أقلام وأراء

د. عمرو حمزاوي: حال الشرق الأوسط… الأمن الغائب

د. عمرو حمزاوي 23-9-2025: حال الشرق الأوسط… الأمن الغائب

والشاهد أن في الشرق الأوسط اليوم مجموعة من الدول النافذة والمؤثرة خارج حدودها الوطنية والتي تستطيع، إن أرادت، القيام بأدوار هامة لإطفاء الحرائق المشتعلة. بحسابات القوة الشاملة (القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية والمالية والدبلوماسية والقوة المعنوية) وكذلك بحسابات الأوزان الإقليمية النسبية، تضم هذه المجموعة النافذة دول مصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة وتركيا وإسرائيل وإيران وهي دول تتفاوت سياساتها الراهنة بين الانخراط المباشر في الحروب والحروب بالوكالة كحال إسرائيل وإيران، وبين تورط متنوع المضامين والأدوات في الصراعات المسلحة والنزاعات الأهلية في جوارها القريب أو البعيد كحال السعودية (عسكريا وبأدوات أخرى في اليمن) والإمارات (عسكريا وبأدوات أخرى في اليمن وإلى حد ما في السودان) وتركيا (عسكريا وبأدوات أخرى في سوريا وبدرجة أقل في العراق) وبأدوات غير التدخل العسكري المباشر وهو حال مصر في جوارها المباشر (في فلسطين وفي ليبيا وفي السودان وفي القرن الإفريقي).

يطغى الانخراط في الحروب والحروب بالوكالة على مجمل الفعل الإقليمي لإسرائيل وإيران، ويجعل منهما مسببين للعنف متعدد المستويات في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن ويباعد سياسيا ودبلوماسيا بينهما وبين الدول النافذة الأخرى إلا بالقدر الذي يكفي للحيلولة دون اشتعال المزيد من الحرائق (كالاتفاق السعودي-الإيراني على عودة العلاقات الدبلوماسية وتهدئة الوضع في اليمن والترتيبات المصرية-الإسرائيلية بشأن خفض التوتر في الشريط الحدودي بين الدولتين ومع قطاع غزة). في المقابل، يغلب على السياسات السعودية والإماراتية والتركية والمصرية التوجه نحو الحد من التورط العسكري وغير العسكري في الجوار، والبحث عن حلول تفاوضية وتوافقية تقلل من التهديدات الواردة على الأمن القومي للدول الأربع وتقلل أيضا من إهدار مواردها العسكرية والاقتصادية والمالية في صراعات ونزاعات لن تحل أبدا بقوة السلاح.

على هذا النحو تطورت في الآونة الأخيرة السياسات السعودية والإمارات تجاه اليمن والتركية تجاه سوريا والعراق والمصرية تجاه ليبيا والسودان والقرن الإفريقي الذي تواجه به القاهرة توغل أديس أبابا عبر بوابة أرض الصومال.

على الرغم من تناقضات الفعل والتوجه الحاضرة بين دول المجموعة النافذة، يظل إطفاء حرائق الشرق الأوسط المشتعلة وتجنيبه المزيد من الحروب والصراعات وسباقات التسلح المحمومة مرهونا بسعيها المشترك إلى صياغة ترتيبات للأمن والتعاون تستند إلى مبادئ عادلة وملزمة وتنتظم داخل هيئة إقليمية تفتح عضويتها لكافة الدول الواقعة في المساحة الفاصلة بين إيران شرقا والمغرب غربا، ولها من الأدوات ما يجعلها قادرة على تحفيز علاقات السلام وحسن الجوار والتجارة بين الدول الأعضاء، وتمكن من توظيف تنافس القوى الكبرى وأدوارها الكثيرة بطرق تتقاطع إيجابيا مع أهداف الأمن والتعاون الإقليمي وبإدراك يستند إلى غياب رغبة (وربما انعدام قدرة) الكبار (خاصة الولايات المتحدة الأمريكية) على ابتداع وقيادة نظام متكامل لأمن الشرق الأوسط.

إلا أن التوقف على مدى واقعية «سعي جماعي» لمصر والسعودية والإمارات على سبيل المثال وحدود فاعليته الإنقاذية إنما يرتبط بتفاصيل أحوال ورؤى وسياسات الدول الست، وحسابات القواسم المشتركة الممكنة في مقابل الأهداف الاستراتيجية المتعارضة، وتفضيلات الحكومات والقيادات ومواقعها على المنحنى الإقليمي المركب الواصل بين نهايتين قصويين، صفر سلام وصفر صراع.

قبل نشوب حرب غزة في أكتوبر 2023 كان الشرق الأوسط، وكعهد شعوبه مع وقائعه وتقلباته طوال النصف الثاني من القرن العشرين والعقود والسنوات المنصرمة من القرن الحادي والعشرين، يشهد طيفا داميا من الحروب والصراعات المسلحة والنزاعات الأهلية العصية على الإنهاء أو الإيقاف إن عسكريا أو سياسيا.

كانت إسرائيل تواصل فرض «تصفية الأمر الواقع» على القضية الفلسطينية والانقلاب على حل الدولتين ومبدأ الأرض مقابل السلام بالنشاط الاستيطاني المتصاعد في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وبالحصار المفروض على قطاع غزة، وبتجريد السلطة الوطنية الفلسطينية من أدوات عملها كنواة لدولة فلسطين المستقلة. كانت إسرائيل تواصل الاحتلال والتصفية والاستيطان والحصار وتلحق بالشعب الفلسطيني صنوف العنف الهيكلي المرتبطة بكافة هذه الجرائم وتنزل نظام الفصل العنصري الذي ينتج عنها واقعا معاشا لا فكاك منه، بينما حكوماتها المتعاقبة تتخندق في مواقع اليمين المتطرف وأغلبية مواطناتها ومواطنيها تنتقل على وقع ذلك وعلى وقع استمرار العنف بين المستوطنين الإسرائيليين والفلسطينيين وتراجع الأمن الناتج عنه من تفضيل عام لحل الدولتين إلى رفض جماعي له.

في المقابل، كان الشعب الفلسطيني يرى قضيته الوطنية تصفى واتفاقيات أوسلو تفشل بعد سنوات المفاوضات ومحاولات التسوية الطويلة ومصائر الضفة والقدس وغزة تتعرض لانتكاسات متتالية على وقع الاحتلال والاستيطان والحصار واهتمام الإقليم والعالم بممارسته لحقه المشروع في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة يتراجع بقسوة، ويفقد من ثم هو الآخر إيمانه بالسلام ويتبنى في مواجهة نظام الفصل العنصري الإسرائيلي خليطا من أدوات المقاومة اللاعنفية والعصيان المدني بينما تتورط فصائل مسلحة كحماس والجهاد وغيرهما في العنف والإرهاب.

في مراحل أسبق من الصراع بين إسرائيل والشعب الفلسطيني كان تدهور الأوضاع إن بعنف متبادل بين الطرفين أو بانهيار في الخدمات الأساسية المقدمة لأهل الضفة الغربية والقدس وغزة على وقع الاحتلال والاستيطان والحصار يدفع القوى الإقليمية والقوى الكبرى إلى الاشتباك الإيجابي إن للتوصل إلى اتفاقات لوقف إطلاق النار وهدن مختلفة الآجال أو لتقديم المساعدات للحيلولة دون الغياب الكامل للأمن الإنساني ولإطلاق جهود إعادة الإعمار والبناء. أما قبل نشوب حرب غزة، وباستثناء جهود مصرية وأردنية متكررة شددت على مركزية القضية الفلسطينية وضرورة إحياء مسارات التفاوض والتسوية السلمية بين إسرائيل والفلسطينيين وصولا إلى تطبيق حل الدولتين وذكرت الإقليم والعالم بمبدأ الأرض مقابل السلام، فتوالى الانصراف إلى رؤى واهتمامات أخرى راوحت بين تطبيع «الاتفاقات الإبراهيمية» التي شملت إسرائيل ودولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب وبين الاكتفاء بالإدانة الرمزية لاستمرار الاحتلال والاستيطان والحصار وللعنف المتبادل وتقديم المساعدات الإنسانية للشعب الفلسطيني عبر وكالات الأمم المتحدة المتخصصة والمنظمات غير الحكومية.

أما فيما وراء القضية الفلسطينية وصراع وقائع الاحتلال والاستيطان والحصار وغياب الأمن بين إسرائيل والفلسطينيين، كان الشرق الأوسط قبل نشوب حرب غزة يعاني من صراعات مسلحة ونزاعات أهلية في عديد الساحات الأخرى وكانت تلك الصراعات والنزاعات تورط أيضا عديد القوى الإقليمية والدولية في تفاصيلها. في سوريا التي لم يتوقف بها العنف منذ 2011، في لبنان الذي تفكك نظامه السياسي بينما «حزب الله» يوظف سلاحه لاختطاف القرار الخارجي لبلد متنوع المذاهب وللدفاع عن مصالح الحليف الإيراني وحلفاء إيران في سوريا والعراق وفي اليمن، في العراق الذي تنازع به الميليشيات الشيعية الحكومة الشرعية في استخدام القوة لأهداف داخلية وخارجية بالتنسيق هناك أيضا مع الحليف الإيراني، في اليمن الذي لم تتراجع حدة حربه الأهلية وتهديداته للسلم الإقليمي والعالمي سوى بعد الوساطة الصينية بين السعودية وإيران دون أن يعني ذلك عودة الاستقرار السياسي أو شيء من التحسن في الأوضاع الإنسانية والمجتمعية، في السودان الذي انفجرت حربه الأهلية بسبب ثنائية الجيش النظامي والميليشيات المسلحة والعجز عن بناء نظام سياسي جديد قادر على مواجهة مطالب الأمن الإنساني والمطالب التنموية المتراكمة، في ليبيا حيث تواصلت الصراعات المسلحة والنزاعات الأهلية التي تهدر استقرار بلد غني بموارده وتفرض عليه كوارث لم يعهدها من قبل (كارثة درنة مثالا).

في كافة هذه الساحات، وعلى الرغم من عدم ابتعاد القوى الإقليمية والقوى الدولية عن التدخل بأدوات عسكرية وغير عسكرية متنوعة، لم تتوقف الصراعات والنزاعات المشتعلة وتصاعدت تدريجيا تداعياتها على الأمن الإقليمي والعالمي قبل حرب غزة ومثلما تزايدت ضغوطها على الموارد المتاحة للسياسات الخارجية لعواصم كالقاهرة والرياض وطهران وعواصم كبرى كواشنطن وبكين ودفعتها عملا إلى التسليم بالاحتمالية المرتفعة لاستمرارها وربما تماديها.

في هذه الأجواء نشبت حرب غزة وتمادت تدريجيا إلى ساحات إقليمية أخرى كانت مشتعلة بالفعل ومهددة للأمن بالفعل. وفيها أيضا ومن حولها اتضح عجز القوى الإقليمية إن هي واصلت الاعتماد على القوى الدولية عن وضع حد للعدوانية الإسرائيلية وللحروب والصراعات والنزاعات المشتعلة، وكذلك خليط العجز وعدم الرغبة من قبل القوى الدولية للتدخل أو للاشتباك الإيجابي لإنهاء حرائق الشرق الأوسط.

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى