أقلام وأراء

د. علي الجرباوي: قرع جدران الخزّان

د. علي الجرباوي 18-10-2024: قرع جدران الخزّان

كالإعلان عن “اتفاق أوسلو” قبل ثلاثة عقود، لم تفاجئ عملية “طوفان الأقصى” العالم فحسب، بل فاجأت الفلسطينيين أيضاً، وبالأساس. أما مردّ المفاجأة للفلسطينيين في كلتا الحالتين، مع اختلاف مضمونهما عن بعض، فكان أن القرار بخصوص كلٍ منهما اتُخذ خِفيةً خلف أبواب موصدة، فجاء مغايراً لما ألفوه واعتادوا عليه من النمطية الرتيبة التي تعمل وفقها السياسة الفلسطينية. فمنذ ما يزيد بقليل عن النصف قرن، أي منذ مطلع السبعينيات، استكان الفلسطينيون بشكلٍ عام على عملية سياسية اتسمت بالتلكؤ والاجترار في عملية صنع القرار السياسي. وكان ذلك من أهم أسباب ما شاب الوضع الفلسطيني من نكوصٍ وضعفٍ على مختلف المستويات، أصبح مزمناً، واستفحلت تراكماته السلبية مع مرور الوقت، حتى وصلت حالياً إلى تكريس حالة أضحت مستعصية من الجمود السياسي المسؤول عن تآكل شديد في المقدرة والفاعلية السياسية، داخلياً وإقليمياً ودولياً على السواء.

فيما يتعلق بالشأن السياسي، نحن دائماً في الانتظار، لا لنُحدث شيئاً نؤثّر به على ما يحدث لنا، بل أن يحدث شيءٌ ما، في مكانٍ ما، من خارجنا، ليس لنا علاقة به، أو قدرة تأثيرية عليه، يُغيّر المعادلة لصالحنا. نحن دائماً في انتظار تبدُّل الحكومة الإسرائيلية، ونتائج الانتخابات الأميركية، وتغيُّر مأمول في موقف موسكو وبكين، والتعويل على طهران وأنقرة، ناهيك عن تمنياتٍ بحدوث “انقلابٍ” في سياسة العواصم العربية، أو في أيٍّ منها، مهما كان. نُراقب، ونُتابع، ونُحلل، وفي العادة نُكثر من التذمّر على واقعٍ لا يتغير. المهم في الأمر أننا لا نسأل، أو نتغاضى عن أن نسأل، أنفسنا السؤال الأهم: ما الذي يجب علينا نحن أن نفعل كي نُغيّر، أو على الأقل أن نُسهم إيجابياً في تغيير، الحال الذي نحن فيه؟ أما الأمر الأهم فهو أننا لا نُقدم على فعل شيء فعّال بهذا الشأن، كوننا نعيش تحت وطأة وهمٍ بأننا نقوم بالفعل بكل ما يلزم منا. ليس هذا فحسب، بل لقد أنبتنا ورسّخنا الانطباع في أنفسنا بأن “ما نقوم به” هو العامل الفاعل الأساس والحاسم في العملية السياسية الدائرة من حولنا. فلن يحدث أي تحوُّل، ولن يحصل أي تغيير، إلا بإرادتنا وموافقتنا. مفارقة انفصامية عجيبة بين انتظار حدوث أي تحوُّل خارجي على أمل، من جهة، والقناعة التامة بالسيطرة الذاتية على الموقف، من جهة ثانية: راحة واستراحة يولدّان حالة من الرضى عن الذات، والاسترخاء!

من المفيد التنبه إلى أن تجربتنا الطويلة في انتظار حصول المتغير الخارجي أدت، وتؤدي، وعلى الأغلب أنها ستؤدي إن لم يتم تغيير الاتجاه، لاتخاذ قرارات سياسية كان من المفيد اتخاذها في وقتها لتكون فاعلة ومؤثرة، ولكن جرى التلكؤ والتأخير في اتخاذها، فأضحت بفعل التقادم غير ذات تأثير يُذكر. علّنا نتذكّر أن منظمة التحرير وافقت على قرار 242 بعد حوالي عشرين عاماً على صدوره. كما وأن حركة حماس وافقت الآن على الدولة الفلسطينية بعد مرور أربعين عاماً على قبول المنظمة رسمياً بذلك، وإعلانها قيام الدولة، وبعد أن أضحت إمكانية إقامتها فعلياً، وفق الرؤية الفلسطينية، أمراً مستحيل المنال. هذا غيض من فيض قرارات كنا بحاجة لاتخاذها في الوقت المناسب، فإما لم نفعل بتاتاً، أو تلكأنا بها، فأدت إلى تآكل موقفنا السياسي دون مردود مناسب.

لماذا هذا التعويل على الانتظار، والتلكؤ في اتخاذ القرار، وفقدان الفاعلية التأثيرية في مجريات الأحداث السياسية التي تؤثر على حياتنا ومستقبل قضيتنا الوطنية؟!

أسباب عديدة يمكن إيرادها للإجابة عن السؤال، منها ما هو “مُعلّبٌ” يستهدف التبرير. يمكن أن يقال، وهو كثيراً ما يقال، بأننا لا نواجه إسرائيل لوحدها، بل أميركا التي بيدها 99% من الأوراق، وأن التحالف الغربي ضدنا أقوى من استطاعتنا، وأننا نتعامل مع واقع إقليمي ما فتئ يخذلنا. كل هذا صحيح، ولكن ليس كافياً لإعفاء ذواتنا من المسؤولية. فمهما كانت قدراتنا متواضعة أمام أثقال التحالفات الموجهة ضدنا، إلا أن ذلك لا يعني فقداننا للقدرة والفاعلية بشكل كامل. نحن نملك الإمكانية، مهما كانت محدودة، ولكننا لا نمارسها. وفي هذا الأمر، علينا تحمّل مسؤولية الفشل بالكامل.

في الشأن السياسي، نحن منشغلون بأنفسنا، أكثر بكثير منه بقضيتنا وتحقيق هدفنا الوطني. فعلى مدى تاريخ حركتنا الوطنية المعاصرة، بقينا منقسمين سياسياً إلى أطرافٍ لم تبحث بشكل جدّي فيما بينها عن القواسم المشتركة الضرورية لنسج ائتلاف متين يخدم القضية كالهدف الأساسي، وينحّي الخلافات بينها إلى وضعية ثانوية مُسيطَر عليها ومُتفاهَم بشأنها. بالعكس، تصرّف كل طرفٍ، من أيام المجلسيين والمعارضة حتى الآن، على أن كل واحدٍ منها هو القضية. ولأن إقصاء الآخر أصبح هو الهدف المنشود، أصبح الشأن السياسي منكفئاً على تحقيق الحسم الداخلي، وليس على مواجهة التحديات الخارجية المتصاعدة، والتي اختُزلت من ضرورة الفعل الجدّي إلى مجرد مبالغات بلاغية هدفها التستر على المناحرات الداخلية المحتدمة. وبما أن المناكفة الداخلية أصبحت هي لُبّ الفعل السياسي، فقد أصبحت السياسة الفلسطينية مجالاً سلبياً وإقصائياً، يُجيّر لتجييش “الجمهور” من قِبل كل طرف لتسجيل النقاط على الطرف الآخر وتقويض شرعية وجوده ومكانته.

هذا الانشغال بالذات أدى بالمجال السياسي لأن يصبح شعبوياً، تراشقياً، ومزدحماً بالاتهامات، وللدرجة التي تقلصت فيها المساحة المتبقية لمتابعة الهدف الوطني العام إلى الحدود الدنيا. وعندما يصبح الوضع على هذا الحال، فإن الأهداف والأجندات الخاصة تبدأ بتعبئة الفراغ؛ الأغلبية من متعاطي السياسية تنشغل بالسعي لتأمين المواقع والمنافع والبقاء ضمن دائرة الحظوات. وهذا ما يحيل النظام السياسي إلى منظومة زبائنية يُستخدم فيها الهدف الوطني مجرد غطاء. في هذه المنظومة يكثر المستفيدون، كما والطامحون، عند كل طرف من الأطراف. ولأن المجال السياسي يصبح مجالاً رحباً للـ”مبارزة واستعراض العضلات” المشخصنَة، فإن المتأثر سلباً هو بالعادة ما يكون النقاش والحوار البنّاء، والمساءلة والمحاسبة على أسس موضوعية، ووجود أسس قويمة للتغيير الذي هو عصب الحياة لكل نظام سياسي فعّال. وبغياب كل ذلك، يصيب الركود النظام المبتلى، ويصبح ضعيفاً ومكشوفاً أمام تدخّل مختلف الأطراف.

يمكن لذوي الأطراف المتناحرة حالياً داخل النظام السياسي الفلسطيني الادعاء أن هذا التقييم سلبي ومتشائم أكثر مما ينبغي، وأن الوضع ليس بالسوء الموصوف. ولكن ما استدعى هذه المكاشفة هو الكشف عن تجدد الحديث حول بحث الإدارة الأميركية مع أطراف دولية وإقليمية بشأن ما أصبح يُعرف بخطة “اليوم التالي” للحرب على غزة، من جهة، وعدم الاستعداد الفلسطيني الجدّي لهذا “اليوم التالي” سوى الادعاء أن الموضوع محسوم، وأن “اليوم التالي” سيكون فلسطينياً بامتياز، ورغماً عن رغبات وتدخلات مختلف الأطراف.

في هذه المسألة، يصلح توصيف الوضع الفلسطيني بالمثل الشائع الذي يقول: “يقتفي أثر الذئب مع أنه يراه”. سيكون هناك “اليوم التالي” للحرب على غزة، فهذه الحرب سوف تنتهي في يوم من الأيام، وسيكون هناك أجندات وجداول أعمال يُعدّ لها منذ اندلعت هذه الحرب، أولها إسرائيلي، وثانيها دولي – إقليمي. أما الغائب الأكبر فهو الأجندة الفلسطينية المتعلقة بالموضوع، والتي يُدّعى أنها موجودة، ولكنها غائبة بامتياز. قد يسأل سائل: وكيف تم الحكم على أنها غائبة؟ الأمر سهل، باختصار، العالم “يرى الكثير من الطحن، ولا يرى طحيناً”. اجتماعات تلو اجتماعات، وبيانات تلي بيانات، ولا يوجد أي خطوات عملية تُنبئ وتقنع الفلسطينيين والعالم أن ترتيب البيت الفلسطيني قد بدأ يخطو خطوات فعلية تنهي ليس الانقسام على محاصصة النظام السياسي، وإنما تنهي الانقسام المُسبب لتكلس هذا النظام، وبما يبدأ باستعادة فاعليته وقدرته على الصمود في وجه المصاعب الجمة القادمة.

لا يوجد ذرائع يمكنها تغطية حالة الوهن والانكشاف الذي نحن فيه. ولا يمكن للمناكفات المستمرة والتراشق بالاتهامات، أن تعين في تأمين المناعة المهدورة للنظام السياسي الفلسطيني. المسؤولية هي فلسطينية بالأساس، وإن لم يتم تدارك الأمر، وتغيير اتجاه المسار، والبدء باتخاذ القرارات الصعبة، ستُترك الساحة لمالئي الفراغ، وسيكون علينا وعلى قضيتنا الوطنية السلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى