أقلام وأراء

د. عبد المنعم سعيد: ألـغـاز مـصـيـريـة

د. عبد المنعم سعيد 2023-11-22: ألـغـاز مـصـيـريـة

في الأحداث التاريخية يوجد دوماً نوعان من الألغاز، أحدهما زائف، ويقوم على اختبار لشكل من نظرية «المؤامرة» يعتبر غياب المعلومات تصريحاً بتأليف واقع يقوم على أساس من العلاقات الارتباطية، التي تجعل صياح الديكة في الصباح سبباً لطلوع الفجر ما دام كلاهما يحدث في نفس الزمن. أحياناً يقوم الزيف على أساس من نظرية «الجريمة»، التي تقول إن «المستفيد» منها على الأرجح هو الذي قام بها. هي إدانة مسبقة لا يسبقها دليل ولا برهان، وإنما «الظن» هو أساسها ومحتواها يدعمها نوع من اليقين المزعوم. النظرية ترتبط بالتخلف العلمي والفكري، وهى تكثر في الدول النامية، وإن كان لها بعض ظهور في مجتمعات متقدمة استناداً إلى روايات دينية متواترة. عند تطبيق هذا الزيف، سوف تجد ما هو شائع الآن في أدوات التواصل الاجتماعي حول حرب غزة الخامسة، حيث ترد القصة على الوجه التالي: أن إسرائيل اتفقت مع حماس على أن تقوم بهجمتها يوم ٧ أكتوبر الماضي، وتمده بالخطف والقتل والتمثيل لعسكريين ومدنيين إسرائيليين حتى بلغ العدد ما لم يبلغه من قبل في أول أيام القتال؛ وهكذا تعطى إسرائيل تصريحاً بالهجوم الجوي الساحق على قطاع غزة، ومن بعده الهجمة البرية حتى تدمرها وتدفع سكانها إلى الجنوب وإما يتم دفعهم إلى مصر أو إلى خارج الإقليم، فالمهم هو حدوث نكبة جديدة تفرغ القطاع من سكانه الفلسطينيين. القصة هنا لا تهتم كثيراً بمدى عقلانية الإسرائيليين للتضحية بعدد كبير من المواطنين، أو أن الفلسطينيين لا يبالون بنكبة جديدة، وأن أيّاً من ذلك لا يوجد برهان واحد عليه لأن الفلسطينيين والإسرائيليين لا يزالون في حالة قتالية حتى وقت كتابة هذا المقال، ولا يزال الغالبية الكبرى من الفلسطينيين داخل قطاع غزة، وأنه لا توجد لحظة واحدة تستعد فيها إسرائيل لوقف القتال.

ولكن هناك نوع آخر من الألغاز، التي تنجم عن غياب المعلومات، والتي عادة إذا ما ظهرت على الإطلاق، فإنها تبدأ في التسلسل للذاكرة الجمعية للأمم حول ما حدث ولماذا جرى ما جرى؟ وفي حالة حرب غزة الخامسة، تبدو منطقية مثل حروب غزة الأربع التي سبقتها نتيجة استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وتوسعه بالمستوطنات وتعسفه مع السكان الفلسطينيين سواء في داخلها، أو في الأراضي التي تحتلها. ولكن التاريخ لا يبحث دائماً فقط عن الأسباب المنشئة، وإنما يفتش أيضاً عن دور القوى المحركة التي تجعل واقعة تقع في لحظة تاريخية ما، فالشيخوخة التي أتت على الإمبراطوريات الكبرى كانت سبباً معلوماً، ولكنه لم يُغْنِ عن التعرف على ذلك «الإمبراطور»، الذي كان القشة التي قصمت ظهر البعير وكانت سبباً في زوال الإمبراطورية، اللغز الذي يبحث عن ذلك السبب المباشر أو غير المباشر الذي جعل الموضوع يتبدل حاله من الوجود إلى الانتهاء. في حرب غزة الخامسة، هناك لغز إيراني يوجد منه الكثير من الإفصاح من حيث التمويل والتدريب والتوجيه العام في ظل شمس «المقاومة» أو «الممانعة» والاستدلال من قلق قدوم «التطبيع» الجديد من المملكة العربية السعودية وإسرائيل يقلب الحال «الجيو سياسي» الإيراني باتفاق «أطلنطي» الطابع يأخذ من أمن إيران ولا يُضاف إليه؛ ويجعل حماس أشد ضعفاً في العمل والتأثير إزاء ما يجعل «موالاة» السلطة جزءاً من تطور استراتيجي كبير. لا يوجد تخمين هنا كبير عما إذا كانت أدوات إيران الميليشياوية في العراق وسورية ولبنان وفلسطين قد آن أوان استخدامها أم لا. شهادة الشيخ حسن نصرالله أن إيران لا تتدخل في تفاصيل العمليات الخاصة بحلفائها لا تدل على عدم التدخل، وإنما تدل على الكثير من الحصافة السياسية والاستراتيجية وليس على عدم التواجد مع مَن يحصلون على المال والسلاح.

«اللغز الصيني» يبدو هو الآخر مهمّاً في المعادلة الخاصة بالحرب، فشَنّ حماس هجومها في ٧ أكتوبر، وسواء كان بمباركة إيرانية مباشرة أو غير مباشرة، فإنه جاء في وقت انشغل فيه العالم بالحرب الأوكرانية، ما جعل هناك فراغاً تدافعت الولايات المتحدة بملئه فور نشوب حرب غزة. ولكن الظن كان كبيراً وغالباً في المصادر الفكرية العالمية أن الصين قد صارت قوة عظمى جديدة في العالم. ربما كانت روسيا تشحب قواها بفعل الحرب التي لم تكسبها، وبوتين الذي يبدو حائراً بين استراتيجية للنصر أو أخرى للتراجع. ولكن الصين شيء آخر، فهي اقتصاديّاً والقوة الشرائية للدولار تفوق الولايات المتحدة، وهي تكنولوجيا وأرضية تتوسع، وبينما الولايات المتحدة تنسحب من الشرق الأوسط لكي تركز على أوروبا و«الإندو باسيفيك»، فإن الصين تعقد قمة عربية صينية في السعودية، بينما تعقد رابطة بين السعودية وإيران، وينتشر نفوذها على «الحزام والطريق». السؤال المُلِحّ عن اللغز الصيني هو: أين الصين في أزمة الشرق الأوسط الراهنة؟، استنكار الحرب في هجوم حماس وإسرائيل كان شاحباً، والمفوض الصيني للشرق الأوسط لم يكن عالياً، ورغم كل شيء، فإن زيارة الرئيس الصيني إلى أميركا كانت على رأس قائمة الاهتمام، وفي حدود العلم، فإن «الشرق الأوسط» لم يكن ملحوظاً في قمة البلدين.

«اللغز الأميركي» متعدد الأوجه، فهو في بداية الأزمة وقف وقفة كبرى حازمة مساندة لإسرائيل، وجرَّ التأييد الأميركي وراءه تأييداً أوروبيّاً كاسحاً، بينما كانت واشنطن تلفت الأنظار العربية إلى أنها تريد أن تجعل من الأزمة فرصة للتوصل إلى السلام على أساس من حل الدولتين. الاستثمار في إسرائيل بالتأييد لم يكن له عائد، فلا هو أوقف الهجوم الإسرائيلي على المستشفيات الفلسطينية رغم التحذيرات الأميركية، وبدَت المسافة واسعة بين أميركا وإسرائيل عندما بدأت الأخيرة في التعبير عن أطماعها المباشرة: أولاً في تنفيذ «النكبة» في اتجاه مصر، وثانياً بالتدمير المكثف لغزة، وثالثاً بالتصريح أن إسرائيل سوف تحتل القطاع إلى أجل غير مسمى، وربما تعيد مستوطناتها فيها، ورابعاً الدخول إلى الضفة الغربية بالطريقة التي تتيح أيضاً نكبة في اتجاه الأردن، وخامساً أن إسرائيل باتت لا تمانع في إشعال حرب مع حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن. باختصار، كانت إسرائيل تعمل ضد كل ما تسعى الولايات المتحدة لتحقيقه. اللهجة الإسرائيلية تجاه أميركا كانت باردة، ومن بعض أركانها ساخرة، وفي وقت من الأوقات تساءل بيل كلينتون وقت وجوده في البيت الأبيض عقب لقاء مع قيادة إسرائيلية عمّن يمثل القوة العظمى في العالم؟.

الآن، هناك عدد من الألغاز المعلقة، أسهلها معتاد، وهو متى تنتهي الحرب؟، وعرفناه قبل فترة قصيرة عندما نشبت الحرب الروسية الأوكرانية؛ والآن لم يعد أحد يهتم بهذا اللغز؛ بل إن أحداً لم يعد يهتم بما إذا كانت الحرب سوف تتسع أو تظل على حالها، فلا خفتت الرشقات الصاروخية، ولا زادت دقتها، ولا يزال حزب الله يرفع من ضرباته من الاحتكاك إلى التحرش؛ اللغز الأكبر بالنسبة لمصر يدور حول ثمن حرب لم ندخلها!.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى