أقلام وأراء

د. علاء أبو عامر: شيرين أبو عاقلة والعدالة الأميركية المعطوبة

د. علاء أبو عامر ٧-٧-٢٠٢٢م

لم يكن ثمّة حاجة لمنح الأميركان يدًا في قضية قتل الصحافية الفلسطينية، شيرين أبو عاقلة، حتى لو كانت مواطنة أميركية أيضًا، لأن موقفهم معروف، ولم يتغير على الصعيد الرسمي، وربما لن يتغير قريبًا، رغم وجود مؤشرات كبيرة على تحوّلات في قاعدة الحزب الديمقراطي الحاكم في السنوات الأخيرة لصالح إنصاف الشعب الفلسطيني.

تظل شيرين مواطنة فلسطينية مقدسية أولًا وأخيرًا، وقد قُتلت لأنها فلسطينية ولأنها صحافية تعمل في قناة الجزيرة، ولم تُقتل لأنها أميركية، ولا أظن أن تلك الجنسية أو أي جنسيةٍ أوروبية، قادرة على حماية الفلسطيني من القتل أو الإجرام والقمع الصهيوني، فالصهاينة تعاملوا مع الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الأميركية حتى وقت قريب من خلال التمييز العنصري، وفق معاييرهم الخاصة وتصنيفاتهم هم، وليس بحسب جنسيتهم الأميركية، وذلك عندما يتعلق الأمر بدخولهم أراضي وطنهم الفلسطيني التاريخي، بل إن الجنسية الأميركية لم تحم المواطنة والناشطة الأميركية اليهودية في “هيئة التضامن الدولي”، راشيل كوري، من القتل المتعمد بجرافة صهيونية عام 2003، لأنها كانت شاهدة على مجزرة تدمير البيوت الفلسطينية في رفح. قتل الصهاينة شاهدًا كان ينقل المأساة والجرائم الصهيونية إلى العالم، وكان جيش الاحتلال قد أغلق ملف التحقيق الذي أجراه بمقتل كوري، قائلًا إن مقتلها كان “حادثًا عرضيًا، ولن يُحاسب الجنود الإسرائيليين على حادثٍ لا يتحمّلون مسؤوليته”.

في ذاك الوقت، كذّبَ الصهاينة والدها وشهود العيان بإجماعهم أن كوري كانت ترتدي زيًا برتقالي اللون للتعريف بنفسها بأنها ناشطة سلام. وبالمقارنة، قُتلت شيرين أبو عاقلة لأنها كانت تُغطّي وقائع جريمة جديدة، وقُتلت أيضًا لأنها كانت شاهدًا، قُتلت وهي ترتدي سترة واقية من الرصاص بلون أزرق مكتوب عليها صحافة، واختار القاتل القنّاص منطقةً محدّدة تحت الخوذة ليقضي عليها. من حيث المقارنة والظروف، لا تختلف القضيتان كثيرًا، فالوقائع نفسها؛ الجنسية والقتل العمد، والموقف الأميركي هو نفسه، غايته حماية كيان الصهاينة من أي إدانة، وإيجاد التبريرات له لمواصلة جرائمه في التطهير العرقي للفلسطينيين وإقامة مجتمع صهيوني في فلسطين التاريخية، خال من أصحاب الأرض.

إخفاء الحقيقة وإسكات الصوت الفلسطيني لطالما كانا هدفًا أميركيًا، فالولايات المتحدة لم تتغيّر، إذ تمنع حركة “مقاطعة دولة الاحتلال وسحب الاستثمارات منها” (BDS) من العمل،‏ ويُصنف الكونغرس النضال الفلسطيني إرهابًا ويغطي على جرائم الاحتلال، ويُقدم الدعم العسكري غير المحدود له، ويحميه في مجلس الأمن والجمعية العامة من الإدانة، بل وتمنع واشنطن محكمة الجنايات الدولية من ممارسة عملها، وتمارس ضغوطًا كبيرة على مُدّعي المحكمة، وتهدّد السلطة الفلسطينية بالثبور وعظائم الأمور، إذا ما تحدّت إرادتها وسعت إلى إدانة مجرمي الحرب الصهاينة من خلال المحكمة. والإدارات الأميركية هي ذاتها التي تحاول تأمين حماية دائمة لإسرائيل وأفعالها الإجرامية من خلال تأمين حماية عربية رسمية لها بعد الحماية الغربية، وذلك من خلال علاقات التحالف العسكري والأمني المسماة اتفاقيات أبرهام.

لن تقبل الولايات المتحدة إدانة إسرائيل في قضية قتل شيرين أبو عاقلة، كما لم تقبل بإدانتها في قضية كوري وغيرها. والمسألة ليست لها علاقة برُهاب الإسلام، فكوري يهودية وشيرين مسيحية كاثوليكية، لكنهما فلسطينيتان من حيث الانتماء لقضية الحرية في فلسطين وفضح جرائم الاحتلال. لن تقبل الولايات المتحدة بإدانة كيان الصهاينة، لأنه صنيعتها وقاعدتها الأقل تكلفةً، ولأنه جزء من سياستها الداخلية المُعقدة، حيث يربط حلفاء إسرائيل في واشنطن، الديني بالسياسي والاستراتيجي، وهذا شأنٌ معروفٌ وثابتٌ من محدّدات السياسة الخارجية الأميركية.

إذًا، وفي ظل تقرير وزارة الخارجية الأميركية الذي يبرّئ الكيان الصهيوني من جريمة اغتيال الصحافية بشكل متعمد، ماذا تبقى في جعبة أهل الشهيدة؛ الشعب الفلسطيني، متمثلًا بالسلطة الوطنية وقناة الجزيرة؟ هل أسدل التقرير الأميركي، ذو البعد السياسي لا القانوني، الستار على محاكمة قتلتها؟ قد يبدو الأمر كذلك، لكن في الواقع القانوني لم يتغيّر شيء، فالقضية أصبحت في المحكمة الجنائية الدولية. وعلى الرغم من عدم اليقين من تحريكها سريعًا في داخل أروقة المحكمة بسبب الضغط الأميركي والأوروبي الهائل على المدّعي العام، حيث تبيّن بعد الحرب الروسية على أوكرانيا أن المحكمة تخدم المصالح الأميركية فقط، عندما يتعلق الأمر بمن يخالفونها السياسة، إلا أن ثمّة أملا في تحرّكها، لكن ذلك بحاجة إلى ضغط سياسي وإعلامي مقابل. كما تبقى هناك إمكانية مقاضاة قتلتها في المحاكم الأميركية أيضًا بصفتها مواطنة أميركية كذلك.

العدالة الحقيقية لشيرين هي العدالة الحقيقية لشعبها، وقد حاولت الولايات المتحدة وحلفائها وبتواطؤ عربي رسمي تجريد الفلسطيني من أدوات القوة والمواجهة، فكلما باشر باستخدام واحدةٍ من الوسائل المشروعة في القانون الدولي مُنعت تلك الوسيلة ووصمت بالإرهاب، فلا البندقية شرعيةً، ولا السكين ولا الحجر ولا النضال السلمي من خلال حركة المقاطعة (BDS)، ولا النضال عبر المؤسسات الدولية (أطلق عليه الإرهاب الدبلوماسي)، ولا النضال من خلال المؤسسات الحقوقية الدولية شرعيًا، فقد صُنفت المنظمات الحقوقية الفلسطينية إرهابيةً! لقد حاولوا وما زالوا إسكات الصوت الفلسطيني وقمعه، بل إن وسائل التواصل الاجتماعي المملوكة لمؤسسات أميركية تُمارس سياسة القمع، التي تمارسها الإدارة الأميركية، وتمنع وصول الصوت الفلسطيني أو الرواية الفلسطينية إلى العالم، من خلال حذف الحسابات الفلسطينية وأنصار فلسطين من الوجود.

قد تكون هذه السياسات الأميركية المنحازة، بل المعادية، للحق الفلسطيني هدفها دفع الفلسطيني إلى اليأس والاستسلام، لكن أي عاقل يعلمُ، ومن تجارب الشعوب الأخرى، أن الشعوب لا تخضع بل تبتكر أساليب جديدة دائمًا لإيصال صوتها وإيلام عدوّها ودحره. لن يستسلم الفلسطينيون، لكن المتوقع أن يعودوا إلى الرد على السياسات الإجرامية الصهيونية بأساليب مقابلة، وما العمليات أخيرا في الداخل المحتل عام 1948، والنهوض النضالي في المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967، إلا رد فعل طبيعي على جرائم الاحتلال وعلى حالة الحضيض التي وصلت إليها القيادات العربية، وبعض الفلسطينية في تحالفاتها مع العدو.

عودًا على بدء، هل أخطأت السلطة الفلسطينية بتسليم الرصاصة إلى الولايات المتحدة؟ لا أظن ذلك، لكنها أملت أن تُنصف واشنطن مواطنة أميركية، حتى لو كانت فلسطينية، خصوصا أن قضيتها تفاعلت معها كل وسائل الإعلام وجهات سياسية مهمة عديدة عبر العالم، لكن أملها كان في غير محله، فموقف الإدارة ثابتٌ بدعم الصهاينة وحمايتهم ولن يتغير قريبًا، خصوصا أن الفلسطيني الرسمي جُرّد من أدوات القوة بعد تجاوز العرب مبادرتهم، وجرّدت القيادة شعبها من أدوات القوة من خلال مواصلتها التنسيق والتعاون الأمني مع عدوها ومع الولايات المتحدة. وهذا يطرح سؤالًا: هل ما زالت القيادة الفلسطينية تتوقع أي انفراجةٍ خلال زيارة جو بايدن، منتصف شهر يوليو/ تموز الحالي، المنطقة؟ هل ما زالت تأملُ بأن حلًا سياسيًا سيأتي من خلال مبادرة أميركية؟

لو كان ياسر عرفات والقيادة السابقة لمنظمة التحرير موجودة لفجّرت الوضع قبل الزيارة، وجعلت قضية فلسطين على رأس جدول الأعمال في المنطقة والعالم، لكن ذلك لن يحدُث، فما زالت القيادة الفلسطينية الحالية تراهن على الحلول السياسية والقانونية والدبلوماسية، رغم إثبات العقود الماضية عدم جدواها. إن كان تغيير الموقف الأميركي من فلسطين إحدى الأهداف الرئيسة لاستراتيجية النضال، فإن المقاومة الفلسطينية، بأشكالها كافة، هي الوحيدة القادرة على فعل ذلك. شاهدنا ذلك عام 2021 عندما أصبحت فلسطين هي قضية العالم من خلال المظاهرات الضخمة التي اجتاحت المدن الغربية، وعبّرت من خلالها شعوب العالم عن دعمها لفلسطين. انتصار فلسطين محكوم بإرادة الفلسطينيين الحرّة فقط، وأي رهان على “العدالة الدولية” المهيمن عليها أميركيًا وهم وأحلام زائفة لا وجود لها في عالم السياسة الواقعية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى