أقلام وأراء

د. عبد المنعم سعيد: من واشنطن إلى جدة وبالعكس!

د. عبد المنعم سعيد 2022-07-28

الملف الشامل يدور حول العلاقات العربية الأميركية، ورغم تشعبه وتعدد أبعاده وزواياه، فإنه بدا مكثفًا حول أحداث أربع وعشرين ساعة دارت منذ هبوط الرئيس الأميركي جوزيف بايدن إلى مطار جدة بعد ظهر الجمعة ١٥تموز، وحتى مغادرته مرة أخرى إلى واشنطن بعد ظهر السبت ١٦ تموز. الرحلة بدأت في الحقيقة قبل شهور عندما نشبت الحرب الأوكرانية ورد فعلها في فرض العقوبات الاقتصادية الغربية على موسكو، والتي سرعان ما باتت حربًا اقتصادية بدأت في اتجاه واحد من واشنطن إلى موسكو، ولكن لم يمضِ وقت طويل حتى أصبحت من موسكو إلى واشنطن عابرة بأوروبا ودول حلف الأطلنطي. البترول والطاقة كانا عصب الحرب الواقعة خارج الحدود الأوكرانية حيث الحرب الضروس تتبدّى للعالم في شكل جولات قيل فيها إن روسيا سوف تحسم الحرب في أيام، وبعدها جرى التأكيد أن إنقاذ «كييف» ربما يعني هزيمة روسية. ولكن لعبة الحرب لم تكن بالسهولة التي يُبديها طرف أو آخر، ولا العقوبات أيضًا، وكلاهما انفجر في وجه الجميع، وفي واشنطن بأن عصب المسألة كلها وكأنه يدور حول الشرق الأوسط، أو بحالة أدق حول الدول العربية المنتجة للنفط، وبدقة أكبر حول المملكة العربية السعودية. الوشوشات والهمسات والصيحات ارتفعت دقاتها مع العمليات الجارية في جبهة القتال، ومن بعدها عندما جاء التضخم وارتفعت الأسعار، وأصبح مواطنون في أوروبا وأميركا يتحدثون عن التصويت القادم، الذى يزيح قادة وزعماء فشلوا في منع الحرب بقدر ما فشلوا في إدارة الصراع. لم تكن الصرخات التي تدق على أبواب البيت الأبيض باعثة على سعادة رئيس قرر الخروج من الشرق الأوسط، وتعهد في نوبات الانتخابات بتشديد المواقف تجاه دوله مع تعليمها ضرورات «الديمقراطية».

.. جاء عقاب الشعوب للفاشلين بأسرع مما توقع أحد، وبدا أن الاختراق ضروري برحلة إلى منطقة باتت كابوسًا لقادة أميركا الواحد بعد الآخر، حيث ينتهى كل ابتعاد عن الإقليم إلى اقتراب لابد منه.

باتت الرحلة ضرورية، ومعها بات المشهد في واشنطن كلاسيكيًّا للغاية، فمَن يعلم تاريخ السياسة الخارجية الأميركية سوف يجدها دائمًا واقعة بين شقي رحى المدرسة المثالية، والمدرسة الأخرى الواقعية. الأولى تزعم أن هناك مثالًا أميركيًّا يحتوي قيمًا عليا سامية، تبَدّت في إعلان الاستقلال، الذي كتبه «توماس جيفرسون»- الرئيس الثالث للولايات المتحدة، أحد الآباء المؤسِّسين للدولة- وهذه كانت عاكسة للمثال الأميركي الذي تحلم به دول العالم. في هذه المدرسة لا يوجد أثر لقانون «الفتنة والغرباء»، ولا للحرب الأهلية الأميركية، ولا للاستعمار الأميركي للفلبين، ولا للعبودية والتمييز العنصري، ولا حروب مغدورة في كوريا وفيتنام، ولا مذبحة «ماي لاي» جرت في الأخيرة، ولا جرائم حرب في سجن «أبوغريب» حدثت إبان الاحتلال الأميركي للعراق، ولا خوض حرب في أفغانستان بدأت بالإطاحة بطالبان، وانتهت بتسليمها العاصمة كابول مرة أخرى. المدرسة الأخرى تعرف حقيقة العلاقات الدولية الممثلة في تفاعل دول وطنية لها مصالحها التي تبدأ بالبقاء وتنتهي بالسيطرة؛ وهذه هي التي انتصرت في النهاية مادامت الحرب الأوكرانية لن تنتهي في زمن قريب، ولا العقوبات سوف تحسم أمرًا حتى في زمن بعيد. بات ضروريًّا البحث عن أرصدة جديدة في منطقة فقدت ثقتها في قدرات واشنطن على حسم الحروب، وفي أغلب الأحوال السلام أيضًا.

بدأت الرحلة في واشنطن بمشهد حرب فكرية حول ما إذا كان الرئيس بايدن سوف يكون مخلصًا لوعوده أثناء الحملة الانتخابية، التي هدد فيها السعودية ومصر والعالم العربي في عمومه؛ أم أنه سوف يكون واقعيًّا ويعود بالعلاقات العربية الأميركية إلى سابق عهدها من سلام ووئام ونفط متدفق أسعاره تشفى أصوات الناخبين. لم تكن الحرب بين المعسكرين متكافئة، على الأقل داخل الحزب الديمقراطي حيث «الجناح التقدمي» الذي يتزعمه عضو مجلس الشيوخ بيرني ساندرز؛ والجماعة الليبرالية التي تتصدرها صحيفة «الواشنطن بوست» وجماعات العمل فى واشنطن لنصرة أميركا على أوطانهم العربية، وهما معًا يتفوقان بالصوت والصورة على الجماعة الأخرى. جاء الجزء الأول من رحلة الرئيس بردًا وسلامًا، فلم يكن على الرئيس إلا أن يستعين بكتاب كل الرؤساء الأميركيين الذين زاروا إسرائيل قبله، وينقله نقلًا حرفيًّا في القول والحركة. وضع الرئيس بايدن الخطة اليهودية على رأسه الكاثوليكي، وقرأ الصلوات في مبنى «الهولوكوست»، وأكد بين كل لحظة وأخرى العلاقات العميقة والتاريخية مع إسرائيل، موضحًا في نفس الوقت أنه لن يسمح بامتلاك إيران للسلاح النووي. وخلال ساعتين في الضفة الغربية أكد حل الدولتين ليُسعد جميع التقدميين والليبراليين من الأميركيين يهودًا ومسيحيين؛ فكما هو معلوم أن الموقف الحالي على أرض المنطقة غير مناسب، وكل ما يحتاجه الفلسطينيون الآن هو تحسين أحوالهم، وهو ما سيتحقق بمعونات يجرى التأكد من أنها لن تضيع هباء بالفساد. كانت «حماس» تقبع في خلفية الصورة تحقق الوقت غير المناسب من خلال تشكيل كيانين فلسطينيين قبل مولد الدولة الواحدة.

المشهد الثاني كان فيه فصلان: أولهما قمة سعودية أميركية، ورغم طول قائمة الأعمال فيها، فإن قضية النفط كانت على رأسها. وهنا علمت واشنطن أولًا أن هناك هدفًا تسعى إليه المملكة، وهو الوصول بإنتاجها إلى ١٣ مليون برميل يوميًّا (الإنتاج الحالي ١٠ ملايين ونصف المليون)؛ وثانيًا أن هذا الهدف مرتبط بالتزامات الدولة السعودية إزاء «أوبك» ومعها روسيا. والخلاصة أن المملكة سوف تسعى قدر جهدها لرفع الغمة عن الاقتصاد العالمي، ولكن أحدًا ليس عليه انتظار خلاص سريع. وثانيهما كان القمة العربية الأميركية، وهذه شملت لقاءات ثنائية مع قادة أربع دول عربية- مصر والعراق والإمارات والأردن- وبعد ذلك شملت القمة تسع دول عربية تحدثت جميعها بموقف واحد: لا تدخل في الشؤون الداخلية للدول، ولا حلف ضد دولة من دول المنطقة، والقضية الفلسطينية سوف تظل هَمًّا عربيًّا لن يعرف الشرق الأوسط استقرارًا قبل أن يكون له شفاء. في العموم كانت اللقاءات العربية الأميركية صريحة، وطرح العرب فيها حقيقة أن العالم لم يعد كما كان، وأن العودة بعد الخروج الأميركي من المنطقة لا يمكن أن تجعل أحوالها كما كانت. وبعدما قال الجميع كلماتهم، وجرى تصوير الجميع في صورة جماعية، ذهب الرئيس بايدن كما جاء، وبات عليه أن يعود مرة أخرى إلى واشنطن لكى يُحاسَب من جماعته التقدمية والليبرالية حسابًا عسيرًا. جاء تقييم الرحلة سلبيًّا، فأسعار النفط لم تنخفض بقدر ما أراد لها البعض، والمصارحات التي جرَت في اجتماعات القمة بأشكالها المختلفة كانت من الصراحة إلى الدرجة التي جعلت الصحافة الأميركية تُخفي ما قيل وتكفى على الأخبار أغطية سوداء. تذكر الجميع أن انتخابات التجديد النصفي قد اقتربت، ومن بعدها- ولا يعلم الأمور إلا الله- سوف تكون المواجهة الكبرى مرة أخرى في الانتخابات الرئاسية بين بايدن وترامب!.

*رئيس مجلس إدارة صحيفة المصري اليوم بالقاهرة، ورئيس مجلس إدارة ومدير المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية بالقاهرة

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى