أقلام وأراء

د. عوض سليمية: فائض القوة الاسرائيلي وفائض العجز العربي، الهجوم على قطر بداية

د. عوض سليمية 12-9-2025: فائض القوة الاسرائيلي وفائض العجز العربي، الهجوم على قطر بداية

 الهجوم الجوي الذي شنته إسرائيل على أراضي قطر التي تُعبر الحليف الاستراتيجي الوثيق لواشنطن خارج إطار حلف الناتو في منطقة الشرق الاوسط، لم يكن استغلال فرصة مواتية او خطوة تكتيكية كما يزعم نتنياهو للقضاء على وفد حماس المفاوض. بل هو تصعيد خطير يتجاوز حدود العدوان على الشعب الفلسطيني ليشمل الان عواصم الدول العربية والاسلامية، ويحمل رسائل سياسية وعسكرية تعكس فائض القوة والقدرات العسكرية الاسرائيلية، التي تمنح نتنياهو القدرة على تجاوز كل الخطوط الحمراء العربية- إن وجدت؛ وتجاهل القوانين الدولية وما يعرف في القانون الدولي بسيادة الدول؛ لمهاجمة كل ما تراه إسرائيل تهديداً لأمنها القومي، بغض النظر عن طبيعة وتوقيت ومكان ارتكاب الجريمة.

في الواقع، فإعلانات تغيير الواقع الاستراتيجي للشرق الاوسط التي يتبناها قادة الاحتلال منذ احداث 7 اكتوبر 2023، “سنرى شرقًا أوسطيًا مختلفًا عما رأيناه من قبل… نحن نغير الشرق الاوسط”؛ لم تكن كلمات عابرة، بل تعكس نوايا إسرائيلية واضحة لإعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي بما يخدم مصالح الاحتلال على حساب الدول العربية. لكن للأسف يبدوا ان هذه التصريحات وما افرزته من حقائق على الأرض، لم تُثر انتباه العرب حتى اللحظة. ولم تُؤخذ على محمل الجد؛ على الرغم من حجم المخاطر التي تحملها هذه العبارة على مستقبل الدول العربية وامنها القومي فرادى او جماعات. فالمجازر الدموية المستمرة في قطاع غزة وعموم اراضي دولة فلسطين ومخططات التهجير القسري، الى جانب العدوان المستمر على لبنان والسيطرة على مناطق واسعه من جنوبه، واسقاط نظام الحكم في سورية وتوسيع مناطق النفوذ الإسرائيلي حتى مشارف دمشق، والهجمات المستمرة على اليمن، والعراق، وحرب الـــ 12 يوم على إيران، وهجومها على سفن اسطول الصمود على شواطئ تونس، والان هجوم جوي على قطر، كل هذه الحقائق والاحداث، يبدوا انها في ميزان العرب مجرد احداث عابرة يمكن السيطرة عليها بمرور الوقت، ولا تستحق الرد بأكثر من بيان او اجتماع طارئ.

بالمقابل، يتفاخر نتنياهو ان حكومته تحارب على 7 جبهات – ربما الان 8 قابلة للزيادة لاحقاً، وتحقق فيها إنجازات كبيرة في مسار استعادة ما يسميه “الردع” والحفاظ على التفوق النوعي لاسرائيل وسط محيطها العربي والاسلامي المعادي، وبالتالي فرض ما يسميه “السلام بالقوة” وليس بالمفاوضات، هو التصاق وثيق بعقيدة ترامب “السلام من خلال القوة”. هذه القناعات يطبقها نتنياهو بالأفعال وليس بالأقوال. لم تكد تُطفئ محركات طائراته العائدة من قطر حتى اهتزت اليمن بهجمات كبيرة استهدفت البنى التحتية ومقرات حكم لجماعات الحوثي. في الوقت الذي تواصل فيه طائراته ودباباته تنفيذ محرقة متواصلة في قطاع غزة، واصل الطيران الاسرائيلي هجماته على مواقع في جنوب لبنان وسوريا.  

مستنداً على واشنطن، التي ادعت بأن لا علم لها بنية إسرائيل قصف قطر؛ وأظهر زعيم البيت الابيض انزعاجاً كبيراً من هذه الخطوة غير “الحكيمة”؛ قبل ان يعود ليتأكد من مستوى تحقيق العملية لأهدافها. يتحرك نتنياهو في مساحة واسعة وبلا حدود دون تحسب لاي عواقب، وبدلاً من التراجع ولو بتصريح واحد، عثر على مقاربة بين ما نفذته اسرائيل في قطر وما قامت به واشنطن بعد احداث 11 سبتمبر 2001، في سياق حربها على ما سمته “الارهاب”. “لقد فعلنا بالضبط ما فعلته أمريكا عندما طاردت إرهابيي القاعدة في أفغانستان وعندما قتلت أسامة بن لادن في باكستان”، مضيفًا، “أن الدول التي أشادت بالولايات المتحدة آنذاك “يجب أن تخجل من نفسها لانتقادها إسرائيل الآن”. هذا يعني ببساطة، محاولة من نتنياهو لإنعاش ذاكرة ترامب بأن ما تقوم به إسرائيل لا يجب ان يكون مُستغرباً على الادارة الامريكية. ويقع في سياق ممارسات الادارات الامريكية المتعاقبة وليس استثناءً. ضمن هذا السياق -للتذكير، نفذ الجيش الامريكي عدة هجمات جوية داخل حدود دول تعبرهم واشنطن حلفاء او شركاء؛ بمن فيهم باكستان خلال حربها على تنظيم القاعدة في افغانستان، أشهرها كان حادثة سالالا عام 2011 عندما قتلت واشنطن أكثر من 24 جندي باكستاني بهجوم على نقطة تفتيش بالقرب من الحدود الافغانية. وكرر الجيش الامريكي هذا النوع من الهجمات على قوات عراقية “نيران صديقة” رغم ان بغداد بعد العام 2003 اصبحت حليفة لواشنطن، وكذلك في سوريا وليبيا والبوسنا والهرسك…

لم يتوقف نتنياهو عند حد الاكتفاء بما اسفرت عنه الضربة الجوية على قطر؛ ولم يبذل أي مجهود سياسي او دبلوماسي لتجنب عاصفة الانتقادات الدولية وتهدئة الموقف، بل ذهب ابعد من ذلك، وصعد من مستوى التهديد المباشر للدوحة، ووجه تحذيراً صارماً لقيادتها، “أقول لقطر وجميع الدول التي تأوي الإرهابيين: إما أن تطردوهم أو تحاكموهم. لأنكم إذا لم تفعلوا ذلك، فسنفعل نحن”. تصريحات نتنياهو وجدت من يسوقها في اوساط نخب واشنطن في مبنى الكابيتول؛ والتقطها سفيره يحيئيل ليتر لتكون جزءاً من خطابه بمناسبة ما يسمى الذكرى الخامسة لإعلان اتفاقيات ابراهيم، “إذا فشلت إسرائيل في اغتيال قادة حماس في غارة جوية على قطر، فستنجح في المرة القادمة، ويتفاخر، “لقد وجّهنا إنذارًا للإرهابيين أينما كانوا… سنلاحقهم، وسندمر من سيدمرنا”.

ادعاءات الادارة الامريكية انها لم تتلقى تحذيراً من إسرائيل حول نيتها تنفيذ هجوم على قطر لا يمكن التعامل معه على محمل الجد؛ فواشنطن التي تحتفظ بقاعدة العيديد في قطر وهي أكبر القواعد العسكرية الامريكية خارج اراضيها؛ والتي اصبحت منذ العام 2003 القاعدة الجوية الرئيسية للقيادة المركزية الأمريكية (سنتكوم)؛ ومركز انطلاق لمهاجمة العديد من الدول والاهداف، ومنصة لتزويد إسرائيل بما تحتاجه من اسلحة وذخائر لمواصلة عمليات التطهير العرقي والابادة الجماعية للفلسطينيين في قطاع غزة. والتي جرى تصميمها لتتسع لعشرات الاف الجنود الامريكيين والبريطانيين مع بنية تحتية متطورة، الى جانب احتضانها للعديد من القاذفات الاستراتيجية ومخازن الصواريخ والقنابل وعشرات انظمة الرادارات المتقدمة وانظمة الدفاع الجوي القادرة على اسقاط اية اجسام معادية او غريبة على بعد مئات الكيلومترات، لحماية حياة الجنود الامريكيين والاصول العسكرية الثمينة في القاعدة. مع كل هذه القدرات، يقوم الطيران الاسرائيلي بتجاوز كل انظمة الدفاع الجوي الامريكي ويصل الى اهدافه. هذه الوقائع تجعل من السهل ان يدرك كل من لديه خليتان دماغيتان تعملان أن هذا لا يمكن أن يحدث دون تنسيق اسرائيلي مسبق وكامل مع واشنطن.

العدوان على قطر تحت مبررات اغتيال الوفد المفاوض رسالة لكل من يهمه الامر في العالمين العربي والاسلامي وحتى على المستوى الدولي، تؤكد ما هو مؤكد، ان واشنطن ليست حليفاً موثوقاً، وان مبادرات التطبيع التي يروج لها البعض في خطاباته لن تكون الا من فوهة الــ F35 واخواتها، كما تكشف هذه العملية عن توجه جديد لإسرائيل في المنطقة؛ جوهره انها لم تعد ترى المفاوضات كمسار فعّال لتسوية النزاعات أو تحقيق المصالح. بدلاً من ذلك، أصبح استخدام القوة العسكرية الخيار الأول لتحقيق أهدافها، دون القلق من أي ردود فعل قد تصل إلى مستوى التصعيد العسكري الذي تقوم به ضد الدول ذات السيادة في المنطقة. ويبدوا أن قلم ترامب الذي اشار فيه الى صغر مساحة اسرائيل وسط جغرافيا عربية واسعة جدا لم تكن تصريحاً سياسياً عابراً، لقد بدأت اسرائيل ترسم فعلياً حدود جديدة لمنطقة الشرق الأوسط خارج إطار اتفاقية سايكس بيكو التاريخية. ويتم تأسيس حقائق جديدة على الأرض بفعل القوة العسكرية الإسرائيلية، وهي تطورات يمكن تسميتها مستقبلاً بـ “خارطة خطوط قلم ترامب” للشرق الاوسط الجديد.

الشعار المعكوس “القوة تصنع الحق” الذي يعتمده نتنياهو وقادة اليمين المتطرف، تشير الى ان الهجوم على قطر لن يكون الاخير؛ ولن يكون من المبالغة القول إنه مؤشر على تدريبات عسكرية لتكرار مثل هذا النوع من الهجمات على عواصم الدول العربية والاسلامية في المنطقة؛ بغض النظر عن مستوى علاقاتها مع واشنطن، وربما تتوسع عربات جدعون”2″ لتصبح جدعون “3 و4 و5…” خارج حدود فلسطين. وجهة النظر هذه؛ يمكن العثور عليها بسهولة في منشورات رئيس الكنيست الاسرائيلي أمير اوحانا “هذه رسالة لكل الشرق الاوسط” ويمكن ايجادها بسهولة على موقع أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية مئير المصري “اليوم قطر وغداً تركيا”، كما يمكن قراءتها بوضوح في تصريحات رئيس الاركان الاسرائيلي ايال زامير “نتابع عن كثب تغيير ميزان القوى في الشرق الاوسط”… و”سنهاجم قادة حماس في كل مكان”.

في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه المنطقة العربية، أصبح من الضروري إعادة تقييم العلاقات الاستراتيجية وعلاقات الشراكة مع واشنطن؛ إن الهجوم على قطر يجب ان يكون جرس إنذار للعواصم العربية والاسلامية، خاصة في ظل التناقض بين وجود القواعد العسكرية الأمريكية وعدم توفير الحماية الكافية للدول المضيفة. في هذا السياق، فإن استمرار الاعتماد على المواقف الأمريكية دون امتلاك القدرات الذاتية للدفاع عن المصالح الوطنية يعزز حالة الارتهان ويلغي السيادة. لذلك، يجب أن تتخذ الدول العربية والاسلامية خطوات ذات مغزى نحو تطوير قدراتها العسكرية والاستفادة من الموارد المتاحة لتعزيز أمنها واستقلالها. كما ينبغي فتح نقاش جاد وعلني حول طبيعة المصالح العربية المشتركة مع الولايات المتحدة، بما في ذلك مراجعة دور القواعد العسكرية ومدى تحقيقها للأهداف الأمنية المعلنة. إن بناء شراكات متوازنة قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة سيعزز من قدرة الدول العربية على مواجهة التحديات الإقليمية والدولية بكفاءة واستقلالية، ويضعها في موقع أفضل للدفاع عن مصالحها بعيداً عن الارتهان لأي طرف خارجي. فلا يكفي ان يكون قادة الامة العربية على حق حتى يسمعهم الاخرون، بل يجب عليهم إجادة فن إدارة المصالح المشتركة وبناء التحالفات التي تعزز مكانتهم وتحفظ حقوقهم بين الامم، وهذا لا يمكن ان يكون دون قرار وموقف عربي مشترك يستشعر الخطر القادم.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى