د. غانية ملحيس: السياسة والمساءلة والحامل السياسي في زمن الإبادة الفلسطينية مسودة للنقاش

د. غانية ملحيس 24-12-2025: السياسة والمساءلة والحامل السياسي في زمن الإبادة الفلسطينية مسودة للنقاش
ملخص تنفيذي
تهدف هذه الورقة إلى تحليل السياسة الفلسطينية والمساءلة والحامل السياسي في زمن الإبادة، وتقديم إطار للنقاش الاستراتيجي حول مستقبل غزة وعموم المستقبل الفلسطيني بعد الإبادة.
أهم النقاط:
1. أزمة السياسة الفلسطينية:
• ليست أزمة تشخيص، بل عجز عن تحويل التشخيص إلى تأسيس سياسي تحرري.
• السياسة معرضة للاستنزاف بين إدارة خسارة، أخلاقوية معزولة، وبراغماتية إدارية.
2. المساءلة في زمن الإبادة:
• يجب أن تكون أداة تحصين للمقاومة، لا أداة تصفية.
• تُدار وفق ثلاثة شروط: الموقع (أفق تحرري)، الأثر (منع التوظيف ضد المقاومة)، والزمن (توقيت الأسئلة حسب الأولويات الاستراتيجية).
3. الحامل السياسي:
• إطار قادر على تحويل الشرعية الرمزية والتضحيات الواقعية إلى مشروع وطني تحرري مستدام.
• يشمل قاعدة اجتماعية متماسكة، تنظيم مؤسسي، ربط الداخل ببعضه وبالشتات، آليات مساءلة وشفافية، وأفق تراكم سياسي تدريجي.
• غياب هذا الحامل يؤدي إلى تفريغ السياسة من معناها، وتحويل المقاومة والمجتمع إلى أدوات استنزاف وإدارة.
4. تقييم الوضع الفلسطيني الحالي:
• القوة: شرعية رمزية قوية، قاعدة شعبية واسعة، إرث نضالي متراكم.
• الضعف: انقسام سياسي، ضعف المؤسسات، غياب إطار جامع، هشاشة المساءلة الداخلية، صعوبة ربط الداخل ببعضه وبالشتات، قيود الموارد والدعم الخارجي.
5. الدرس الاستراتيجي:
• الحاجة الملحّة: إعادة بناء حامل سياسي فلسطيني جامع وشرعي، يفصل بين المقاومة والحكم، يحمي المقاومة دون تحميلها عبء إدارة المجتمع، ويحوّل التضحيات إلى أفق وطني متراكم.
• اللامركزية شرط للبقاء، مع وحدة رؤية ومشروع واستيعاب التعدد الجغرافي والاجتماعي.
في هذه اللحظة الحرجة، يبقى السؤال الأساسي مفتوحا: كيف يمكن للفلسطينيين تحويل الشرعية الرمزية والمقاومة إلى أفق سياسي حقيقي ومستدام؟ هذه الورقة لا تقدم إجابات جاهزة، لكنها تفتح الباب أمام نقاش جماعي ضروري لصناعة مستقبل فلسطيني متماسك وفاعل
الورقة الكاملة
السياسة والمساءلة والحامل السياسي في زمن الإبادة الفلسطينية
مسودة للنقاش
لا تُقدَّم هذه الورقة بوصفها بيانا سياسيا، ولا مشروعا جاهزا للحل، ولا ادعاء لامتلاك إجابات نهائية في لحظة تتكثف فيها الأسئلة أكثر مما تتوفر الأجوبة. إنما تُطرح صراحة بوصفها مسودة للنقاش، هدفها الأساسي ترشيد الحوار الفلسطيني في زمن الإبادة، وإعادة تنظيمه على أسس سياسية وبنيوية، بدل تركه يتشظى بين أخلاقوية معزولة، أو براغماتية إدارية، أو مساءلات تُنزَع من سياقها وتُوظَّف ضد الفعل التحرري نفسه.
تنطلق الورقة من قناعة مفادها أن أزمة السياسة الفلسطينية اليوم ليست في نقص التشخيص، بل في العجز عن الانتقال من التوصيف إلى التأسيس: تأسيس السياسة بوصفها فعلا تحرريا، تأسيس المساءلة بوصفها أداة تحصين لا تصفية، وتأسيس الحامل السياسي القادر على تحويل الشرعية الرمزية والتضحيات الواقعية إلى أفق سياسي قابل للتراكم والاستمرار. فالتشخيص، مهما بلغ من الدقة، يفقد معناه إن لم يُستثمر في فتح أفق تأسيسي جديد، يُعيد ربط المقاومة بالمجتمع، والسياسة بالتحرر، والنقد بالمسؤولية.
في هذا السياق، لا تسعى الورقة إلى إغلاق النقاش، بل إلى فتح نقاش يسهم في التأسيس: نقاش يعي أن الأسئلة لا تُطرح في فراغ، وأن النوايا وحدها لا تكفي لتحديد الأثر، وأن كل خطاب سياسي أو نقدي يعمل داخل ميزان قوة مختل، خصوصا في لحظة إبادة مفتوحة. ترشيد الحوار هنا لا يعني ضبطه أخلاقيا أو كبحه، بل تحريره من الاستقطاب والتوظيف، وإعادته إلى موقعه الطبيعي كأداة بناء سياسي جماعي.
كما لا تدّعي الورقة أن الانتقال من التشخيص إلى التأسيس ممكن بإرادة فكرية مجردة، أو عبر مساهمات فردية، بل ترى فيه عملية تراكمية، تتطلب اشتباكا فكريا مفتوحا ينخرط فيها الجميع، وتعديلات، واعتراضات، وتجريبيا سياسيا طويل النفس. من هنا، تُقدَّم هذه الورقة بوصفها مساهمة أولية في هذا المسار، ومحاولة لوضع بعض المعايير والأسئلة والأطر التي يمكن أن تُختبَر، تُنقَّح، وتستكمَل جماعيًا.
بكلمات أخرى، الهدف ليس إنتاج يقين جديد، بل منع انهيار السياسة نفسها في زمن الإبادة: منع تحولها إلى إدارة خسارة، أو إلى صراخ أخلاقي بلا أثر، أو إلى امتثال مقنّع باسم الواقعية. فإذا نجحت هذه الورقة في فتح نقاش جدي حول الحامل السياسي، والمساءة، والتمثيل، وأفق التأسيس، تكون قد أدت وظيفتها الأساسية: المساهمة في نقل الحوار الفلسطيني من الدوران في حلقة التشخيص، إلى الشروع – ولو بتردد- في سؤال التأسيس.
الاشتباك الفكري الجاري حول المقاومة الفلسطينية لا يكشف عن خلاف في تشخيص العدو أو في شرعية الفعل التحرري، بل عن تباين في تعريف السياسة نفسها في لحظة الإبادة. فجزء واسع من هذا الاشتباك يُدار عبر أنماط خطابية لا تعمل بوصفها توصيفات فكرية محايدة، بل تؤدي وظائف سياسية محددة داخل ميزان قوة مختل.
فالخطاب الأخلاقوي التجريدي، الذي يفصل الفعل المقاوم عن سياقه الاستعماري، يعيد تقييم التحرر وفق معايير مجردة تُنتَج خارج ساحة الصراع، محولا الإبادة إلى معضلة أخلاقية بلا فاعل، ومحمّلا الضحية عبء التبرير الدائم. ويوازيه خطاب أداتوي براغماتي يختزل السياسة في حسابات الكلفة والجدوى، متجاهلا أن الصراع القائم صراع وجودي لا تعاقدي، وأن ما يُقدَّم بوصفه «عقلانية» لا يفعل سوى إعادة تأديب الفعل المقاوم بمنطق إدارة الخسارة. كما يحصر الخطاب الدولاتي – القانوني المعزول السياسة في أفق الاعتراف الدولي والقانون الإنساني، منفصلا عن بنية الاستعمار الإحلالي وميزان القوة، فيحوّل القانون من أداة مساءلة للمستعمِر إلى سقف يُقاس به سلوك الضحية. ويكمل هذا المشهد خطاب تكنوقراطي إداري يتعامل مع السياسة بوصفها مسألة كفاءة وإدارة أزمات، لا فعلا تحرريا تأسيسيا. وفي ظل غياب حامل سياسي جامع، يتحول النقد غير المُموضع – مهما حسنت نواياه – إلى مادة خام قابلة للتوظيف في نزع شرعية المقاومة، لا في تصويبها أو حمايتها.
في المقابل، يبرز خطاب آخر مختلف في منطلقه ووظيفته، يمكن تسميته الخطاب النقدي المُموضع سياسيا أو التحصيني النقدي. هذا الخطاب لا يُسائل شرعية المقاومة، بل يسعى إلى حمايتها، ولا يفصل الأخلاق عن السياسة، بل يدرجهما داخل ميزان القوة القائم، ولا يتجاهل اختلالات السلوك أو التنظيم، بل يحاصرها بوصفها ثغرات محتملة تُضعف مناعة الفعل المقاوم وتُستثمر ضده. فالمساءلة هنا ليست نقيضا للتحرر، بل شرطا من شروط استمراره، لا تُقاس بحدّتها الخطابية، بل بقدرتها على تعزيز الصمود، ومنع انزلاق الأخطاء – حين تقع – إلى ذريعة لتصفية المقاومة أو نزع السياسة عن الفعل التحرري.
من هنا، لا يكون السؤال المركزي: هل نُسائل المقاومة أم لا؟ بل: أي مساءلة تُبقي السياسة حيّة، وتحمي المقاومة، وتمنع تحويل النقد من أداة تحصين إلى أداة تصفية؟
في لحظات الصراع “الطبيعية”، حيث لا تكون الجماعة الواقعة تحت الاحتلال مهدَّدة بالإبادة الشاملة، يمكن للنقد والمساءلة أن يتحركا في فضاء سياسي أوسع نسبيا، يسمح بفصل النوايا عن النتائج، وبالتعامل مع السؤال بوصفه أداة تصويب داخل حقل سياسي قابل لإدارة التناقضات. في هذا السياق، يُفترض حسن استخدام السؤال، ويُقرأ النقد غالبا ضمن منطق تحسين الأداء أو مراجعة الخيارات، دون أن يُحمَّل تلقائيا وظيفة نزع الشرعية عن الفعل التحرري نفسه.
أما في لحظة الإبادة، فإن هذا الافتراض يسقط. لا تعمل الأسئلة في فراغ، ولا تُقاس بصدق النوايا أو سلامة المقاصد، بل تُعاد صياغتها وتوظيفها داخل ميزان قوة مختل، يُحوّل أي تردّد أو شك أو مساءلة غير مُموضعة إلى أداة محتملة لنزع السياسة عن التحرر، وتحميل الضحية مسؤولية الجريمة. من هنا، لا يكون السؤال: هل نُسائل المقاومة أم لا؟ بل: أي مساءلة، وبأي شروط، وفي أي لحظة؟
كيف نُحصّن المقاومة دون تصفيتها؟
السؤال المركزي الذي يواجه المجتمع الفلسطيني اليوم هو: كيف نحمي المقاومة الفلسطينية من حملة شاملة تستهدف إضعافها وتصفيتها، لا تصويبها، وفي الوقت ذاته نحميها من أخطاء سلوكية أو تنظيمية قد تقوّض قدرتها على الاستمرار أو تضعف مناعة حاضنتها الشعبية؟
هذا السؤال ليس مجرد فرضية تحليلية، بل ممارسة حقيقية تمتحن قدرة المجتمع على الصمود داخل ظروف استعمارية وإبادة مفتوحة، حيث تتقاطع فواعل محلية وإسرائيلية وعربية وإقليمية ودولية تتنافس على استثمار أي نقاش داخلي ضد المقاومة، وتقوّض مناعة الشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجه، ما يجعل كل خطوة نقدية مسألة استراتيجية بحد ذاتها.
حماية المقاومة: التوازن بين الوقاية والاستمرار
إدارة هذا التوازن تتطلب مستويات متكاملة من المساءلة والتحصين، بحيث تبقى المقاومة ممكنة، والسياسة حيّة، والمجتمع شريكا دون أن يستنزف. وفي هذا الإطار يمكن التمييز بين ثلاث دوائر متكاملة للمساءلة:
1. دائرة التحصين الوجودي
وهي دائرة غير قابلة للتفاوض في زمن الإبادة، لا بوصفها موقفا أيديولوجيا أو تعبيرا عن يقين مغلق، بل بوصفها شرطا سياسيا لبقاء الفعل التحرري نفسه. وتشمل تثبيت شرعية المقاومة بوصفها ردا تاريخيا ووجوديا على بنية استعمارية إحلالية، ورفض أي مساءلة تنطلق من افتراض أن الفعل المقاوم هو سبب الكارثة، أو أن الإبادة قابلة للتفسير خارج منطق الاستعمار. هنا لا يتعلق الأمر بحماية تنظيم أو خيار بعينه، بل بحماية السياسة التحررية من الانهيار، لأن المساس بهذه الدائرة لا يفتح باب التصويب، بل يفتح باب نزع المعنى عن التحرر ذاته
2. المساءلة المشروطة بالسياق الاستعماري المفتوح:
هي ممارسة سياسية – نقدية تُدار في شروط غياب السيادة، وتفكك المجال الوطني، وانكشاف الساحة الفلسطينية أمام فواعل متداخلة متربصة بالفعل التحرري. لا تقاس مشروعيتها بسلامة النوايا أو قوة الحجج المجردة، بل بقدرتها الفعلية على تعزيز الصمود، وعدم إنتاج آثار سياسية تُستثمر ضد الفعل التحرري. فهي مساءلة تُمارَس داخل ميزان القوة، لا خارجه، وتُدار بوصفها عنصرا من عناصر الصراع، لا تمرينا فكريا منفصلا عنه.
وتقوم هذه المساءلة على ثلاثة شروط رئيسية:
1. شرط الموقع: تنطلق من أفق تحرري واضح يثبت طبيعة الصراع بوصفه صراعا وجوديا مع استعمار استيطاني إحلالي، ويرفض أي مساءلة تفترض قابلية هذا الاستعمار للتعقيل أو التكيّف معه.
2. شرط الأثر: يُقاس النقد بآثاره السياسية المتوقعة، بحيث يُستبعد أي خطاب قابل للتوظيف في نزع شرعية المقاومة أو تحميلها مسؤولية العنف الاستعماري.
3. شرط الزمن: يُدار توقيت المساءلة بوصفه عنصرا من عناصر الصراع، بحيث لا تُطرح كل الأسئلة في كل اللحظات، ولا تُستنفد القضايا الاستراتيجية الكبرى في ذروة الإبادة، دون أن يعني ذلك إلغاءها أو تحريمها.
بهذه الشروط، لا تهدف المساءلة إلى إسكات النقد أو تأجيله، بل إلى حمايته من أن يتحول – في لحظة الإبادة – إلى أداة غير مقصودة في معركة تصفية المقاومة سياسيا ومعنويا.
بهذا المعنى، لا تنقسم المساءلة إلى مسموح وممنوع، بل إلى مساءلة تحمي السياسة وتُبقي المقاومة ممكنة، ومساءلة تُفرغ السياسة من معناها وتحوّل النقد إلى امتداد ناعم لحملة التصفية. والخطر لا يكمن في السؤال نفسه، بل في فقدان الإطار الذي يضبط موقعه وأثره وزمنه داخل الصراع.
ثانيا: الحامل السياسي
الحامل السياسي هو الإطار الذي يحمل السياسة نفسها بوصفها فعلا تحرريا منظما، ويمارس ثلاثة أدوار متكاملة:
• تثبيت أفق التحرر بوصفه أفقا وجوديا، وليس مجرد أداة لمفاوضات تكتيكية.
• تنظيم التوتر بين المقاومة والمجتمع، وبين الشرعية والنقد، بحيث تبقى المساءلة أداة حماية لا أداة تصفية.
• حماية السياسة من التحول إلى إدارة خسارة، أو إلى يقين مغلق يمنع المراجعة، ويحول الفعل المقاوم إلى رمز معصوم لا يمكن نقده أو تحسينه.
1.2 الحامل السياسي القادر على إدارة المساءلة:
الحامل السياسي هو الكيان أو البنية القادرة على تحويل الشرعية الرمزية والتضحيات الواقعية إلى مسار سياسي تحرري وطني مستدام. وهو يربط الداخل بالشتات، المقاومة بالسياسة، والأخلاق بالواقع. بمعنى آخر، لا يكفي وجود قاعدة شعبية أو رمزية معنوية، بل يجب أن تتحول هذه الشرعية إلى قدرة فعل ملموسة على الأرض.
2.2 المعايير النظرية للحامل السياسي
٠ قاعدة اجتماعية متماسكة: تعبئة مختلف الفئات الاجتماعية حول هدف وطني واحد.
٠ التنظيم التدريجي والمؤسسي: هياكل مترابطة بين القاعدة الشعبية والإطار القيادي.
٠ تحويل الشرعية الرمزية إلى فعل ملموس: مشاريع سياسية، اقتصادية، ثقافية أو عسكرية قابلة للقياس.
٠ الربط الداخل – الشتات / الدعم الخارجي: شبكات فعالة تربط الداخل بالدعم الخارجي وتستثمره.
٠ التعليم السياسي والوعي الجماعي: برامج مستمرة لرفع الوعي بمهمة التحرر.
٠ أفق تراكم سياسي تدريجي: خطوات متسلسلة لبناء قوة مستدامة.
٠ مساءلة وشفافية داخلية: آليات تمنع التفرد بالقرار وتحافظ على شرعية الحامل السياسي.
3.2 الحامل السياسي في السياق الاستعماري المفتوح
هو الإطار الذي يجعل المقاومة ممكنة دون أن تُستنزف، والمسائلة ممكنة دون أن تُصفّى، والمجتمع شريكًا دون أن يُسحق.
الحامل السياسي القادر على إدارة هذا التوازن هو الكيان أو البنية القادرة على تحويل الشرعية الرمزية والتضحيات إلى مسار سياسي تحرري وطني مستدام، ويربط الداخل بالشتات، المقاومة بالسياسة، والأخلاق بالواقع.
غياب هذا الحامل يعني أن الأخطاء لا تتحول إلى دروس، والتضحيات لا تتحول إلى أفق سياسي، والسياسة لا تتحول إلى فعل تحرري مستدام، بل تبقى مشتتة بين التراكم الرمزي والمخاطر الواقعية.
بدون هذا الحامل، تصبح المساءلة مجرد صراخ أخلاقي معزول، وتتحول التضحيات الرمزية إلى مادة خام في حملات نزع الشرعية عن المقاومة، ويغدو كل نقاش حول السياسة أداة محتملة لإضعافها بدلا من تقويتها
4.2 دروس التجارب الدولية في بناء الحامل السياسي
أظهرت التجارب التاريخية في بناء حوامل سياسية تحررية عدة دروس مركزية يمكن استخلاصها وتكييفها ضمن الإطار الفلسطيني، مع مراعاة خصوصية السياق الاستعماري الإحلالي والإبادة المستمرة:
أ. الجزائر – جبهة التحرير الوطني
• التعبئة الشاملة للقاعدة الاجتماعية حول هدف وطني واحد، بما يشمل مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية، لتحويل الشرعية الشعبية إلى قوة فعلية.
• بناء هياكل تنظيمية متدرجة وشبكات دعم خارجية، تسمح بالتحرك المرن في مواجهة القوى الاستعمارية وخلق أفق سياسي مؤسساتي مستدام.
• تحويل الشرعية الرمزية والتضحيات الشعبية إلى فعل ملموس على الأرض، سياسيا وعسكريا، ما رسخ موقع الجبهة كحامل سياسي قادر على إدارة الصراع وتحويل المقاومة إلى أفق تراكمي.
ب. جنوب أفريقيا – المؤتمر الوطني الإفريقي ANC
• دمج مختلف الأعراق والفئات الاجتماعية في إطار موحد، مع التركيز على بناء قاعدة شعبية واسعة وملتزمة بالقضية الوطنية.
• تطوير مؤسسات مجتمعية قوية وبرامج تعليم سياسي، ما مكّن الحركة من الحفاظ على أفق طويل المدى في ظل نظام فصل عنصري عنيف.
• ربط المقاومة الداخلية بالضغط الدولي، واستثمار التضامن العالمي لتعزيز القدرة التفاوضية، وتحويل الشرعية الرمزية إلى أدوات فعلية ملموسة.
ج. فيتنام – الحزب الشيوعي الفيتنامي
• التنظيم الممتد أفقيا والمتدرج من الخلايا الصغيرة إلى القيادة المركزية، ما مكّن الحزب من خلق أطر تنظيمية وتسلسل قيادي واضح ومؤسساتي متين.
• استثمار الدعم الخارجي الاستراتيجي، مع الحفاظ على استقلال القرار الداخلي، لضمان قدرة الحركة على التراكم السياسي والعسكري تدريجيا.
• تحويل الشرعية الرمزية إلى فعل سياسي وميداني ملموس، ما عزز قدرة الحزب على التحكم بالمسار الوطني وإدارة الصراع بفعالية.
د. أمريكا اللاتينية – كوبا، نيكاراغوا، تشيلي
• الانطلاق من قاعدة محدودة لكنها متماسكة، تُوظف التضامن الشعبي والرمزية الوطنية للتحفيز على المشاركة الفعلية.
• بناء مؤسسات محلية، تعليم وتوعية سياسية مستمرة، واستثمار الدعم الخارجي لتعزيز قدرة الحركة على التراكم التدريجي وتحويل المبادرات الصغيرة إلى أفق سياسي وطني شامل.
• ربط المقاومة الداخلية بالضغط الدولي، وضمان ألا يقتصر العمل على المبادرات الرمزية فقط، بل أن يتحول إلى فعل ملموس على الأرض.
5.2 الدروس العامة المستخلصة
٠ الحامل السياسي لا يتشكل في لحظة واحدة، بل عبر تراكم تدريجي للقوة الشعبية والمؤسساتية، مع بناء هياكل متكاملة قادرة على إدارة الصراع وتحويل الشرعية الرمزية إلى قدرة فعلية.
٠ القاعدة الاجتماعية المتماسكة ضرورية، حتى لو البداية محدودة، فهي توفر القدرة على التعبئة والحفاظ على أفق سياسي طويل المدى.
٠ الشرعية الرمزية وحدها لا تكفي، يجب تحويلها إلى فعل ملموس يمكن قياس أثره السياسي والاجتماعي والعسكري.
٠ الربط بين الداخل والشتات، واستثمار الدعم العالمي، ضروري لتعزيز القدرة على الصمود، لكنه غير كاف بدون مؤسسات تنظيمية قوية، وآليات مساءلة واضحة.
٠ التعليم السياسي والوعي الجماعي يضمن الالتزام بالهدف الوطني، ويحول التضامن الشعبي إلى قوة فعلية قابلة للتراكم.
ثالثا: الواقع الفلسطيني وفق معايير الحامل السياسي: نقاط القوة والضعف
استنادا إلى الدروس المستخلصة من التجارب الدولية، يمكن تقييم الوضع الفلسطيني الحالي في ضوء المعايير الأساسية السبعة للحامل السياسي، مع التركيز على ما يمكن استثماره وما يمثل قيودا بنيوية لا يمكن تجاوزها بسهولة:
1.3 قاعدة اجتماعية متماسكة
• القوة: فلسطين تمتلك قاعدة بشرية واسعة، داخل الوطن حوالي 7.3 مليون ومثلهم في الشتات، مع شعور جماعي متواصل بالهوية الوطنية، ووعي عام بالقضية الفلسطينية، وموروث تاريخي من المقاومة والتضحيات.
• الضعف: الانقسام الفلسطيني الداخلي والانقسامات بين الفصائل، إضافة إلى استنزاف المجتمع بفعل الإبادة والحصار، يضعف قدرة هذه القاعدة على التعبئة الموحدة وخلق تأثير سياسي فعلي مستمر.
2.3 التنظيم التدريجي والمؤسسي
• القوة: هناك مؤسسات قائمة، مثل منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، وهياكل تنظيمية للفصائل والأحزاب ومؤسسات للمجتمع المدني يمكن البناء عليها.
• الضعف: هذه المؤسسات تعاني من: فقدان البوصلة، هشاشة بنيوية، أزمة تمثيل، وغالبا ما تعمل كأدوات إدارة أو امتثال، بدل أن تكون حوامل سياسية قادرة على التراكم وإدارة الصراع. غياب الرؤية والبرنامج التحرري والتنسيق المركزي بينها في الداخل، وبين الداخل والشتات يضعف القدرة على اتخاذ قرارات استراتيجية طويلة المدى.
3.3 تحويل الشرعية الرمزية إلى فعل ملموس
القوة: المقاومة الفلسطينية المتواصلة العابرة للأجيال والتضحيات المستمرة للشعب الفلسطيني تمنح الشرعية الرمزية للفعل التحرري، ما يجعلها رأس مال سياسي وثقافي أساسي للتعبئة الشعبية الفلسطينية ولحشد التضامن العالمي.
• الضعف: الإشكال لا يكمن في الشرعية نفسها، بل في إطارها المؤسسي، منظمة التحرير الفلسطينية، التي تحظى بشرعية فلسطينية وعربية وإقليمية ودولية، وكانت تشكّل الحامل السياسي للمشروع الوطني التحرري. لكن هذا الإطار تم السطو عليه تدريجيًا:
ا. من قبل القيادة المتنفذة التي سيطرت على مراكز القرار، وأعادت تعريف الحقوق الوطنية الثابتة وغير القابلة للتصرف تحت وطأة ميزان القوى، واستبدلت هدف تحرير الوطن بإقامة دولة على 22% من أرض فلسطين.
• سيطرت القيادة على السلطة والمال، وأضعفت المجلس الوطني الفلسطيني، الإطار التشريعي والرقابي الأعلى، بتعطيل انعقاده الدوري، وتوسيع قاعدة العضوية بالتوافق بين الفصائل خلافا للقوانين والأنظمة الداخلية، وتغييب آلية الانتخاب، والاستعاضة عنه بالمجلس المركزي، واستدعائه عند الحاجة لإضفاء الشرعية على قرارات القيادة المتنفذة.
ب. بعد اتفاق أوسلو، تموضعت قيادة المنظمة في السلطة الفلسطينية التي أنشئت في إطار اتفاق تعاقدي مع العدو النقيض، ضمن بنية مقيدة لإدارة الشعب تحت الاحتلال، بلا سيادة على الأرض والموارد والحدود والحركة، مصادرة بذلك صلاحيات المنظمة الأم.
• تم تعطيل أجهزة المنظمة التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتعطيل المجلس الوطني الفلسطيني، بتجاوز للقوانين والأنظمة الداخلية، ونقل اجتماعاته المتقطعة لمناطق الحكم الذاتي، وتوظيف شرعيته في تعديل الميثاق الوطني عام 1996، وفي إعادة هندسته مؤسسيا ووظيفيا، فأصبحت اجتماعاته تعقد في مناطق سلطة الحكم الذاتي، وباتت مشاركة الأعضاء مرهونة بموافقة إسرائيل التي تسيطر على الحدود، ثم فوض كامل صلاحياته للمجلس المركزي المعاد هيكلته، ما قوّض الشرعية التمثيلية للمنظمة.
ج. لم تؤدِ هذه الإجراءات إلى تقوية السلطة أو تعزيز شرعيتها التمثيلية، إذ استمرت القيادة التنفيذية في الاستئثار بالقرار السياسي وتكريس تفردها بالسيطرة الأمنية والمالية، وتعطيل آلية الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وحل المجلس التشريعي، واعادة تشكيل الجهاز القضائي واحتوائه.
فاقم الأمر انقسام النظام السياسي الفلسطيني عموديا الى سلطتين، واحدة في قطاع غزة والثانية في الضفة الغربية، تم تكريس الانقسام وإدامته منذ عام 2007، بدعم داخلي تربطه علاقات وظيفية ومصلحية، ودعم خارجي إسرائيلي وعربي وإقليمي ودولي. وأصبحت السلطة في الضفة الغربية تدار بمراسيم بقانون وفي قطاع غزة بقرارات تنظيمية لحماس.
د. تشكّلت السلطتان الفلسطينيتان في الضفة الغربية وقطاع غزة ضمن سياق انقسام وطني واحد، لكنهما تطورتا بوظيفتين وبنيتين سياسيتين مختلفتين، وإن اشتركتا في النتيجة النهائية: غياب الحامل السياسي التحرري الجامع.
في الضفة الغربية، نشأت السلطة الفلسطينية بوصفها نتاجا لاتفاق تعاقدي مع الاحتلال، وحدّد هذا الأصل طبيعة علاقتها بالعدو باعتبارها علاقة تنسيق وإدارة للسكان بلا سيادة على الارض والموارد والحركة، وليس علاقة صراع تحرري. ومع مرور الوقت، تحولت وظيفة السلطة إلى إدارة الحياة اليومية تحت الاحتلال بشروط يمليها ميزان القوى المختل، بضبط المجتمع أمنيا وسياسيا واقتصاديا، ضمن سقف مغلق، ما أدى إلى احتواء المقاومة وتجريمها وملاحقتها في كثير من الأحيان، وتعطيل أي مسار تحرري مستقل.
وعلى مستوى الشرعية، تآكلت الشرعية التمثيلية للسلطة بفعل تعطيل الانتخابات، وهيمنة السلطة التنفيذية على التشريع والقضاء والإعلام، ما جعلها سلطة قائمة بلا تفويض شعبي فعلي، وبلا قدرة على تحويل السياسة إلى فعل تحرري.
أما في قطاع غزة، فقد تشكلت السلطة في سياق مختلف جذريا، بوصفها سلطة أمر واقع نشأت نتيجة الصدام الداخلي والانقسام، وليس نتيجة اتفاق مع الاحتلال. لذلك اتسمت علاقتها بالاحتلال بطابع صدامي مباشر تتخلله تفاهمات أمنية، واحتضنت المقاومة المسلحة ووفرت لها غطاء سياسيا وأمنيا نسبيا، ورفضت مسار التسوية والاعتراف بشرعية الاحتلال. غير أن هذا الاحتضان لم يكن بلا ثمن، إذ أدى التداخل بين السلطة والمقاومة إلى تحميل المقاومة أعباء الحكم اليومي، وربط قراراتها باعتبارات إدارة مجتمع محاصر، وحملت الشعب تداعيات الجمع بين الحكم والمقاومة، ما أضعف الفصل بين الفعل التحرري ومتطلبات السلطة.
وعلى صعيد المساءلة، لم تستند سلطة غزة إلى شرعية انتخابية متجددة أو إطار وطني جامع، وبقيت آليات المساءلة محصورة في نطاق تنظيمي ضيق، مع تراجع المجال العام والحريات السياسية.
ورغم اختلاف طبيعة السلطتين ووظيفتيهما، إلا أن مآلهما البنيوي يكشف تشابها عميقا:
سلطة الضفة انتهت إلى سلطة بلا شرعية تحررية، وسلطة غزة انتهت إلى شرعية مقاومة بلا حامل سياسي وطني جامع.
ففي الأولى، جرى تفريغ السياسة من مضمونها التحرري وتحويلها إلى إدارة خسارة تحت الاحتلال، وفي الثانية، جرى استنزاف السياسة عبر دمجها بالحكم المحلي تحت الحصار، دون إطار وطني قادر على تحويل التضحيات إلى أفق استراتيجي شامل.
وقد كشفت لحظة الإبادة الجارية حدود النموذجين معا. ففي الضفة، ظهر العجز البنيوي لسلطة التنسيق عن حماية المجتمع أو الفعل السياسي، وفي غزة انهار نموذج الحكم نفسه، وبقيت المقاومة والمجتمع في مواجهة الإبادة دون حامل سياسي قادر على إدارة الصراع وبلورة أفق وطني جامع.
وعليه، لا يمكن فهم الأزمة الفلسطينية بوصفها أزمة سلطة هنا أو هناك، بل بوصفها أزمة غياب حامل سياسي تحرري موحد، يفصل بين المقاومة والحكم، ويحمي الأولى من الاحتواء أو الاستنزاف، ويحمي المجتمع من التحول إلى مادة لإدارة أو ضبط أو إبادة. هذا الغياب هو ما جعل السلطتين، رغم اختلاف المسارات، تلتقيان في النتيجة النهائية: تعطل السياسة الفلسطينية بوصفها فعلا تحرريا، وتحولها إلى إدارة أزمة دائمة بلا أفق.
النتيجة: الشرعية الرمزية بفعل المقاومة بقيت قوية وواسعة الاعتراف، لكن الإطار المؤسسي الذي كان حاملاً لهذه الشرعية أصبح منقسما وعاجزا عن تحويل الشرعية الرمزيّة إلى فعل سياسي ملموس، أو مشاريع استراتيجية قابلة للتنفيذ. هذا الانفصال بين الشرعية الرمزية والمؤسسية يمثل أحد أعقد تحديات الحامل السياسي الفلسطيني في الوقت الراهن.
4.3 الاستنتاج الاستراتيجي: ما كشفته الإبادة ليس فشل سلطة بعينها، بل: استحالة الجمع بين المقاومة والحكم المحلي المنفصل عن حامل سياسي وطني جامع.
المرحلة المقبلة لا تحتاج: سلطة جديدة في غزة. ولا إعادة إنتاج سلطة رام الله. بل تحتاج: إعادة بناء الحامل السياسي الفلسطيني، الذي:
• يفصل بين المقاومة والحكم،
• يحمي المقاومة دون تحميلها عبء إدارة المجتمع، ويحمي المجتمع من تداعيات الجمع بين الحكم والمقاومة.
• ويحوّل التضحيات الهائلة إلى أفق تحرري وطني جامع.
5.3 الربط بين الداخل والشتات / الدعم الخارجي
القوة: هناك شبكات ربط واضحة بين الداخل الفلسطيني والشتات الفلسطيني، وكذلك مع المؤسسات الدولية. التمويل الدولي متاح، وهناك تضامن عالمي واسع مع القضية الفلسطينية يمكن استثماره لدعم الفعل التحرري السياسي والاجتماعي والثقافي. هذه الشبكات تمثل رأس مال استراتيجي هام، فهي توفر موارد، معرفة، وحماية نسبية ضد ضغوط الاحتلال، وتتيح للداخل الفلسطيني الاستفادة من التجارب والدعم العالمي لتعزيز المقاومة والقدرة على الاستمرارية.
• الضعف: ضعف التنسيق الاستراتيجي بين الداخل والشتات يقلص القدرة على توظيف هذه الموارد والدعم الخارجي بفعالية.
الانقسام السياسي الفلسطيني لم يقتصر على الداخل، بل امتد إلى الشتات، مما أدى إلى إضعاف الفاعل الفلسطيني في الخارج، رغم أن القواعد الشعبية تظل ملتفة حول المقاومة. الفجوة بين القيادات المرتبطة بالمركز وبين القواعد الشعبية أثرت سلبا على التنظيمات السياسية والنقابية والشعبية والجاليات الفلسطينية، وقللت من قدرتها على توحيد الجهود وتنسيق الموارد بشكل فعال. هذا الضعف يضعف المناعة المجتمعية الفلسطينية ويعززالاختراقات والاستقطاب الضار، ويجعل الداخل أكثرعرضة لتأثير التمويل والسياسات الخارجية، التي غالبا ما تُستخدم للحفاظ على نموذج الامتثال المؤسسي بدل بناء قدرة حقيقية على التحرر. كما أن غياب آليات واضحة للمساءلة في إدارة الدعم الخارجي يضاعف مخاطر استغلال الموارد لتعطيل الفعل التحرري وتحويله إلى أدوات لإدامة الهشاشة المؤسسية والاعتماد على الدعم الخارجي بدل الاستثمار في بناء قدرات محلية مستدامة.
النتيجة: الربط بين الداخل والشتات والدعم الخارجي يمكن أن يكون عنصر قوة حاسما في تعزيز المقاومة والسياسة التحررية، لكنه يتحول إلى أداة ضعف إذا لم يكن هناك إطار استراتيجي موحد، وآليات مساءلة واضحة تضمن توظيف الموارد لتحقيق الفعل السياسي الملموس وليس مجرد الحفاظ على امتثال داخلي وخارجي.
6.3 التعليم السياسي والوعي الجماعي
القوة: هناك إرث طويل من النضال السياسي والفكري الذي أنشأ مستويات متفاوتة من الوعي الجماعي، سواء داخل الوطن أو في الشتات. المؤسسات الثقافية، الجامعات، الجمعيات، ووسائل الإعلام الفلسطينية تشكل أدوات لنشر المعرفة بالقضية الوطنية، الحقوق التاريخية، وأفق التحرر. هذا الوعي يشكل رأس مال مهم لتعبئة المجتمع ودعم الفعل السياسي المقاوم، ويعزز التماسك الاجتماعي بين الأجيال المختلفة، ويتيح بناء قاعدة جماهيرية ملتفة حول الأهداف الوطنية العليا.
• الضعف: رغم هذا الإرث، غياب استراتيجية سياسية شاملة يعوق تحويل الوعي الرمزي إلى فعل سياسي متسق ومستدام. الانقسام السياسي الداخلي، وهشاشة المؤسسات، وفجوة التواصل بين القيادات والجماهير، تقلل من قدرة التعليم السياسي على تشكيل فهم موحد للهدف الوطني، وتزيد من احتمالية استغلال التضليل الإعلامي أو الحملات الخارجية لتفكيك الفعل الجماعي. كذلك، القيود الميدانية في الداخل الفلسطيني، خاصة في مناطق غزة والضفة، تحد من انتظام البرامج التعليمية والسياسية، وتقلل من وصولها إلى قطاعات واسعة من المجتمع. هذا النقص يعرض المجتمع للضعف أمام محاولات إضعاف المقاومة أو تفكيك الوحدة المجتمعية، ويحول التعليم السياسي إلى نشاط رمزي أكثر منه أداة بناء قوة حقيقية ومستدامة.
النتيجة: التعليم السياسي والوعي الجماعي يمكن أن يكون رافعة مركزية للفعل التحرري إذا تم توحيد الجهود داخل إطار استراتيجي مؤسسي، يربط المعرفة بالممارسة، ويحول الوعي إلى قدرة جماعية على المشاركة السياسية والمقاومة الفعالة. بدون ذلك، يظل الوعي مجرد موروث رمزي، لا يترجم إلى قوة تنظيمية أو فعل سياسي ملموس.
7.3 أفق تراكم سياسي تدريجي
• القوة: لدى الفلسطينيين قاعدة اجتماعية واسعة وخبرة تاريخية نضالية متراكمة عبر الأجيال، مما يتيح إمكانية تطوير خطوات متسلسلة لبناء قوة سياسية ومقاومة مستدامة. هذه الخبرة توفر معرفة عملية بكيفية الانتقال من مبادرات محلية محدودة إلى تأثير وطني أوسع، مع مراعاة ديناميات الصراع المستمرة، وقدرة المجتمع على تجميع الخبرات وتحويلها إلى استراتيجيات عملية.
• الضعف: رغم الإمكانات، هناك غياب إطار تنفيذي مركزي قادرعلى تحويل التراكم الرمزي والتاريخي إلى مسار سياسي ملموس. الانقسام الفلسطيني المستمر، ضعف وترهل المؤسسات الوطنية السياسية والاجتماعية والثقافية، والأطر النقابية، وتأثير القيادات المتفرقة في الداخل والشتات، أدى إلى تشتت المبادرات وتجزئتها، ما يحول الأفق التراكمي إلى سلسلة من الجهود المتفرقة التي غالبا ما تبقى محدودة التأثير. بالإضافة إلى ذلك، السيطرة الإسرائيلية المستمرة على الأرض والموارد والحركة تجعل من الصعب تحويل التراكم الداخلي إلى نتائج ملموسة، وتضعف قدرة الشعب الفلسطيني على استثمار الدعم الخارجي وتحويله إلى قوة استراتيجية مستدامة.
النتيجة: أفق التراكم السياسي التدريجي ممكن وقابل للتطبيق إذا تم توحيد الجهود ضمن إطار مؤسسي يربط الداخل ببعض وبالشتات، ويحول الخبرة والتضحيات الرمزية إلى خطوات عملية ملموسة، مع مراعاة التحديات الأمنية والسياسية. بدون هذا الإطار، يظل التراكم مجرد إرث رمزي لا يترجم إلى قدرة سياسية قابلة للتنفيذ، ويصبح عرضة للتفكك والاستغلال من قبل الفواعل المحلية والإسرائيلية والعربية والإقليمية والدولية.
8.3 مساءلة وشفافية داخلية
• القوة: القدرة على المساءلة الداخلية والشفافية توفر آلية لضبط الأخطاء والسلوكيات الفردية والتنظيمية، وتحافظ على التماسك داخل الحامل السياسي. وجود مؤسسات أو هياكل مسؤولة عن التقييم الداخلي يمكن أن يحمي السياسة التحررية من الانزلاق نحو الفوضى أو الاستغلال السياسي، ويعزز ثقة المجتمع والمقاومة في القيادة. هذه الآليات، حين تعمل بشكل صحيح، تجعل من النقد أداة بناء وليس أداة تفكيك، وتربط بين المسؤولية والشرعية.
• الضعف: في الحالة الفلسطينية، هناك استحواذ متدرج على مؤسسات المساءلة والتشريع، سواء داخل منظمة التحرير أو السلطة الفلسطينية، أدى إلى تحييد أو تجميد آليات الرقابة والشفافية. تجميد انتخابات المجلس الوطني، التحكم بالمجلس المركزي، حل المجلس التشريعي وتجميد الانتخابات الرئاسية والتشريعية في سلطتي الحكم الذاتي، والسيطرة على السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية والإعلامية، وتغول الأجهزة الأمنية، وتنامي دور المال السياسي، وتضخم الجهاز الحكومي وترهله، وارتفاع أعباء تمويله، وتفشّي المحسوبية والفساد، وغياب مساءلة حقيقية للمسؤولين، وغياب آليات شفافة لتصويب المسار السياسي ومقاومة الفساد الداخلي.
هذا الفراغ يحرم المجتمع من القدرة على المراقبة والمساءلة الفعلية، ويضعف قدرة الحامل السياسي على حماية المقاومة من الأخطاء أو الاختلالات التنظيمية، مما يعرضها للاستغلال السياسي والتشكيك الدولي.
النتيجة: المساءلة والشفافية ليستا رفاهية أكاديمية، بل عنصر وجودي لضمان استمرار الفعل التحرري. بدونها، تصبح المقاومة والسياسة عرضة للارتباك الداخلي، واستنزاف الثقة الشعبية، وتحويل التحديات التنظيمية إلى أدوات لنزع الشرعية عن المقاومة أو تبرير الفشل السياسي. من هنا، تطوير آليات مساءلة فعالة، مرتبطة بالشرعية الرمزية والمؤسسية على حد سواء، هو شرط ضروري لتقوية الحامل السياسي وضمان قدرة الشعب الفلسطيني على إدارة صراعه بطريقة متوازنة ومستدامة.
رابعا: تقييم الحامل السياسي الفلسطيني
تقييم القدرة الحالية للحامل السياسي الفلسطيني يوضح وجود تباين واضح بين الإمكانات والقيود البنيوية، ويمكن تفصيله وفق أربعة أبعاد متداخلة:
1.4 الشرعية التحررية:
رغم أن الشرعية الرمزية للمقاومة ما تزال حاضرة في قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني، إلا أن الشرعية العملية محدودة بسبب الانقسام الفلسطيني وهشاشة المؤسسات الوطنية. الحامل السياسي الحالي يواجه غياب إطار جامع، استقطاب النخب لصالح مصالح خارجية، وهشاشة الشرعية الشعبية نتيجة الأزمة المعيشية. لتعزيز هذا البعد، يجب بناء شبكات دعم مجتمعية تحمي شرعية المقاومة، وتحصن المقاومة بالنقد والمساءلة لتصويب سلوكها.
2.4 الوظيفة التحررية:
القدرة على تنظيم الصراع وإدارة الفعل المقاوم وتحويل التضحيات إلى أفق سياسي تراكمي شبه غائبة حاليا. معظم الفعل المقاوم متفرق، والإطار الرسمي عاجز عن إدارة الأفق الاستراتيجي. الحل الاستراتيجي يستدعي إنشاء إطار تنسيقي وطني يربط المقاومة بالسياسة، ويرسم أهدافا واضحة ضمن أفق طويل المدى.
3.4 العلاقة بالمقاومة:
الحامل السياسي الحالي غير قادر على حماية المقاومة بالكامل، إذ تتعرض استراتيجياتها للاتهام بالتقصير أو الفشل، ويواجه التواصل بين الفاعلين السياسيين والمقاومين ضعفا كبيرا. العلاقة السليمة تعني حماية شرعية المقاومة وتنظيم العلاقة بين الفعل المقاوم والأهداف السياسية، مع مساءلة فعالة مشروطة تمنع الاختلالات ولا تُوظف ضدها.
4.4 العلاقة بالمجتمع:
المجتمع الفلسطيني منهك بفعل الإبادة وسوء الإدارة، ويفتقر في قطاع غزة ومخيمات الضفة إلى مستلزمات البقاء المادي، ويعيش على امتداد فلسطين الانتدابية ظروفا اقتصادية واجتماعية ومعيشية قاسية، ومعرض للاستقطاب السياسي والاجتماعي. ويعاني من الاغتراب السياسي وضعف المشاركة المجتمعية في اتخاذ القرار، وصعوبة تحقيق توازن بين الكلفة والمعنى السياسي، ما يجعله مهددا بالاستنزاف والاستبعاد عن الفعل التحرري.
والتداخل بين السلطة والمقاومة في قطاع غزة أدى إلى تحميل الشعب أعباء المقاومة وتحميل المقاومة أعباء الحكم اليومي، وربط قراراتها باعتبارات إدارة مجتمع محاصر، ما أضعف الفعل التحرري وقوض المناعة المجتمعية.
لذلك، تتزايد إلحاحية بناء آليات مشاركة مرنة تحمي السكان، وتعزز صمودهم، وتوفر مستلزماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية، وتربطهم بالسياسة والمقاومة مع مراعاة التحديات اليومية.
في الواقع الفلسطيني الراهن، يعاني الحامل السياسي من فراغ تمثيلي عميق، وانقسام بنيوي، ووجود سلطات وأطر نخبوية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية فقدت وظيفتها التحررية وتحولت، بدرجات متفاوتة، إلى أدوات إدارة أو ضبط أو احتواء. في هذا الفراغ، تُترك المساءلة بلا حامل، فتتحول إما إلى صراخ أخلاقي معزول، أو إلى مادة خام في حملات نزع الشرعية عن المقاومة.
النتيجة: الحامل السياسي الفلسطيني الحالي لا يملك القدرة على تحويل الشرعية الرمزية والتضحيات الواقعية إلى فعل سياسي ملموس أو مشاريع استراتيجية مستدامة. الشرعية موجودة، لكن إطارها المؤسسي فقد فعاليته، والمقاومة والمجتمع ما يزالان يواجهان مخاطر الاستنزاف والتفكك. تقييم القدرة الحالية للحامل السياسي الفلسطيني يبرز تباينا حادا بين الإمكانات والقيود البنيوية:
الإمكانات:
• الشعب الفلسطيني يشكل قاعدة اجتماعية متماسكة،
• المقاومة عبر الأجيال تمنحه شرعية رمزية قوية،
• التجارب النضالية والتضحيات توفر رأس مال سياسي وثقافي،
• التضامن الدولي الواسع وغير المسبوق يمكن استثماره لدعم الفعل التحرري.
القيود:
• الإطار المؤسسي الذي كان يشكل الحامل السياسي الموحد – منظمة التحرير الفلسطينية – تم تفريغه تدريجيا، أولاً عبر سيطرة القيادة المتنفذة، ثم من خلال السلطة بعد أوسلو. هذا أدى إلى تعطيل المجلس الوطني ونقل الصلاحيات إلى أجهزة أضعفت الشرعية التمثيلية.
• الانقسام السياسي امتد إلى الشتات وأضعف قدرة الربط بين الداخل والخارج، رغم التلاحم الشعبي حول المقاومة.
• آليات المساءلة الداخلية ضعيفة، والأفق السياسي التراكمي غير واضح.
• المجتمع الفلسطيني يواجه تحديات اقتصادية ومعيشية تؤثر على قدرته على المشاركة الفاعلة.
خامسا: الضرورة الاستراتيجية:
• إعادة بناء الحامل السياسي على أساس إطار مؤسسي شرعي وموحد، قادر على إدارة المقاومة، ربط الداخل ببعضه وبالشتات، وحماية المجتمع من الاستنزاف.
• تطوير آليات مساءلة فعالة ومرنة تحصن المقاومة وتصحح الاختلالات دون أن تتحول إلى أداة تصفية.
• العمل على أفق تراكم سياسي تدريجي يربط التجارب المحلية بالمبادرات الدولية، ويحوّل التضحيات الرمزية إلى قدرة فعلية ملموسة.
سادسا: كسر الصمت وخروج الأسئلة إلى العلن:
حين تتحول الأسئلة السياسية من ملك النخب إلى ملك المجتمع، يصبح النقاش ممارسة فعلية لتقوية الحامل السياسي الفلسطيني، وليس مجرد تمرين أكاديمي. إخراج السؤال السياسي إلى العلن يكشف ويبرز:
• الفراغ بين الشرعية الرمزية العالية والأدوات العملية المحدودة، ويجعل الحاجة إلى إطار مؤسسي فعال وملموس أمرا واضحا وملحا.
• التحول من النقاش النظري إلى ممارسة سياسية حقيقية قادرة على استثمار الفرص وحماية المجتمع والمقاومة من الانزلاق إلى فراغ نقدي بلا أثر عملي.
• دور النخب الفكرية والسياسية والثقافية كداعم للعملية، عبر كسر الصمت، والحفاظ على السؤال حيا، مع الحذر من أن يتحول أي نقاش إلى أداة لإضعاف المقاومة أو إعادة إنتاج خطاب الامتثال.
الاشتباك الفكري والتحليل البنيوي ليس ترفا أكاديميا، بل مدخل حاسم لإعادة التفكير في الحامل السياسي الفلسطيني، وضمان وظائفه الأساسية:
• حماية المقاومة وتعزيزها،
• تمكين المساءلة المشروطة لتصويب الفعل المقاوم وفق شروط الموقع والأثر والزمن،
• صون المجتمع الفلسطيني وتعزيز صموده وحمايته من الاستنزاف،
• ضمان بقاء السياسة حيّة وفاعلة في لحظة الإبادة، بحيث تصبح أكثر من مجرد إدارة خسارة، بل فعلا تحرريا مستداما.
بهذا، يصبح النقاش حول السياسة والمساءلة والحامل السياسي الفلسطيني ممارسة استراتيجية حقيقية، تحوّل اللحظة الحالية من أزمة وجودية إلى أفق تحرري واقعي وعملي، يربط بين المقاومة، المجتمع، والسياسة ضمن رؤية متكاملة قابلة للتنفيذ.
سابعا: الحامل السياسي المتعدد الجغرافيا: المقارنة مع تجارب تحرر أخرى
الحالة الفلسطينية ليست استثناء من حيث التوزع الجغرافي، بل تكاد تكون الحالة الأشد تعقيدا ضمن تجارب التحرر الوطني الحديثة. غير أن مقارنة التجربة الفلسطينية بنماذج تحرر أخرى متعددة الجغرافيا تُظهر فارقا جوهريا لا يتعلق بدرجة التشتت، بل بطبيعة العلاقة بين المشروع التحرري والحامل السياسي.
في تجارب تحرر كبرى، مثل الحالة الجزائرية، أو الفيتنامية، أو تجارب جنوب إفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وُجد التعدد الجغرافي بدرجات مختلفة: قواعد خارجية، ساحات نضال داخلية، منافي سياسية، ودعم إقليمي ودولي. غير أن هذا التعدد لم يتحول إلى تشظ، لأن وحدة المشروع التحرري كانت سابقة على وحدة التنظيم. مراكز القرار تنقلت، أحيانا قسرا وأحيانا اختيارا، لكن انتقالها لم يكن موضع صراع، بل تعبيرا عن موقع الفعل الثوري في كل مرحلة.
في هذه النماذج، لم تُفهم القيادة بوصفها موقعا ثابتا، بل وظيفة مرتبطة بقدرة الساحة المعنية على دفع الصراع خطوة إلى الأمام. وعندما كانت ساحات الداخل قادرة على حمل العبء، انتقل مركز الثقل إليها، دون أن يُنظر إلى ذلك كتهديد للإطار الجامع. وعندما تطلّبت الظروف تموضعا خارجيا، جرى ذلك بوصفه تكتيكيا خادما للمشروع، لا بديلا عنه.
في المقابل، تكشف الحالة الفلسطينية عن مفارقة حادة:
ففي المراحل التي امتلكت فيها الحركة الوطنية مشروعا تحرريا جامعا، لم يضرها تعدد المراكز ولا تنقل القرار جغرافيا. لكن مع تآكل المشروع، تحوّل التعدد من عنصر قوة إلى مصدر قلق، وتحولت المركزية من أداة تنسيق إلى أداة ضبط واحتكار. وهكذا لم يصبح الخطر في التشتت الجغرافي ذاته، بل في انفصال الحامل السياسي عن وظيفته التحررية.
الفارق الحاسم بين التجربة الفلسطينية وتلك النماذج لا يكمن في غياب التضحيات، ولا في شراسة العدو فقط، بل في اللحظة التي جرى فيها استبدال المشروع التحرري بإدارة سياسية للواقع القائم. عند هذه النقطة، لم تعد اللامركزية ممكنة، لأن غياب المشروع يجعل كل مركز محتمل تهديدا للمركز القائم، لا إضافة له.
ثامنا: الشرعية في زمن الإبادة: من الاعتراف إلى القدرة على الحمل
تُظهر المقارنة مع تجارب تحرر أخرى متعددة الجغرافيا أن السؤال الحاسم لا يتعلّق بشكل الحامل السياسي ولا بدرجة مركزيته، بل بمصدر شرعيته في اللحظات القصوى. ففي زمن الإبادة، تنهار معايير الشرعية التقليدية: الشرعية التاريخية، والشرعية القانونية، والشرعية التمثيلية الشكلية. ما يبقى فاعلا هو معيار واحد لا يقبل الالتفاف:
القدرة على حمل المشروع التحرري في شروط الاستهداف الوجودي.
في تجارب التحرر التي واجهت لحظات كسر شامل، لم تُستمد الشرعية من الاعتراف الدولي، ولا من تماسك الهياكل، بل من التحام الحامل السياسي بالفعل التحرري والناس معا. الشرعية هناك لم تكن تفويضا مسبقا، بل ممارسة متواصلة تُعاد صياغتها كل يوم في الميدان، وفي التنظيم، وفي الخطاب. ولهذا، لم يكن انتقال مركز القرار الجغرافي موضع مساءلة، لأن الشرعية لم تكن محتكرة في موقع، بل موزّعة حيث توجد القدرة على الصمود والفعل.
في الحالة الفلسطينية، تكشف الإبادة الجارية عن قطيعة عميقة بين الشرعية المعلنة والشرعية الفعلية. فالإطار الذي يحتفظ بالاعتراف الرسمي قد يفقد في الوقت نفسه قدرته على التعبير عن التجربة الحية للناس، بينما تبرز قوى أو ساحات تمتلك حضورا فعليا لكنها تفتقر إلى إطار جامع يحوّل الفعل إلى مشروع. هنا لا تُحلّ الأزمة باستبدال شرعية بأخرى، بل بفهم أن الشرعية في زمن الإبادة لا تُختزن، بل تُنتَج.
الشرعية في هذا الزمن ليست سؤال “من يمثل؟” فقط، بل “من يستطيع أن يحمي معنى التمثيل نفسه؟”. من يستطيع أن:
• يمنع تحويل الدم إلى أداة مساومة سياسية،
• ويمنع اختزال المقاومة في وظيفة عسكرية معزولة،
• ويمنع السياسة من الانحدار إلى إدارة خسارة جماعية،
بهذا المعنى، يصبح الحامل السياسي الشامل هو حامل الشرعية المتحركة:
شرعية لا تتحدد بمركز ثابت، بل بقدرتها على الانتقال حيث تكون المعركة،
ولا تُقاس بمدى الانضباط التنظيمي فقط، بل بمدى اتصالها بالناس وبالمشروع في آن واحد.
وتُعيد الإبادة تعريف الوحدة نفسها. فالوحدة لم تعد وحدة الصف خلف قيادة واحدة، بل وحدة الأفق التحرري بين مكونات مختلفة، لكل منها دور وقدرة وموقع. الشرعية هنا لا تلغي التعدد، بل تنظّمه داخل رؤية واحدة، وتمنع تحوّله إلى صراع تمثيل أو تنازع أدوار.
من هنا، فإن أزمة الشرعية الفلسطينية الراهنة ليست نتيجة تعدد الجغرافيا، بل نتيجة غياب حامل سياسي قادر على تحويل هذا التعدد إلى شرعية تحررية مشتركة. وعليه، فإن إعادة بناء الحامل السياسي الشامل ليست مسألة تنظيمية أو إجرائية، بل شرطًا لإعادة إنتاج الشرعية نفسها في زمن لم يعد يعترف إلا بمن يقدر على حمل المعنى وسط الخراب.
بهذا الربط، تغدو المقارنة مع تجارب التحرر الأخرى أداة نظرية لا للاقتداء، بل للفهم: فحيث تُستعاد الشرعية بوصفها ممارسة تحررية حيّة، يمكن لتعدد الجغرافيا أن يصبح مصدر قوة،
ولانتقال مركز القرار أن يتحول من أزمة إلى ضرورة تاريخية.
تاسعا: معايير شرعية الحامل السياسي في زمن الإبادة
في زمن الإبادة، لا تعود الشرعية السياسية نتاجا للتاريخ وحده، ولا للاعتراف القانوني، ولا للتفويض الانتخابي المؤجَّل أو المعطَّل. إنها شرعية استثنائية، تُقاس بقدرة الحامل السياسي على حماية المعنى الوطني وهو يُستهدف وجوديا. ومن هنا، يمكن تحديد مجموعة من المعايير العملية التي تُمكّن من تقييم شرعية أي حامل سياسي فلسطيني في هذه اللحظة.
1.9 معيار الارتباط بالمشروع التحرري
الشرعية تُستمد أولا من وضوح الانتماء إلى مشروع تحرري جامع غير قابل للاختزال الإداري أو التفاوضي.
الحامل السياسي الشرعي هو من:
• يعرّف الصراع بوصفه صراع تحرر من بنية استعمارية إلغائية
• ولا يحوّله إلى نزاع قابل للإدارة أو الاحتواء،
• ويرفض إعادة تعريف أهدافه بما يتلاءم مع شروط الهيمنة،
أي حامل يفصل نفسه عن المشروع التحرري، أو يؤجله، أو يستبدله بإدارة الواقع القائم، يفقد شرعيته مهما امتلك من تاريخ أو اعتراف.
2.9 معيار القدرة على الحمل لا احتكار التمثيل
في زمن الإبادة، لا تُمنح الشرعية لمن يحتكر التمثيل، بل لمن يملك القدرة على حمل أعباء اللحظة. ويُقاس ذلك بـ:
• القدرة على الاستمرار تحت الاستهداف،
• وتحمل كلفة الموقف السياسي،
• وعدم نقل ثمن الصراع إلى الناس وحدهم،
الشرعية هنا ممارسة، لا صكّ تفويض. من يعجز عن الحمل، أو يحمّل المجتمع كلفة خياراته دون مساءلة، يسقط من معيار الشرعية.
3.9 معيار الاتصال العضوي بالناس
الحامل السياسي الشرعي هو من يحافظ على صلة حيّة بالمجتمع، لا عبر الخطاب فقط، بل عبر:
• تمثيل التجربة اليومية للناس،
• الإصغاء لأشكال التعبير غير المؤطرة تنظيميا،
• وعدم التعامل مع المجتمع كخزان شرعية صامت،
الشرعية في زمن الإبادة تُنتج من الأسفل بقدر ما تُنظَّم من الأعلى. أي انفصال بين الحامل والناس يحوّل السياسة إلى جهاز فوقي فاقد للمصداقية.
4.9 معيار وحدة الرؤية وتعدد الأدوار
الشرعية لا تتطلب وحدة تنظيمية صلبة، بل وحدة رؤية وأفق مع قبول تعدد الأدوار والساحات.
الحامل السياسي الشرعي هو من:
• ينسّق بين مكونات مختلفة دون إخضاعها،
• يعترف بتكامل الأدوار بين الداخل والخارج،
• يسمح بانتقال مركز الفعل والقرار حيث تفرض المرحلة.
احتكار القرار في مركز واحد، أو تجريم المبادرات الخارجة عن السيطرة المركزية، يناقض شرط الشرعية في حالة شعب موزّع ومُستهدف.
5.9 معيار ضبط العلاقة بين المقاومة والسياسة
في زمن الإبادة، تصبح العلاقة بين المقاومة والسياسة اختبارا حاسما للشرعية. الحامل السياسي الشرعي هو من:
• يحمي المقاومة من العزل أو الاستخدام الأداتي،
• ويمنع في الوقت نفسه اختزال السياسة في الفعل العسكري،
• ويضمن بقاء القرار السياسي خادما للأفق التحرري لا مقيدا له.
أي فصل قسري أو خلط انتهازي بين المجالين يفقد السياسة معناها التحرري.
6.9 معيار اللغة والخطاب
اللغة والخطاب ليسا أدوات محايدة، الحامل السياسي الشرعي هو من يستخدم لغة تحمي الكرامة الجمعية، وتوجّه الصراع نحو العدو، وتعزز الوحدة ولا تعمق الانقسام الداخلي.
7.9 معيار المساءلة والاستعداد للتحول
الشرعية ليست حالة مكتسبة إلى الأبد. الحامل السياسي الشرعي هو من:
• يخضع نفسه للمساءلة في قراراته ومآلاتها،
• يعترف بفشل نماذج سابقة دون تبرير أو مكابرة،
• ويملك الاستعداد للتحول البنيوي إذا ثبت عجزه عن أداء الوظيفة،
التمسك بالشكل رغم انهيار الوظيفة هو أحد أشكال فقدان الشرعية.
8.9 خلاصة معيارية
في زمن الإبادة، تُختزل الشرعية في سؤال واحد جامع:
من يقدر على حمل المشروع الوطني، وحماية معناه، وربط السياسة بالتحرر، والناس بالفعل؟
وكل حامل سياسي لا ينجح في الإجابة العملية عن هذا السؤال، مهما كانت مرجعياته، يبقى خارج شرط الشرعية التاريخية لهذه اللحظة.
عاشرا: توسيع مفهوم الحامل السياسي في الحالة الفلسطينية: اللامركزية بوصفها شرطا لا خللا
تفرض الحالة الفلسطينية توسيعا خاصا لمفهوم الحامل السياسي لا يمكن استعارته من نماذج الدول القومية المستقرة، أو حركات التحرر ذات الجغرافيا المتصلة. فالشعب الفلسطيني موزّع قسرا بين الداخل المحتل، والضفة وغزة، والشتات القريب والبعيد، وتحت أنظمة قانونية وسياسية متباينة، ما يجعل أي تصور للحامل السياسي يقوم على مركز واحد ثابت تصورا مصطنعا، بل معيقا للتحرر. في هذا السياق، تصبح الوحدة المطلوبة وحدة رؤية ومشروع وإطار تنسيقي مركزي، لا وحدة تنظيمية هرمية مغلقة. فالحامل السياسي، بمعناه التحرري، لا يُقاس بدرجة تركّزه، بل بقدرته على استيعاب التعدد الجغرافي والاجتماعي، وتحويله إلى قوة متكاملة داخل مشروع واحد.
1.10 اللامركزية التنظيمية ووحدة المشروع
الحامل السياسي الفلسطيني، بحكم التوزع الجغرافي، لا يمكن أن يكون تنظيما مركزيا واحدا يحتكر القرار والتنفيذ. بل يجب أن يكون:
• موحّدًا في الرؤية والهدف التحرري،
• لامركزيًا في البنية والتنظيم،
• مرنًا في تموضع مراكز القرار.
اللامركزية هنا ليست ضعفا، بل شرط بقاء. فهي التي تسمح لكل مكوّن من مكونات الشعب الفلسطيني أن يؤدي دوره وفق شروطه الموضوعية، دون انتظار تفويض دائم من مركز بعيد أو محاصر.
2.10 انتقال مركز القرار: ضرورة تاريخية لا اختلال تنظيمي
تجربة الحركة الوطنية الفلسطينية تؤكد أن انتقال مركز القرار جغرافيا لم يكن سبب ضعفها حين كانت تمتلك مشروعا تحرريا جامعا. على العكس، في مراحل الصعود:
• تنوّعت مراكز الفعل والقرار،
• وتكاملت أدوار الداخل والخارج،
• وبقيت البوصلة موحّدة رغم تباعد الجغرافيا.
كان انتقال مركز القرار استجابة طبيعية لتحولات ميزان الصراع، لا تعبيرا عن انقسام. وعندما امتلكت الحركة رؤية واضحة وبرنامجا تحرريا جامعا، لم يضرّها أن تتوزع مراكزها بين أكثر من ساحة.
3.10 من اللامركزية الخلّاقة إلى المركزية القامعة
المشكلة لم تبدأ مع التعدد، بل مع تحول الإطار المركزي إلى وصاية. فبعد تراجع المشروع التحرري، وخصوصا بعد خروج القيادة من آخر ساحات الاشتباك المباشر عام 1982، ضعفت البنية المركزية، لكنها تمسكت بالقرار بدل أن تعيد توزيعه.
وعندما انتقل مركز النضال الفعلي إلى الأراضي المحتلة عام 1967 مع الانتفاضة الأولى، لم يُستثمر هذا التحول لبناء حامل سياسي متجدد، بل جرى:
• احتواء قيادة الداخل،
• سحب القرار منها،
• إدخال الحركة الوطنية في مسار تفاوضي أعاد تعريف الصراع من تحرري إلى إداري.
هنا لم تعد المركزية أداة تنسيق، بل أداة مصادرة للقرار، فانفصل الحامل السياسي عن المشروع، وتحوّل من إطار جامع إلى بنية تضييق.
4.10 تقلص الحامل السياسي إلى فصائل متنافسة
مع غياب المشروع التحرري الجامع، لم يعد الحامل السياسي قادرا على استيعاب التعدد، فتقلص إلى: تنظيمات فصائلية، متصارعة على التمثيل، متنافسة على الشرعية، منفصلة عن المجتمع في كثير من الأحيان. وهكذا انتقل الفلسطينيون من تعدد مراكز قرار داخل مشروع واحد، إلى تعدد مشاريع داخل شعب واحد، وهو أخطر أشكال التشظي.
5.10 ما بعد الإبادة: إعادة ربط الحامل بالمشروع
في أعقاب الإبادة في غزة، وما يرافقها من استهداف ممنهج في الضفة الغربية وعموم فلسطين الانتدابية، يصبح الخروج من هذا المأزق مشروطا بإعادة تعريف الحامل السياسي من جذوره. وهذا يستوجب:
• إعادة ربط الحامل السياسي بالمشروع التحرري، ليس بالتنظيمات ولا بالأفراد،
• الاعتراف بأن أدوار المكونات الفلسطينية متكاملة لا متنافسة،
• القبول بأن مركز القرار يجب أن يكون حيث يكون الفعل، ويتحرك بتغير المرحلة،
• بناء إطار تنسيقي مركزي يضبط الاتجاه، لا يحتكر القرار.
فالحامل السياسي الشامل ليس من يجمع الفلسطينيين تحت قيادة واحدة صلبة، بل من ينسّق أدوارهم داخل رؤية واحدة، ويحوّل التعدد الجغرافي من عبء إلى رافعة، ومن سبب انقسام إلى مصدر قوة.
6.10 خلاصة مفاهيمية
في الحالة الفلسطينية:
• الوحدة = وحدة رؤية ومشروع
• القيادة = وظيفة متحركة لا موقع ثابت
• المركز = حيث تكون القدرة على حمل البرنامج التحرري
• الحامل السياسي = شبكة تحرر، لا هرم سلطة
بهذا الفهم فقط، يمكن إعادة بناء حامل سياسي قادر على مواصلة الصراع، ومنع تكرار اختزال المشروع الوطني مرة أخرى في تنظيم، أو سلطة، أو مركز معزول عن شعبه.
حادي عشر: أداة تقييم شرعية الحوامل السياسية في زمن الإبادة
هدف الأداة: توفير إطار تحليلي منهجي يميّز بين الشرعية التاريخية والشرعية الفعلية، ويقيس قدرة الحوامل السياسية القائمة على حمل المشروع الوطني في شروط الاستهداف الوجودي، بعيدا عن الانطباعات أو الاصطفافات.
1.11 منهج الاستخدام: التقييم نوعي تحليلي لا رقمي.
لكل معيار ثلاثة مستويات
• متحقق ✔︎
• متحقق جزئيًا ◐
• غير متحقق ✘
• النتيجة ليست “نجاح/فشل”، بل تشخيص موقع الحالة: قادرة – متآكلة / مأزومة – فاقدة للشرعية الوظيفية.
2.11 معايير التقييم:
٠ الارتباط بالمشروع التحرري
سؤال التقييم: هل يعرّف هذا الحامل الصراع بوصفه صراع تحرر من بنية استعمارية إلغائية، أم بوصفه نزاعا إداريا قابلا للاحتواء؟
مؤشرات التحقق: وضوح الهدف التحرري غير القابل للتأجيل، رفض اختزال السياسة في إدارة الواقع، ثبات الخطاب في اللحظات الحرجة
٠ القدرة على الحمل لا احتكار التمثيل
سؤال التقييم: هل يتحمل هذا الحامل كلفة الموقف السياسي عمليا، أم يكتفي باحتكار التمثيل دون قدرة على الحمل؟
مؤشرات التحقق: تحمّل كلفة القرار أمام الناس، عدم نقل الثمن إلى المجتمع وحده، الاستمرار تحت الضغط والاستهداف.
٠ الاتصال العضوي بالناس،
سؤال التقييم: هل يرتبط هذا الحامل بتجربة الناس اليومية، أم يتحدث باسمهم من موقع منفصل عن معاناتهم؟
مؤشرات التحقق: آليات تواصل ومساءلة حقيقية، تمثيل الألم الحي لا الخطاب المجرد، الاعتراف بتعدد أشكال التعبير الشعبي
٠ وحدة الرؤية وتعدد الأدوار،
سؤال التقييم: هل يحافظ هذا الحامل على وحدة الأفق التحرري مع قبول تعدد الساحات والأدوار، أم يفرض مركزية خانقة؟
مؤشرات التحقق: تنسيق لا وصاية، قبول انتقال مركز الفعل والقرار، الاعتراف بتكامل الداخل والخارج
٠ ضبط العلاقة بين المقاومة والسياسة
سؤال التقييم: هل ينجح هذا الحامل في حماية المقاومة سياسيا دون اختزال السياسة في الفعل العسكري؟
مؤشرات التحقق: عدم توظيف المقاومة أداة تفاوضية، عدم عزل المقاومة عن المجتمع، بقاء القرار السياسي خادما للأفق التحرري.
٠ اللغة والخطاب،
سؤال التقييم: هل يستخدم هذا الحامل لغة تحمي الكرامة الجمعية وتوجّه الصراع نحو العدو، أم تُعمّق الانقسام الداخلي؟
مؤشرات التحقق: لغة غير تخوينية، وضوح العدو وعدم تشتيت البوصلة، فتح المجال للنقد دون تصفية
٠ المساءلة والاستعداد للتحول،
سؤال التقييم: هل يخضع هذا الحامل للمساءلة ويملك استعدادًا للتحول البنيوي إذا فشل؟
مؤشرات التحقق: الاعتراف بالأخطاء دون تبرير، مراجعة النماذج السابقة، الاستعداد للتنازل عن الموقع لصالح الوظيفة
3.11 قراءة النتائج (التصنيف التحليلي)
• شرعي وظيفيا: تحقّق غالبية المعايير ✔︎ ، يعني أنه قادر على المشاركة في إعادة التأسيس.
• متآكل الشرعية: مزيج ◐ و✘، يحتاج تحولا بنيويا لا إصلاحا شكليا. مأزوم تمثيليا: احتكار تمثيل مع ضعف القدرة على الحمل يعني توفر شرعية تاريخية دون شرعية راهنة.
• فاقد للشرعية في زمن الإبادة: إخفاق واسع في المعايير يعني أنه عائق أمام إعادة بناء الحامل السياسي الشامل.
هذه الأداة لا تُستخدم للإدانة، بل لتحرير النقاش من الشخصنة، ونقله من سؤال “من يمثل؟” إلى سؤال “من يقدر على الحمل؟”. وهي بذلك تُمهّد عمليا للانتقال من نقد الحالات القائمة إلى تصميم حامل سياسي شامل يستجيب لشروط هذه اللحظة التاريخية.
ثاني عشر: تطبيق أداة التقييم على نماذج مجردة للحوامل السياسية
1.12 مركز / هامش – داخل / خارج
النموذج (أ): المركز الرسمي – خارج/شبه خارج
الوصف المجرد: إطار مركزي يحتفظ بالاعتراف الرسمي والتمثيل القانوني، ويتموضع خارج ساحات الاشتباك المباشر، ويعمل عبر قنوات دبلوماسية وإدارية.
التقييم وفق المعايير:
• الارتباط بالمشروع التحرري: ◐ خطاب وطني عام مع تكييف عملي للصراع.
• القدرة على الحمل: ✘ محدودية في تحمّل كلفة اللحظة.
• الاتصال بالناس: ✘ فجوة واضحة مع التجربة الحية.
• وحدة الرؤية وتعدد الأدوار: ✘ مركزية احتكارية.
• العلاقة بين المقاومة والسياسة: ✘ فصل أو توظيف أداتي
• اللغة والخطاب: ◐ لغة رسمية تفقد أثرها
• المساءلة والاستعداد للتحول: ✘
الخلاصة: نموذج يمتلك شرعية تاريخية/قانونية لكنه فاقد للشرعية الوظيفية في زمن الإبادة. بقاؤه في موقع الاحتكار يُعطّل إعادة التأسيس.
2.12 النموذج (ب): المركز الميداني – داخل
الوصف المجرد: قوى فاعلة داخل ساحات الاستهداف المباشر، تمتلك قدرة على الصمود والفعل، لكنها تعمل غالبًا دون إطار تمثيلي جامع.
التقييم وفق المعايير:
• الارتباط بالمشروع التحرري: ✔︎
• القدرة على الحمل: ✔︎
• الاتصال بالناس: ✔︎
• وحدة الرؤية وتعدد الأدوار: ◐،
• العلاقة بين المقاومة والسياسة: ◐ غلبة الفعل على التنظيم السياسي.
• اللغة والخطاب: ◐
• المساءلة والاستعداد للتحول: ◐
الخلاصة: نموذج يتمتع بشرعية فعلية عالية، لكنه مهدد بالاستنزاف أو العزلة إن لم يُدمَج داخل حامل سياسي شامل يحوّل الفعل إلى مشروع.
3.12 النموذج (ج): الهامش الشعبي – داخل
الوصف المجرد: مجتمع مُستهدَف مباشرة (غزة، المخيمات، القرى)، يحمل العبء الأكبر من الكلفة، لكنه غير ممثَّل سياسيا بصورة منظمة.
التقييم وفق المعايير:
• الارتباط بالمشروع التحرري: ✔︎
• القدرة على الحمل: ✔︎
• الاتصال بالناس: ✔︎✔︎ (جوهره)
• وحدة الرؤية وتعدد الأدوار: ◐
• العلاقة بين المقاومة والسياسة: ◐
• اللغة والخطاب: ✔︎
• المساءلة والاستعداد للتحول: ✔︎
الخلاصة: هذا النموذج هو مصدر الشرعية الأخلاقية والتاريخية، لكنه غير قادر بمفرده على التحول إلى حامل سياسي دون إطار تنسيقي يحميه من الاستغلال أو التهميش.
4.12 النموذج (د): الهامش السياسي/الثقافي – خارج
الوصف المجرد: نخب، مبادرات، شبكات تضامن، ومجتمع مدني في الخارج، تمتلك حرية حركة وخطاب، لكنها بعيدة عن كلفة الاشتباك المباشر.
التقييم وفق المعايير:
• الارتباط بالمشروع التحرري: ◐
• القدرة على الحمل: ◐
• الاتصال بالناس: ◐
• وحدة الرؤية وتعدد الأدوار: ✔︎
• العلاقة بين المقاومة والسياسة: ◐
• اللغة والخطاب: ✔︎
• المساءلة والاستعداد للتحول: ✔︎
الخلاصة: نموذج مُسانِد لا حامل. قوته في الدعم، والتدويل، وإنتاج المعنى، لا في احتكار القرار أو الادعاء بالتمثيل.
5.12 النتيجة التركيبية: أين يكون الحامل السياسي الشامل؟
لا يتحقق الحامل السياسي الشامل في أي نموذج منفرد. إنه نتاج تنسيق بنيوي بين:
• شرعية الفعل (المركز الميداني – الداخل)
• شرعية الألم والتضحية (الهامش الشعبي – الداخل)
• شرعية الإطار والمعنى (الهامش – الخارج)
• مع تفكيك احتكار المركز الرسمي للقرار
الحامل السياسي الشامل هو ما يربط هذه النماذج داخل وحدة رؤية ومشروع، ويُعيد توزيع الوظائف بدل الصراع على المواقع.
6.12 خلاصة حاسمة في زمن الإبادة:
• المركز لا يكون حيث الاعتراف، بل حيث القدرة، القرار لا يُحتكر، بل يُنسَّق، والوحدة لا تعني التطابق، بل التكامل
ثالث عشر: المبادئ التأسيسية للإطار التنسيقي المركزي – اللامركزي
الحامل السياسي الشامل في زمن الإبادة
1.13 مبدأ وحدة المشروع التحرري
الوحدة الوطنية تُبنى على وحدة الرؤية والهدف التحرري، لا على وحدة التنظيم أو القيادة. كل اختلاف خارج هذا الأفق هو اختلاف مشروع، وكل وحدة خارجه وحدة شكلية.
2.13 مبدأ مركزية البوصلة لا مركزية القرار
تكون البوصلة السياسية مركزية ومشتركة، بينما يكون القرار التنفيذي لامركزيا، يُتخذ حيث تكون القدرة الفعلية على الحمل، لا حيث يوجد الاعتراف أو الموقع.
3.13 مبدأ انتقال مركز القرار
مركز القرار وظيفة متحركة، ينتقل بين المكونات والساحات وفق متطلبات المرحلة، ويُدارعبر آلية معلنة تمنع تحوله إلى أداة صراع أو احتكار.
4.13 مبدأ الشرعية الوظيفية
الشرعية لا تُورَّث ولا تُحتكر، بل تُقاس دوريا بقدرة المكوّن على: حمل المشروع التحرري، الاتصال بالناس، تحمّل كلفة الموقف. أي إطار يعجز عن ذلك يفقد شرعيته الوظيفية مهما امتلك من تاريخ.
5.13 مبدأ تكامل الأدوار لا تنافسها
تتوزع الأدوار بين الداخل والخارج، والمركز والهامش، والمقاومة والمجتمع، على أساس التكامل الوظيفي، لا التنازع التمثيلي.
6.13 مبدأ ضبط العلاقة بين المقاومة والسياسة
السياسة خادمة للتحررلا قيدا عليه، والمقاومة محمية سياسيا لا معزولة أو مُوظَّفة. يُمنع اختزال أحدهما في الآخر، أو استخدام أي منهما لتصفية حسابات داخلية.
7.13 مبدأ الإطار التنسيقي لا الوصاية
الإطار التنسيقي ينظّم الاتجاه ولا يحتكر القرار، يربط ولا يهيمن، ويمنع التفكك دون أن يحوّل نفسه إلى سلطة فوقية جديدة.
8.13 مبدأ اللغة الجامعة
اللغة السياسية جزء من المعركة. يلتزم الإطار بخطاب: يحمي الكرامة الجمعية، يوجّه الصراع نحو البنية الاستعمارية، يفتح المجال للنقد دون تخوين أو شيطنة
9.13 مبدأ المساءلة والتحول
كل مكوّن داخل الإطار خاضع للمساءلة الدورية، وقابل لإعادة التموضع أو التحول البنيوي إذا فشل في أداء وظيفته، دون قداسة للأشكال أو المواقع.
10.13 مبدأ الانتقال لا الديمومة
الإطار التنسيقي انتقالي بطبيعته، هدفه منع الانهيار، وتنظيم التعدد، وفتح الطريق أمام إعادة تأسيس التمثيل الوطني الشامل، لا الحلول محلّه أو تجميده.
11.13 خلاصة تأسيسية
بهذه المبادئ، يتحول الحامل السياسي الفلسطيني من: بنية احتكار وتمثيل جامد إلى شبكة تحرر حيّة، متعددة المراكز، موحّدة الأفق، وقابلة للتكيّف في زمن الإبادة.
رابع عشر: حين يصبح التأسيس ضرورة لا خيارا
جاءت المسودة الأولى لتستجيب لأزمة نموذج الحكم الذاتي الذي وصل مداه، وسعت إلى تأسيس مشروع تغيير وطني جديد من خلال اشتباك فكري بين الكتاب. ركزت على نقاط التقاطع بين المساهمات الفردية لتحويلها إلى خلاصات تكسر حاجز الصمت وتفتح الحوار حول الأسئلة الجوهرية. هذه الورقة تكمل الطريق ذاته، وتأتي بعد اشتباك فكري أوسع حول مساءلة المقاومة أثناء الإبادة، ومأزق الحامل السياسي الفلسطيني العاجز الذي يحتكر القرار والتمثيل في مرحلة فاصلة، ويقوض فرص توظيف التحولات الجيوسياسية والتضامن العالمي، رغم التضحيات الهائلة للشعب الفلسطيني في غزة ومخيمات الضفة، للوصول إلى حقوقه الوطنية المشروعة في الحياة والحرية والعودة وتقرير المصير.
في زمن الإبادة، لا تكمن الشرعية في التاريخ أو الاعتراف أو التفويض المؤجل، بل في القدرة على الحمل الفعلي للمشروع التحرري، وحماية معنى التمثيل، وربط السياسة بالتحرر والناس بالفعل. الوحدة المطلوبة ليست مركزية مغلقة، بل وحدة رؤية وأفق، مع استيعاب التعدد الجغرافي والاجتماعي وتحويله إلى قوة متكاملة. اللامركزية هنا ليست ضعفا، بل شرط بقاء، والمساءلة ليست رفاهية، بل عنصر وجودي لضمان استمرار السياسة والتحرر.
إعادة بناء الحامل السياسي الفلسطيني الشامل لم يعد خيارا تنظيميا، بل أصبح شرطا للبقاء وإعادة إنتاج الشرعية في زمن يعترف فقط بمن يستطيع حمل معنى التحرر وسط الخراب. هذا البناء يضمن حماية المجتمع، تعزيز المقاومة، وتراكما سياسيا مستداما. أي نقاش أو مساءلة خارج هذا الإطار، مهما كانت نواياها حسنة، يتحول إلى صدى يضيّع الهدف ويستنزف الفعل التحرري.
تأتي هذه الورقة، بصفتها مسودة ثانية للنقاش، لتكثيف الحوار حول المساءلة والحامل السياسي في زمن الإبادة، والمساهمة في الانتقال من التشخيص إلى التأسيس، ووضع خلاصات تمكن من مواجهة التحديات الوجودية والتصدي لمحاولات اختزال القضية الفلسطينية في ملف إنساني وإغاثي.
وفي هذا السياق، تمثل غزة بعد الإبادة اختبارا عمليا لقدرة الفعل السياسي الفلسطيني على حماية المجتمع والمقاومة، وتحويل الشرعية الرمزية إلى فعل ملموس. مستقبل غزة سيشكل محور مسودة النقاش الثالثة، للانتقال من التشخيص والتحليل إلى التأسيس الفعلي، دون العودة إلى نموذج الحكم الذاتي المستهلك، ودون استبعاد بناء حامل سياسي شامل قادر على مواجهة التحديات البنيوية والوجودية التي كشفتها لحظة الإبادة.
ما تكشفه هذه الورقة ليس مجرد خلل إداري أو سوء تقدير، بل انهيار نموذج كامل لإدارة الصراع الوجودي المستمر منذ ثمانية عقود بوصفه سياسة. الإبادة الجارية لم تخلق هذا الانهيار، لكنها كشفت استحالة التعايش مع عدو نقيض عبر التوازنات أو الواقعية أو الانتظار. لم يعد ممكنا الدوران في حلقة التشخيص، ولا تحويل النقاش إلى سجال أخلاقي حول المقاومة أو رهانات قانونية على اعتراف دولي عاجز عن الحماية أو المحاسبة.
الإبادة أظهرت أن غياب حامل سياسي جامع ليس مسألة تنظيمية، بل فراغ سيادي تُدفع كلفته دما واستنزافا للمقاومة.
في هذا الفراغ، تُترك المقاومة بلا غطاء، والمجتمع بلا أفق، والمساءلة بلا إطار، فتتحول من حماية إلى أداة تشكيك، ومن فعل سياسي إلى مادة لتصفية السياسة.
السؤال الحقيقي لم يعد: كيف نحسّن الإدارة القائمة؟ بل: هل نعترف أن القائم لم يعد صالحا، وأن الإبادة وضعت حدا نهائيا لأي ترميم؟
التأسيس السياسي لم يعد ترفا فكريا، بل شرط راهن لبقاء السياسة، وحماية المقاومة، ومنع المجتمع من التحول إلى كتلة ضحايا بلا قدرة على الفعل.
المرحلة المقبلة تتطلب تحويل هذه اللحظة الحرجة إلى نقطة انطلاق لإعادة بناء حامل سياسي فلسطيني جامع وشرعي، يحمي المقاومة، يفصلها عن إدارة المجتمع، ويحوّل التضحيات إلى أفق وطني تحرري متراكم ومستدام.



