أقلام وأراء

د. عبد المنعم سعيد: شبح ترامب في السياسة الأميركية

د. عبد المنعم سعيد 2022-06-04

الأصل في السياسة الأميركية أنها تعبّر عن بلد مؤسسات جاء بها دستور أميركي يوضح تركيبة من الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، والتوازن الدقيق بينها بحيث يشكل كل منها حارساً على عدم طغيان الأخرى، وفي تكاملهما تكون قوة الولايات المتحدة التي تأخذها إلى مكانة الدولة العظمى. التعديلات التي طرأت على الدستور كانت لسد ثغرات تؤكد حرية التعبير، أو خوفاً من الطغيان منح الأميركيين حق حمل السلاح، أو إعطاء حق التصويت للملوّنين، وأمور كهذه. وفي العموم مرت على النظام السياسي الأميركي كثير من اللحظات الحرجة مثل نشوب الثورة الفرنسية وما رفعته من شعارات أقلقت النخبة السياسية الأميركية، فأصدرت قانون الفتنة والغرباء (١٧٨٨) وقت رئاسة جون آدمز للدولة، أو الأزمة العظمى التي قادت إلى الحرب الأهلية (١٨٦١-١٨٦٥)، أو ما جاء بعدها وأدى إلى خروج أميركا عن قارتها باستعمار الفلبين ودخول الحرب العالمية الأولي، والكساد الكبير وحتى دخول الحرب العالمية الثانية، ودخول الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي ثم الخروج منها لكي تكون القطب الأوحد في العالم الذي يقود العولمة (١٩٨٩- ٢٠١٦). المؤكد أن هناك لحظات حرجة أخرى ظهرت مع الحرب الكورية والحرب الفيتنامية والأخرى الأفغانية والعراقية، ولكن في كل هذه الأحوال كانت المؤسسات هي حجر الزاوية في إدارة أميركا والعالم بأزماته وفرصه التاريخية. كان النظام السياسي كله يعمل ليس في اتفاق تام، وإنما في توافق يخلق كتلة من الوسط التي فيها يمين ديمقراطي ويسار جمهوري تكون دائماً كافية لوزن الأمور والتعامل مع أزمة كبيرة مثل ووترغيت التي كفل جسر بين الديمقراطيين والجمهوريين استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون، وتعيين جيرالد فورد الذي كان كافياً لانتخاب جيمي كارتر الذي قادت سياساته في النهاية إلى بزوغ نجم رونالد ريغان، وهكذا سارت الأمور في شكل من التبادلية السياسية بين الحزبين الرئيسين سهل منه كثيراً وجود مؤسسات الكونغرس والبيروقراطية والمحكمة العليا ورأي عام يقظ.
ظلت أميركا بلداً للمؤسسات حتى مع وجود قيادات تاريخية من جورج واشنطن وتوماس جيفرسون وأبراهام لينكولن وتيودور وفرانكلين روزفلت حتى وصلنا إلى دونالد ترامب (٢٠١٦-٢٠٢٠) الذي كان من ناحية كاشفاً عن خلل في النظام السياسي، ومن ناحية أخرى سبباً في خلل جديد يشكل شبحاً للنظام القائم لم يسبق لأميركا التعامل معه. كنت بالصدفة مقيماً في الولايات المتحدة خلال الفترة من ترشحه للرئاسة وحتى دخل البيت الأبيض، معايشاً للتصفيات التمهيدية داخل الحزب الجمهوري وحتى مناطحته لهيلاري كلينتون في الانتخابات النهائية. خلال هذه الفترة التي تقرب من عام ونصف العام لم يترك تقليداً واحداً من التقاليد السياسية والأخلاقية الأميركية إلا وخرقها وبأكبر قدر ممكن من الوقاحة. مايكل كوهين المحامي الخاص به في مذكراته الخائن أو The Disloyal نوه إلى وجود علاقات قائمة بينه ومافيا مدينة نيويورك، وفي كثير مما ورد بعد ذلك من أحكام قضائية لها علاقة بمساكن محدودي الدخل كانت له مواقف عنصرية من الأميركيين الأفارقة، وفي قضية غُرم فيها ٢٥ مليون دولار خاصة بإقامة جامعة وهمية باسمه قامت بعمليات نصب على الطلاب. وأثناء الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري فإنه لم يتردد في إهانة مرشحة لأنوثتها، ولم يترك واحداً من السبعة عشر مرشحاً للرئاسة عن الحزب الجمهوري إلا وتعمد إهانته أثناء المناظرات التليفزيونية، مطلقاً على كل منهم ألقاباً ليست لها علاقة بالموضوعات المطروحة. الغريب في الأمر أنه كان كلما قام بهذه الإهانات كانت شعبيته آخذة في التزايد، ورغم أن هيلاري كلينتون ربحت جميع المناظرات التي قامت بها فإنه فاز عليها في الانتخابات.
المدهش أكثر أن ترامب بدأ خلال الانتخابات التمهيدية والعامة في إهانة المؤسسات الأميركية الرئيسة، وعندما فاز لم يترك مؤسسة إلا وشكك فيها وفي أدائها بما فيها القوات المسلحة والمخابرات المركزية. وفي الواقع فإن كل من عملوا معه حتى من أنصاره في الحزب الجمهوري مثل وزير الدفاع مارك إسبر، ونائبة مايك بنس، وجدوا فيه خطراً على الدولة وعلاقاتها الخارجية والأمن القومى الأميركي. وعندما وصل إلى البيت الأبيض وجد في إهانة تحالفات الولايات المتحدة مع أوروبا في حلف الأطلسي، واليابان، والخليج العربي، وغيرها، متعة غير عادية. شخصيات مهمة لها سمعة دولية مثل المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل، وملكة المملكة المتحدة، تعامل معهم بطريقة غير لائقة. وداخل الولايات المتحدة التفت حوله المنظمات العنصرية، وجماعة الكوكلوكس كلان، واستغل فرصة رئاسته لكي يقلب الأوضاع داخل المحكمة الدستورية العليا لصالح المحافظين المستعدين لتغيير قوانين حيوية وضرورية للتوافق الأميركي العام. وعندما هزم في الانتخابات الرئاسية الأخيرة أمام جو بايدن فإنه بدأ حملة كبرى برفض نتيجة الانتخابات التي أقرها القضاء، مشككاً في قدس أقداس الديمقراطية الأميركية وهي نزاهة العملية الانتخابية والضغط على نائبه من أجل تغييرها، ثم بعد ذلك تشجيع الجماعات العنصرية والفاشية على اختراق البيت الأبيض وتهديد عملية تزكية نتيجة الانتخابات الرئاسية.
الآن فإن دونالد ترامب لم يخرج من الساحة السياسية، وهو يؤهل نفسه للانتخابات القادمة في ٢٠٢٤، ومن أجل ذلك فإنه يخوض مع خلصائه معركة التجديد النصفي للكونغرس بحيث يكون قادراً على التحكم في مجلسَي النواب والشيوخ. ورغم أنه فقد بعضاً من مؤيديه خلال هذه المرحلة من الحزب الجمهوري، ولكنه وفقاً لاستطلاع CNN الأخير يوجد ٥١٪ من المؤيدين له. الظاهرة هكذا رغم أنها تعبر عن مرحلة مبكرة من السباق، فإنها في الواقع ربما تعبر عما هو أعمق داخل النظام السياسي الذي تعرض لغزوة يمينية عنصرية، سوف تكون انتخابات التجديد النصفي هي اختبارها الأساسي الذي يدفع ترامب باتجاه البيت الأبيض.

 

مركز الناطور للدراسات والأبحاث  Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى