أقلام وأراء

د. عمرو حمزاوي: ترامب بين موسكو وكييف

د. عمرو حمزاوي 2-12-2025: ترامب بين موسكو وكييف

تعود خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للسلام بين روسيا وأوكرانيا إلى واجهة النقاش الدولي في لحظة يشتد فيها الإرهاق السياسي والعسكري على أطراف الحرب، وتتنامى فيها قناعة أوروبية وأطلسية بأن مسار الصراع بصيغته الحالية لا يمكن أن يستمر من دون كلفة استراتيجية باهظة على الجميع. ومع ذلك، فإن طرح الخطة لا يعكس فقط رغبة الإدارة الأمريكية في وضع حد لحرب استنزفت القدرات الغربية، بل يعبر أيضًا عن إعادة تموضع أمريكي أوسع تجاه التزامات واشنطن الأمنية في أوروبا، وعن مقاربة جديدة للسلام تقوم على الربط بين الدعم العسكري لأوكرانيا وحدود المرونة التفاوضية التي يمكن أن تُظهرها كييف.

في صورتها المتداولة سياسيًا وإعلاميًا، تقوم الخطة على وقف سريع لإطلاق النار، يليه انخراط مباشر في مفاوضات يُفترض أن تعالج القضايا الإقليمية والأمنية الحساسة، بينما يجري استخدام المساعدات العسكرية الأمريكية كأداة لدفع الطرفين إلى تنازلات محددة. ويمنح بعض بنود الخطة روسيا مساحة من الاعتراف الضمني بمكاسبها الميدانية منذ 2022، في مقابل التزامات تتعلق بوقف العمليات الهجومية، وربما الدخول في ترتيبات أمنية مستقبلية تحول دون انزلاق الوضع مجددًا نحو التصعيد. وقد تعاملت إدارة ترامب مع مقترحها بوصفه محاولة عملية لوقف حرب لم تفلح العقوبات ولا الدعم العسكري الغربي في تغيير مسارها جذريًا، وبوصفه أيضًا خطوة لخفض العبء الأمريكي عن جبهة أصبحت مستهلكة للموارد.

غير أن الخطة تواجه أولامعضلة جوهرية تتعلق بموقع أوكرانيا في معادلة التوازنات الأوروبية. فالحرب بالنسبة للقيادة الأوكرانية ليست مجرد نزاع حدودي يمكن احتواؤه أو تجميده، بل هي معركة وجود مرتبطة ببقاء الدولة وسيادتها وهويتها السياسية. ولذلك، فإن أي مقترح يترك لروسيا السيطرة على جزء من الأراضي التي ضمتها بالقوة سيُنظر إليه في كييف كتحويل لاحتلال مؤقت إلى واقع دائم، وكإنكار للدعم السياسي والأخلاقي الذي قدمته الدول الغربية منذ اندلاع الحرب. كما تخشى كييف أن تتحول تسوية سريعة إلى مقدمة لصراع مؤجل، أو إلى تفكك داخلي تستغله موسكو لإضعاف الدولة الأوكرانية من الداخل. وإضافة إلى ذلك، فإن القيادة الأوكرانية، التي استثمرت الكثير من شرعيتها في خطاب المقاومة واستعادة الأراضي، تجد صعوبة سياسية حقيقية في قبول حل يفرض عليها تنازلات جوهرية.

أما المعضلة الثانية، فمرتبطة بالحسابات الروسية. فرغم الضغوط الاقتصادية والعقوبات والعزلة الغربية، ليست موسكو في وضع مضطر إلى قبول تسوية لا تحقق لها مكاسب واضحة. فالحرب، من منظور الكرملين، ليست فقط مواجهة مع أوكرانيا، بل هي محاولة لإعادة تعريف موقع روسيا في النظام الدولي، وإعادة ترسيم حدود علاقتها مع الغرب. ووفق هذا المنطق، فإن القبول بوقف إطلاق نار يجمّد المكاسب الحالية من دون ضمانات طويلة الأجل بعدم توسع الناتو أو نشر بنية عسكرية غربية قرب الحدود الروسية، سيُعد مخاطرة استراتيجية. كما أن روسيا تشعر بأن ميزان القوة الميداني لا يمنعها من الاستمرار، خاصة مع ارتفاع إنتاجها العسكري وقدرتها على التكيف مع العقوبات من خلال شبكة واسعة من الشركاء. ولذلك، فإن استجابتها لأي خطة أمريكية ستظل مشروطة بمدى قدرتها على تثبيت تصورها لنظام أمني جديد في شرق أوروبا.

وفي ضوء هذه التعقيدات، يصبح ردّ الفعل الأوروبي عنصرًا حاسمًا في تقدير فرص الخطة. فالدول الأوروبية الداعمة لأوكرانيا، خصوصًا ألمانيا وفرنسا وبولندا ودول البلطيق، تنظر إلى الحرب على أنها اختبار حاسم لقدرة أوروبا على حماية أمنها الذاتي، وعلى صيانة قاعدة أساسية في النظام الدولي: عدم السماح بتغيير الحدود بالقوة. وبهذا المعنى، فإن تسوية تُبقي روسيا على أراضٍ احتلتها ستُعد تهديدًا مباشرًا لأمن القارة، وخصوصًا للدول القريبة من المجال الحيوي الروسي. وفي الوقت ذاته، تواجه أوروبا محدودية حقيقية لقدراتها العسكرية، وهو ما يدفعها إلى التخوف من أي توجه أمريكي لربط المساعدات لأوكرانيا بتقديم تنازلات. فمثل هذا النهج سيضع الأوروبيين أمام خيارين صعبين: زيادة دعمهم العسكري والمالي إلى مستويات غير مسبوقة لتعويض التراجع الأمريكي، أو القبول بتسوية مجحفة تُضعف الردع وتفتح الباب أمام اختبارات جديدة من جانب موسكو.

ومع ذلك، لا يمكن تجاهل أن أوروبا تعاني أيضًا من إرهاق متصاعد؛ فتكلفة الحرب الاقتصادية، والضغوط السياسية الداخلية، والخوف من تآكل التفوق التكنولوجي والصناعي الغربي، كلها عوامل تدفع بعض العواصم الأوروبية للنظر في أي مبادرة تُوقف إطلاق النار وتعيد فتح المسار الدبلوماسي، شرط ألّا تتناقض مع المبادئ الأساسية للأمن الأوروبي. وبين هذه المبادئ، يظل الحفاظ على استقلال القرار الأوكراني وعدم فرض حلول من الخارج عنصرين أساسيين. ولذلك، فإن الأوروبيين، رغم اعتراضاتهم على بعض عناصر الخطة، لن يرفضوا بالمطلق أي جهد أمريكي يعيد للدبلوماسية دورًا، لكنهم في الوقت ذاته لن يقبلوا مقاربة تستند إلى إعادة توزيع الخسائر بين الأطراف على حساب أوكرانيا وحدها.

على المستوى الأوسع، تعكس خطة ترامب تحولاأكبر في الدور الأمريكي العالمي. فهي ليست فقط محاولة لإنهاء حرب طويلة، بل تعبير عن رؤية ترى أن التحالفات العالمية ليست التزامات مفتوحة، وأن على الشركاء الأوروبيين تحمل جزء أكبر من أعباء أمنهم. وهذا التحول، حتى إن جاء ضمن إطار تفاوضي، يثير قلقًا أوروبيًا متزايدًا من مستقبل العلاقة مع واشنطن، ومن احتمال أن تصبح السياسات الخارجية الأمريكية مرهونة بالحسابات الداخلية والتوازنات الحزبية أكثر من ارتباطها باعتبارات الاستقرار الدولي. ومع ذلك، فإن الخطة تكشف أيضًا إدراكًا أمريكيًا بأن ترك الحرب تستمر من دون أفق ليس خيارًا، وأن غياب مبادرة سياسية سيجعل الجميع يدفع ثمنًا أكبر.

في النهاية، تبدو فرص قبول الأطراف الثلاثة—أوكرانيا وروسيا وأوروبا—بخطة ترامب بالشكل المتداول اليوم محدودة للغاية. فكل طرف يتمسك بمصالح استراتيجية لا يمكن التوفيق بينها بسهولة، ولا توجد مؤشرات على أن الديناميات الميدانية أو السياسية وصلت إلى مرحلة تفرض تسوية غير متوازنة. ومع ذلك، فإن ظهور الخطة يعكس إدراكًا متزايدًا بأن الحرب دخلت مرحلة تحتاج إلى خيال سياسي مختلف، وإلى مقاربة أكثر واقعية تتجاوز منطق الانتصار الكامل إلى التفكير في كيفية بناء ترتيبات أمنية طويلة الأمد.

قد لا تكون الخطة المطروحة الآن قادرة على إنهاء الحرب، لكنها تفتح باب النقاش حول جملة من الأسئلة الأساسية: ما الذي يمكن أن يشكل تسوية عادلة؟ وما الضمانات التي يحتاجها كل طرف؟ وكيف يمكن الحفاظ على أمن أوروبا من دون فرض تنازلات قسرية على أوكرانيا؟ وفي أي إطار يمكن دمج روسيا في نظام أمني جديد يمنع تجدد الصراع؟ هذه الأسئلة، لا الخطة ذاتها، قد تكون البداية الحقيقية لأي مسار تفاوضي واقعي، شرط أن يتأسس على فهم دقيق لجذور النزاع وعلى إدراك عميق بأن أمن أوروبا واستقرار النظام الدولي لن يتحملاً حلولاسريعة أو صفقات جزئية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى