أقلام وأراءشوؤن دولية

د. عوض سليمية: الشرخ عبر الأطلسي في عهد ترامب: تحولات العلاقات الأمريكية-الأوروبية بين التفكك الاستراتيجي وتباين المواقف السياسية

د. عوض سليمية 10-12-2025: الشرخ عبر الأطلسي في عهد ترامب: تحولات العلاقات الأمريكية-الأوروبية بين التفكك الاستراتيجي وتباين المواقف السياسية

كشفت استراتيجية ترامب للأمن القومي -2025؛ عن رغبة جادة للإدارة الامريكية الحالية في إعادة ترتيب وصياغة الاولويات والمصالح الامريكية عبر العالم؛ بما فيها إعادة تقييم العلاقة مع أقرب حلفاء واشنطن التقليديين، وعلى رأسهم دول الاتحاد الاوروبي. هذه العلاقة التي ازدهرت على مدى عقود منذ الحرب الباردة؛ وتعمقت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي 1991؛ بفعل متانة حلف الناتو الذراع العسكري لشمال الاطلسي؛ بدأت تتشقق سريعاً مع عودة ترامب للبيت الابيض للمرة الثانية، نتيجة لتوجهات الإدارة الأمريكية الجديدة وسياساتها التي أعادت رسم السياسة الخارجية على نحو غير تقليدي.

شكلت عودة ترامب للبيت الابيض 2025، مدفوعاً بأجندة انتخابية أكثر وضوحاً من سابقتها، على قاعدة “أمريكا أولاً”؛ نذير شؤم على قادة اوروبا. سريعاً عاد ترامب لاستحضار بقايا اجندته القديمة مع اضافات أكثر جرأة سلطت مزيداً من الضوء على من وصفهم، المستفيدون بالمجان او مستغلي الموارد الامريكية، وبدأت الادارة الجديدة في رسم معالم السياسة الخارجية من عدسة المصالح الامريكية أولاً؛ من الان فصاعداً؛ لا شيء بالمجان، على هذا النحو، بدأت الانذارات الحمراء تومض في عواصم صنع القرار الاوروبي خاصة في برلين وباريس.

حاول الاوروبيون في البداية الاستجابة لطلبات ترامب، وأعلنوا رفع المساهمة المالية للنفقات التشغيلية لحلف الناتو، مع استجابة ضبابية في الملف النووي الايراني، وبعض القضايا الاخرى؛ بما فيها قضايا المناخ والرسوم الجمركية… ومع ذلك، واصل ترامب الدفع نحو تطبيق اجندته السياسية، ومحاولة فرضها على الاوروبيين على الرغم من معاكسة اجندته تماماً لسياساتهم الخارجية. خاصة في قضيتين مشتعلتين، الحرب الروسية الاوكرانية والعدوان المستمر على قطاع غزة. في القضية الاولى، بدأ البيت الابيض بإرسال اشارات ايجابية الى الكرملين، جوهرها وجود رغبة جادة لدى ترامب بإنهاء الحرب القائمة في اوكرانيا؛ مع تفهم الخطوط الحمراء لموسكو، في الملف الثاني، استأنف ترامب تقديم كل اشكال الدعم لاسرائيل، بما فيها الافراج السريع عن شحنة من القنابل ذات الوزن الكبير والقدرات التدميرية الهائلة، كانت قد منعتها إدارة بايدن بسبب مخاوف من استخدامها ضد المدنيين الفلسطينيين من قبل الجيش الاسرائيلي.

في سياق سعي الاوروبيين لرأب الصدع المتزايد مع واشنطن، من ناحية، رحبت بروكسل بجلسات المباحثات المتعلقة بالبرنامج النووي الايراني بين واشنطن وطهران التي استضافتها سلطنة عمان منتصف شهر نيسان ابريل من هذا العام، لكنها انتهت بفشل بسبب تصلب المواقف، واسدل الستار عن الجلسة الخامسة بحرب استمرت 12 يوماً، شنتها اسرائيل بمساعدة الولايات المتحدة. بالمقابل، شعر الاوروبيين بمزيد من الامتعاض عندما بدأت إدارة ترامب تتحدث بإيجابية حول القيادة الروسية؛ وزادت الفجوة اتساعاً مع التهديد بوقف الدعم العسكري الامريكي المجاني لكييف؛ واقرن ترامب الاقوال بالأفعال، عندما بدأ مبعوثوه يجتازون بوابات الكرملين، وصولاً الى إعلان خطة ترامب للسلام ذات الــ 28 بنداً والتي اثارت لغطاً كبيراً في اوساط قادة اوروبا؛ بين داعم ومتحفظ، وكانت اخر نقاط الاشتباك هو معارضة اوروبا الصريحة للهجمات التي ينفذها الجيش الامريكي في البحر الكاريبي؛ باعتبارها مخالفة صريحة للقانون الدولي.

موقف الأوروبيين الرافض لخطة ترامب لانهاء الحرب في أوكرانيا؛ ربما يمكن تحليله -من بين أمور أخرى؛ في سياق التفاف ترامب على إعلان نيويورك، الذي قادته كل من السعودية وفرنسا تبنته غالبية دول العالم؛ هذا الموقف المتقدم على الموقف الامريكي أصاب عصب العين لترامب؛ ودفعه للتحرك نحو إعلان خطته ذات الــ20 بنداً لوقف الحرب على قطاع غزة، في محاولة منه للعودة الى المشهد السياسي في المنطقة؛ من بوابة صانع السلام الوحيد؛ وقطع الطريق على جهود وتوجهات الأوروبيين “المشاكسين” بقيادة فرنسا. عند هذه النقطة، شعر الأوروبيون ان الأمور تزداد سوءً بين الطرفين، وبدأ الخلاف يعصف داخل مكونات الكتلة الأوروبية الواحدة نفسها، وأصبحت الخيارات امامهم شبه معدومة؛ ولا بديل سوى اعلان دعم خطة ترامب في قطاع غزة، على الرغم من ان الخطة تجاهلت بشكل كامل مسار حل الدولتين، والذي يشكل حجر الزاوية في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي.   

يتميز الرئيس ترامب بأسلوبه الفريد في طريقة التعامل مع قادة العالم؛ ويبدو في سياساته انه يفضل في الغالب التعامل مع القادة الاقوياء القادرين على صناعة القرار. ضمن هذه الاستراتيجية الجديدة، أعرب ترامب عن إعجابه بالرئيس بوتين مشيداً بقدراته القيادية في أكثر من مناسبة، ووصفه بــ “رجل روسيا القوي”، و”الرئيس الذكي”. ولم يتردد ترامب في الإشادة بالرئيس الصيني شي جين بينج، الذي ترتدي بلاده قبعة الاقتصاد العالمي، معبرًا عن احترامه لقيادته ووصفه بأنه “ذكي وعبقري ومثالي”، مؤكداً على إعجابه بالطريقة التي يدير بها الصين رغم التوترات التجارية والخلافات السياسية بين البلدين. بالمثل، اظهر ترامب تقديره لزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ اون؛ وانه “يتفق معه بشكل جيد للغاية؛ وهو يملك بلداً يتمتع بإمكانات عظيمة”. كما قال ترامب.

في هذا السياق، حظي الأمير محمد بن سلمان بإشادة واسعة، حين وصفه ترامب بأنه “حليف مهم وصديق شخصي” و”يؤدي عملاً رائعاً”، في اشارة إلى الإنجازات الكبيرة التي حققتها المملكة خلال السنوات الخمس الماضية، والتي تعكس رؤية المملكة 2030 الطموحة. وفي سياق آخر، أشاد ترامب بالرئيس المصري السيسي خلال لقائهما في شرم الشيخ، واصفاً إياه بـ “القائد القوي والصديق العزيز”، مثمناً جهوده المتميزة في إنهاء الحرب على قطاع غزة وتعزيز السلام في المنطقة.

بالمقابل، وعلى الرغم من تملق مارك روته – الأمين العام لحلف الناتو – للرئيس ترامب ووصفه “بالأب الذي يتعين عليه أحياناً استخدام لغة القوة” لفض النزاع، في إشارة لانهاء الحرب بين إيران وإسرائيل، ووصفه لترامب في مناسبة اخرى، بأنه “أقوى زعيم في العالم” القادر على حل النزاع الروسي-الأوكراني، إلا أن قادة أوروبا باستثناء فيكتور أوربان/ المجر وربما جورجيا ميلوني – إيطاليا، لم يحظوا بالقدر ذاته من الإشادة والتقدير الذي ناله قادة آخرون على الساحة الدولية.

في الواقع، تكشف وثيقة الامن القومي الامريكي -2025، ان معيار الرئيس ترامب الجديد في توجيه السياسة الخارجية لبلاده بات يرتكز على مفهوم “القائد القوي” الذي يتمتع بالقدرة على اتخاذ القرارات؛ على الرغم من قناعته انه ليس من السهل ثني مثل هؤلاء القادة عن مواقفهم، لكنه يفضل العمل معهم في تعزيز المصالح المشتركة لبلاده. هذه المعايير الجديدة على ما يبدو؛ لا تنطبق على حلفاء ترامب على ضفة الاطلسي، حيث يرى ترامب أن غياب الرؤية الاستراتيجية في السياسات الداخلية والخارجية لقادة أوروبا يشكل تهديداً ليس فقط على الاستقرار الاقتصادي، بل يحمل مخاطر تفكك الاتحاد الأوروبي وربما اندثار حضارته بشكل كامل؛ وهذا ما لا يروق لترامب مشاهدته.

التوجه الامريكي الجديد يحمل جملة من الرسائل لقادة اوروبا، ويفرض عليهم التحرك العاجل واستنهاض كافة الموارد المتاحة للاستفادة من الظرف القائم؛ وكسر عقود من الارتهان والتبعية للسياسة الخارجية الامريكية، وصياغة رؤية استراتيجية واضحة تتماشى مع سياسات دول الاتحاد في القضايا الوطنية والدولية، وتعزز مكانتهم في النظام الدولي الجديد كشريك فاعل قادر على اتخاذ القرارات المستقلة.    

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى