أقلام وأراء

د. علي الجرباوي: لكي لا تفاجئنا النتائج: العودة لـ “حل الدولتين” مجدداً

د. علي الجرباوي 30-10-2023م: لكي لا تفاجئنا النتائج: العودة لـ “حل الدولتين” مجدداً

بسبب الحرب الطاحنة والمدمرة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، عاد موضوع «حل الدولتين» للتداول، وبقوة، في أوساطٍ سياسيةٍ وإقليمية عديدة، بعد أن كان تلاشى الاهتمام به خلال العقد الماضي.

فمن واشنطن والعواصم الأوروبية الداعمة لإسرائيل، مروراً بعواصم الإقليم، وصولاً إلى موسكو وبكين، ترتفع الأصوات حالياً بضرورة العمل، بعد أن تضع الحرب أوزارها، على إيجاد تسوية سياسية دائمة للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وفقاً لمبدأ «حل الدولتين».

قد يكون الدافع وراء إطلاق هذه الدعوات، تحديداً من قِبل الرئيس الأميركي وحلفاء إسرائيل الغربيين، هو تكرار «المونولوج» التخديري المعتاد كلما انفجرت الأوضاع بين إسرائيل وفلسطين، وتأزم الإقليم، وتوتر العالم بسبب ذلك. فكما هو معتاد من التجارب السابقة، يُرفع شعار «حل الدولتين» للفترة اللازمة لمجرد السيطرة على الانفجار، واحتواء التأزم، وتفريغ التوتر، ثم يعود سريعاً بعد ذلك ليُركن مجدداً «على الرّف».

فاللجوء للتداول بـ «حل الدولتين» من قبل واشنطن، ومعها الرتل التقليدي من حلفاء إسرائيل الغربيين، لم يكن حتى الآن يستهدف «حل الصراع»، وإنما هو الشعار المعتمد من قِبلها للاستمرار المريح في «إدارة الصراع».

فـ «حل الدولتين» يتطلب ممارسة ضغط حقيقي على إسرائيل، التي ما فتئت حكوماتها المتعاقبة، جميعها منذ احتلال العام 1967، ترفض إقامة دولة فلسطينية مستقلة وسيادية غرب النهر.

والدول الغربية الراعية لإسرائيل لا تريد، أو ترغب، في ممارسة الضغط المطلوب عليها، وإنما تكتفي بـ «الطلب» منها، ووفقاً لمصالحها، النظر في هذه الإمكانية. ولكون إسرائيل استمرت من الناحية الفعلية بالتحكم بـ «حل الدولتين»، فإن هذا الحل لم يحظَ حتى الآن ببصيص نورٍ أو ببارقة أمل.

ولكن لثلاثة عوامل أساسية، قد يكون الأمر مختلفاً بعض الشيء هذه المرّة. الأول، هو حجم الكارثة الإنسانية والمادية الهائلة التي تُلحقها إسرائيل بقطاع غزة، والتي نكأت جرح القضية الفلسطينية وأعادتها إلى مركز الاهتمام الإقليمي والدولي، بعدما تمّ بتعمُّد إهمالها، بقصد شطبها ونسيانها. فما تقوم به إسرائيل ليس فقط من استهداف ممنهج وفظيع للمدنيين الفلسطينيين وتدمير غير مسبوق للبنى المادية في قطاع غزة، وإنما الدعوة الصريحة لطرد أهله منه فوق ذلك، إضافةً إلى الهجمة الشرسة للجيش والمستوطنين في الضفة، لم يعد من السهل على العالم استساغته واستمرار تجاهله.

وما التحولات المتصاعدة التي تشهدها الساحة الدولية حالياً، أكان على صعيد الرأي العام، أو في أوساط المؤسسات والهيئات الدولية، أو حتى داخل أروقة الحكومات الغربية ذاتها، إلا دليل على أن استمرار «إدارة الصراع» دون «حل مرضٍ ومقبول» لم يعد أمراً ممكناً من الناحية العملية أو مقبولاً من الناحية الأخلاقية.

أما الأمر الثاني، فهو ازدياد قناعة أطراف عديدة داخل إسرائيل، ولكن على وجه التحديد في أوساط داعميها، بأنها لن تتمكن مهما بلغت قدرتها العسكرية من ديمومة الحفاظ على أمنها، طالما بقيت القضية الفلسطينية دون تسوية.

هذا ما أثبتته أحداث السابع من أكتوبر التي نقلت المعركة إلى داخل حدود سيطرتها.

ومع أن إسرائيل، كعادتها، تحاول معالجة الأمر باستخدام قوتها المفرطة لفرض رغبتها، إلا أن التاريخ ينبئنا بأمثلةٍ عديدةٍ عن محدودية قدرة القوة – مهما عظُمت – عندما تتمدد أكثر من طاقتها، على تحقيق الرغبة.

ورغم الأهوال الحالية المروّعة التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة، فإن النتيجة النهائية عندما تضع هذه الحرب أوزارها ستُثبت لأطرافٍ عديدةٍ مدى صحة محدودية قدرتها. فالشعب الفلسطيني، رغم قسوة الاستهداف وعظم المعاناة، أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه لم يعد طيعاً للطرد، بل مصمم على البقاء ومقارعة هذا الاحتلال.

وقد يكون ذلك دافعاً ومحفزاً لتلك الأطراف لتناول موضوع «حل الدولتين» بجدية أكثر من كونه مجرد شعارٍ استهلاكي عابر، كما كان الأمر حتى الآن.

وثالثاً، أن حكومة المستوطنين الإسرائيلية الحالية، اليمينية المتطرفة بامتياز، ورئيسها نتنياهو، مرشحة للإقصاء نتيجة محاسبة قاسية ستأتي بعد انتهاء الحرب.

ستأتي مكانها حكومة جديدة، على الأغلب أن تكون أقل تطرفاً، وأكثر استعداداً للبحث في مسار تسوية للصراع.

وطالما أن إسرائيل هي المتحكمة حتى الآن في مسار «حل الدولتين»، فقد يفتح قدوم هذه الحكومة الإسرائيلية المتوقعة المجال أمام إمكانية إعادة إحياء مسار التسوية السياسية.

مع أنه سيكون من الجيد إعادة الاعتبار لـ «حل الدولتين»، خصوصاً مع وطأة ما يجري من فظاعاتٍ يتعرض لها الفلسطينيون في قطاع غزة حالياً، إلا أنه يجدر التنبه والحذر فلسطينياً مما قد يحمله مسار «حل الدولتين» في هذه الظروف الضاغطة من مخاطر محدقة بمصير القضية الوطنية الفلسطينية، والاستعداد الجيد لمواجهة الاحتمالات القادمة.

في هذا السياق يجدر التشديد على أن الكرب الذي يحيق بقطاع غزة حالياً يجب ألا يغشي بصرنا عن رؤية الأهداف الاستراتيجية التي ستحاول إسرائيل فرضها في حال العودة لمسار التسوية السياسية.

علينا الانتباه إلى أنه مع الحرب الفظيعة التي تشنها إسرائيل حالياً، فإن الهدف الإسرائيلي الاستراتيجي تجاه قطاع غزة يبقى على حاله، محصوراً في المسألة الأمنية. فإسرائيل لا تريد قطاع غزة، وإنما تريد ضمان أمنها من قطاع غزة. وفي حال ضمانها ذلك، ستكون مستعدة لاتخاذ خطوات «تطبيعية» بشأنه.

الأمر مختلف تماماً تجاه منطقة القدس والضفة، التي يتمحور الصراع استراتيجياً بالنسبة لإسرائيل عليها، وتريد حسم الأمر بشأنها. هي لا تقبل الانسحاب من هذه المنطقة، وفي أحسن الأحوال «ستنسحب» من مناطق ضمنها، تكون منفصلة عن بعضها، لتكون معازل تحشر الفلسطينيين فيها، بينما تستأثر هي بأوسع مساحة ممكنة تضمها فعلياً لها.

بما أن الصراع يتمحور، من الناحية الاستراتيجية، على مصير القدس والضفة، فإن الوضع الضاغط حالياً باتجاه الذهاب بعد انتهاء الحرب على قطاع غزة باتجاه فتح مسار التسوية السياسية، من الممكن أن يوفر لإسرائيل وداعميها إمكانية إغلاق هذا الصراع وفقاً للمصلحة الإسرائيلية. وقد يأخذ ذلك أحد مسارين:

تكريس فصل مستقبل قطاع غزة عن القدس والضفة الغربية: تحت وطأة ضرورة معالجة الأوضاع الإنسانية الصعبة الناجمة عن هذه الحرب المجنونة، وضرورة البدء بعملية طويلة المدى ومعقدة الأبعاد لإعمار القطاع، من جهة، وعدم تمكين حركة حماس من الاستمرار في حكم القطاع، من جهة أخرى، من المحتمل بزوغ توجه يدعو لإيجاد ترتيب جديد لـ «إشراف مرحلي» على القطاع، وفق معادلة دولية – إقليمية – محلية غزية.

تُشكل بموجب هذا الترتيب «هيئة إدارية» للقطاع، تتكفل بشؤون إعادة الوظائف المدنية، والشروع في عملية الإعمار، تؤازرها قوة عسكرية خارجية للمحافظة على الأمن.

وقد يتطلب النجاح في هذا المسار الحصول على موافقة السلطة الوطنية الفلسطينية، تحت ذريعة أنه ترتيب مؤقت لحين استتباب الأوضاع، وبما يتيح للسلطة استلام زمام الأمور لاحقاً.

إن تم القبول بهذا المسار، لن تتمكن السلطة الفلسطينية من مدّ سيطرتها من الضفة على القطاع، بل سيتم مع مرور الوقت وانسياب الوضع، إنهاء وجودها في الضفة، إما بنقل مركزها إلى القطاع، أو باستبدالها كلياً بأخرى في القطاع.

أما مآل هذا المسار فقد يكون تحقيق «حل الدولتين» بإقامة الدولة الفلسطينية في قطاع غزة، التي من الممكن أن تتمتع بجوانب محددة من السيادة. أما ثمن ذلك فيكون إبقاء وضع القدس والضفة معلّقاً ومنفصلاً عن وضع القطاع، مع الحفاظ على شعلة أمل متقدة، وفق سياسة الخطوة خطوة، بأن تتم معالجة مصير تلك المنطقة في قادم الأيام.

وبالطبع، سيستمر قضم الأرض، والتسويف، إلى أن ينتهي الأمر بابتلاع إسرائيل لكامل الضفة، بما فيها القدس.

أما مسألة معالجة الشؤون المدنية لحياة الفلسطينيين في معازل الضفة فستحاول إسرائيل، بمساعدة حلفائها، رمي جوانب من المهمة على الأردن.

الحل المركّب بإلحاق معازل الضفة بقطاع غزة: لا يختلف هذا الخيار بأساسه عن الخيار الأول، وإنما في التفاصيل الجزئية فقط. فهو خيار مثل الخيار الأول يقوم على تحويل قطاع غزة إلى دولة فلسطينية، تصبح فيها مدينة غزة مركز السلطة الفلسطينية. أما الفرق فهو إنهاء وضع الضفة بتقاسم إقليمي/وظيفي بين إسرائيل والدولة الفلسطينية الغزية.

بناء على هذا التقسيم تسيطر إسرائيل على الجزء الأكبر من الضفة، بينما تسيطر الدولة الغزية على «البقايا»، وهي المعازل المدينية التي يُحشر فيها الفلسطينيون الذين يصبحون في شؤونهم المدنية تابعين للدولة الفلسطينية المحصورة في القطاع. ويتم وصل هذه المعازل ببعضها بطرقٍ تصبح هي الالتفافية، وتوصل جميعها مع القطاع برابطٍ مقيدٍ بقيود إسرائيلية. وفي حين تُمنح الدولة الفلسطينية في القطاع جوانب سيادية محددة، فإن وضعها في «بقايا» الضفة لا يزيد على تكريسها كسلطة حكم ذاتي تابعة للدولة الغزية.

لا حاجة للتوضيح أن كلا المسارين سيُلحق ضرراً دائماً بالمصير الفلسطيني. ولذلك، ومع أن تصاعد الدعوات في العالم لفتح مسار التسوية السياسية على أساس «حل الدولتين» يمكن أن يُرى وكأنه تطور إيجابي، إلا أن التحوّط مما قد تُفضي له تلك الدعوات من مسارات ذات نتائج وخيمة يصبح أمراً واجباً وضرورة.

كي لا تفاجئنا النتائج، من الجيد القيام المسبق بحساب الحسابات، واتخاذ ما يلزم من استعدادات.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى