أقلام وأراء

د. عمار علي حسن يكتب – الركام السياسي لبيروت

لم يتأخر اللبنانيون في تلبية نداء الحياة الذي يعشقونه، فبدأوا على الفور في إزالة ركام البيوت المهدمة، والحوائط الزجاجية المحطمة، وتعليق اللافتات التي انخلعت من مكانها، وتهيئة الشوارع أمام المارة، مع تضميد جراح مصابيهم، ودفن موتاهم من الانفجار الرهيب الذي ضرب ميناء بيروت مع حلول مساء الثلاثاء الفائت.
هذا ما بوسع ذلك الشعب اللبناني الصبور، المقبل على العيش بلا حد، أن يفعله، لكنه لم يزل بعد واقفاً على باب ركام أشد قسوة، وأكثر تكدساً، وأرسخ وجوداً، هو من مخلفات سنوات الطائفية، التي انفجرت عنفاً في حرب أهلية امتدت من 1975 إلى 1989، واستوت سلماً في اتفاق أقر النظام الطائفي، باعتبار أن هذا يمثل «الواقعية السياسية» أيامها، أملاً في أن يتغير السياق، وتتبدل الظروف، وتختلف المعادلات، وتتجدد قواعد الممارسة السياسية، فتخرج لبنان من كهف الطائفية إلى براح الدولة الحديثة، لكن ها هي السنوات قد كرت ومرت، ولا يزال لبنان عند حاله القديم.
إن بيروت الجميلة، تكاد ألا تندمل جراحها السياسية. فهناك أعداء متربصون بها، أكثرهم خطورة عليها هم بعض أهلها، الذين لا يريدون أن يأخذوا بيدها لتستمر «ست الدنيا»، كما غنت لها ماجدة الرومي. تريد بيروت، وكما هو كل لبنان، مفارقة حياة «ملوك الطوائف»، وتدخل الدنيا الحديثة، لكن هؤلاء لا يريدون، وإسرائيل أيضاً، كما كان نظام حافظ الأسد الذي لم يكن أمامه من سبيل لإقرار وجوده واستغلاله للبنان، إلا تكريس الطائفية، وتغذيتها، وخلق مراكز نافذة داخل كل طائفة، مرتبطة بهذا النظام، على حساب انطلاق لبنان إلى مستقبل يليق ببلد مختلف بتكوينه الاجتماعي، وخلفية أهله الثقافية، وارتباطاتهم التاريخية، ورهاناتهم على الحاضر والمستقبل، ومثله فعلت أنظمة إقليمية حولت لبنان إلى ساحة لتصفية خلافاتها، وترك مخلفاتها السياسية، الضاجة بالإكراه والضغائن. 
إن النخبة السياسية اللبنانية تبدو المسرح الشكسبيري الذي يجمع بين فرقاء يتآمرون في الخفاء، ويتصارعون في العلن، حول المطامح والمصالح والمناصب. وتتشرب هذه النخبة ملامح المجتمع اللبناني الفسيفسائية المعقدة، فتأتي على شاكلتها مختلطة متداخلة، تتقارب، وتتباعد، وتتجاذب، وتتنافر في حالة من الغليان الذي لا يعرف للابتراد سبيلاً، ولا إلى الراحة طريقاً. ففي لبنان يوجد كل شيء وكل نوع من البشر، الأثرياء المتخمين الذين يتجشؤون البطر، والفقراء المعدمين الذين يناطحون الحياة من أجل لقمة عيش تسد جوعتهم، أو ثوب يستر عورتهم، هناك القصور الفاخرة والسيارات الفارهة في بيروت وجبل لبنان مثلاً، وهناك أكواخ البسطاء وعزب الصفيح على أطراف المدن، وفي أغوار الأقاليم.
وتسيطر «ذهنية الصفقة» على جانب من الحياة. وكما انقسمت العائلات، قسمت المناصب السياسية أو وزعت، فرئيس الدولة مسيحي، ورئيس الوزراء مسلم سُني، ورئيس مجلس النواب مسلم شيعي، وفي الوقت ذاته، توزع مقاعد البرلمان وكراسي الوزارة ووظائف الإدارة العليا على الطوائف، حسب وزنها الاجتماعي. والحياة السياسية عامة يحكمها الزعماء، وهم قادة الطوائف، ورؤوس الميليشيات، ورؤساء الأحزاب، وكبار الملاك. 
ولبنان الذي انفتح على العالم مبكراً، نهل من الثقافات المختلفة حتى ارتوى وتلونت خريطته الفكرية بشتى الألوان، فهناك التحديثي، وهناك التقليدي، وهناك الراديكالي في مقابل المحافظ. ويوجد من يفكر تفكيراً لاتينياً، ومن يسلك نهجاً أنجلوسكسونياً، ويحيا فريق حياة دينية خالصة، وفريق آخر لا يرى للعلمانية بديلاً، وفي خضم هذا الانفتاح، لا تزال العشائرية تعشش في العقل اللبناني. 
إن بعض هذا يعطي لبنان شخصية مختلفة، وذائقة مغايرة، لكنه يصنع ركاماً شديداً، من الضروري أن يفكر اللبنانيون في التخلص منه، لاسيما مع الروح التي ولدت في الشهور الأخيرة، راغبة في التغيير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى