لقد أصبح الماء نفسه – أصل الحياة – أداة إبادة، لأن البنية التي تسقط عليه ليست بنية دولة ولا مجتمع، بل بنية حضارة أنتجت الإنسان – الشيء، الإنسان القابل للإلغاء.
المطر هنا لا يغسل الأرض فقط، بل يفضح ما تبقى من أخلاق حضارة اختارت الربح بدل الرحمة. ويكشف سقوط أقنعة حضارة حداثة مادية وعقل أداتي بلغ ذروته التقنية وانحطاطه الاخلاقي.
• عقل أنتج “القيمة” وأغفل“المعنى”.
• عقل صنع الأدوات الذكية، لكنه فقد الحكمة والإنسانية
• يرفع شعار حقوق الإنسان، بينما يرى سبع مليارات “فائضا بشريا” – بشرا تعتبرهم منظومة الحداثة المادية العنصرية عددا زائدا يمكن الاستغناء عنه – يمكن التخلص منه.
• عقل يشيء البشر، ويؤَلِّه التقنية، ويحوّل العالم إلى معمل كبير للفرز: من يستحق العيش، ومن يمكن شطبه.
هذه ليست “إسرائيل” فقط، بل منطقٌ حضاري نيوليبرالي كامل يتجاوز حدود الجغرافيا والجيش والدولة.
غزة… مرآة العالم
في غزة، يبلغ هذا المنطق ذروته:
تُحوِّل القوة الحديثة المطر إلى سلاح، والخيمةَ إلى مقبرة، والبرد إلى خطة عسكرية، والقنبلة غير المنفجرة إلى “زمن مؤجَّل” للموت.
لكن ما يتكشّف هنا أخطر من الجريمة نفسها:
إنه سقوط الوهم العالمي بأننا نعيش في نظام دولي، أو عهد إنساني، أو حضارة عقلانية.
المطر، بصفائه وبساطته، يعري العالَم:
• يُظهر هشاشة المؤسسات، وقسوة السياسة، وعجز القوانين أمام منطق القوة، كما لو أن الطبيعة نفسها تتحد مع الفكرة الأداتية في تعريتها.
• يكشف هشاشة “السلطة الفلسطينية” التي يتساقط عليها المطر ذاته فيغرقها في العبودية.
• يكشف خواء النظام العربي والإسلامي الرسمي، الذي ينحني أمام العاصفة خوفا لا رحمة.
• يكشف تواطؤ الغرب الذي يسمّي الإبادة “حلا إنسانيًا”.
• يكشف مجلس الأمن الذي لا يملك سوى الحبر والامتثال لسطوة القوة.
• يكشف “الإنسانية العالمية” التي تجفّفت حتى لم تعد تعرف معنى أن تموت أمٌّ على باب خيمة.
• يكشف النظام النيوليبرالي الذي يملك تكنولوجيا لحماية الكواكب، ولا يملك رغبة لحماية طفل يسقط في حفرة ماء في غزة.
ويهرع المستثمرون من مختلف بقاع العالم بتريليونات الدولارات لتمويل صناعات الذكاء الاصطناعي، التي يعلن أصحابها على الملأ اقتراب زمن “الإنسان غير الضروري” – أي الإنسان الذي تُقصيه الآلة، لأن التقنية صارت قادرة على الحلول مكانه.
وللاستثمار في الشركات التكنولوجية التي تبشّر بأن الكوكب يضيق بالمليارات الثمانية من سكانه، ويكفيه مليار.
وفي الصناعات العسكرية التي تنتج الأسلحة الذكية، الجرثومية، والروبوتية أدوات الفناء القادمة.
إنه تهافت على الفناء، لا على التقدم،
بحثٌ عن موقع داخل ماكينة الحداثة المادية ولو كان الثمن هو الإنسان.
هكذا يتحوّل رأس المال إلى شريك في المشروع الذي يُنهي دور الإنسان نفسه.
من فلسفة الإبادة إلى فلسفة العالم الآلي
عندما يبشر العقل الأداتي بأن “الإنسان لم يعد ضروريا”، وأن الذكاء الاصطناعي سيحلّ محلّه خلال عقد أو عقدين – كما قال ألون ماسك في مؤتمر المستثمرين في واشنطن- فإنه يؤسس فلسفيا للجريمة.
عند لحظة ما، يصبح من السهل على القوة أن تقول: ما دام الإنسان فائضا، فلماذا يبقى؟
ولماذا لا نستخدم أدوات الابادة للتخلص من الحمولة الزائدة للكوكب؟
وما دامت الطبيعة تُساعد – بالمطر والبرد – فلنجعلها جزءا من “الهندسة”:
هندسة تجويع،
هندسة تهجير،
هندسة موت.
هكذا يتحول الغلاف الجوي إلى جهاز في يد الطغاة. وتتحول الطبيعة إلى أداة في يد عقل أداتي فقد أخلاقه.
غزة باعتبارها “الحدث المؤسِّس” لفلسفة جديدة
هناك لحظات في التاريخ لا تنتمي إلى الزمن العادي.
ما يحدث في غزة اليوم هو حدثٌ كوني تأسيسي جديد بلغة ميرتشيا إلياد: لحظة تكشف من نحن، ومن هو العالم الذي نعيش فيه، وما هو مصير الإنسان.
إن صرخات المرأة التي وصفها يحيى بركات ليست صوتا فرديا، بل لحظة وعي كوكبي:
• وعيٌ بأن الإنسان مُهدَّد في وجوده نفسه.
• وعيٌ بأن النظام الدولي لم يعد إطارًا أخلاقيًا، بل آلة تقنية لإدارة “الفائض البشري“.
• وعيٌ بأن غزة لم تعد “قضية فلسطينية”، بل علامة على نهاية عصر وبداية عصر آخر.
إنّ غزة تُجبِر العالم على مواجهة السؤال الذي حاول الهرب منه:
ما قيمة الإنسان في زمن تتفوّق فيه الآلات على البشر، ويتفوّق فيه رأس المال على الأخلاق، ويتفوّق فيه القتل على القانون؟
النداء الأخير: ليس من أجل غزة فقط… بل من أجل الإنسان
ما تطلبه غزة ليس خيمة، ولا دواء، ولا رفع ركام فقط.
إنها تطلب استعادة المعنى، واستعادة القدرة على الغضب، واستعادة الضمير من تحت طبقات الحديد والمال والذكاء الاصطناعي.
صرخة المرأة في المطر هي صرخة العالم قبل أن يغرق:
صرخة تقول إن الإبادة لم تعد سلاحًا فقط،
بل أصبحت فلسفة، ورؤية، ومشروعًا، ومصيرا يتهدد الإنسان
إن لم تتحد الإنسانية للرد بما تبقى من ضميرها قبل أن يُعاد تعريف البشر كظلال يمكن محوها بلا أثر.



