أقلام وأراء

د. عبد الحي زلوم يكتب- ‏‏كيف ‏وصلنا إلى ما نحن فيه اليوم ‏وهل من سبيل للخروج من هذا المستنقع؟

د. عبد الحي زلوم *- 1/11/2020

أينما ‏ينظر العربي من حوله اليوم  ‏يجد مأساة ونكبة بعد نكبة بعد أخرى، فيقف مشدوها من هول ما يرى ويتساءل كيف وصلنا الى ما نحن فيه، ونحن نملك النفط وهو مفتاح المدنية الغربية ، وهو أقوى من أي سلاح دمار شامل، ونملك بترودولاراته  التي خرجت ولن  تعد، بل تم استعمالها لاشعال حروبنا الأهلية، ونملك الجغرافيا بين ثلاث قارات، ونحن مهد  الحضارات. ‏‏أينما تنظر تجد شعباً تائهاً ‏فاقدًا لوعيه وهويته وتاريخه ‏هو أقرب إلى القطيع بدون راع  منه ‏إلى شعب، أكبر همه هو حصوله على لقمة عيش يومه.

لم يهبط هذا الواقع المأساوي علينا بالبراشوت وإنما كان وليد تخطيط من أعداء الأمة آخر قرنين من الزمان على ثلاث مراحل !

كيف أوصلونا إلى هذا المستنقع؟:

عملوا فينا قرنين بثلاث مراحل لغسيل الدماغ وتغيير القيم والهوية:

• المرحلة الاولى ، مرحلة الغزو الثقافي :

ودامت هذه المرحلة قرناً كاملاً من 1820-1920 .  بدأ الغرب الاوروبي بإنشاء مراكز للدراسات الاسلامية والمشرقية orientalism بما في ذلك ارسال العلماء المستشرقين لمعرفة سر تلك القوة التي فَجّرت تلك الطاقة من الجزيرة العربية التي أوصلتهم الى ضواحي باريس وفينا وقرروا انه الاسلام . وتبع ذلك الارساليات التبشيرية والتي لم تؤدي الى أي نتيجة .  وبدأت أول إرساليات تبشيرية بروتستانتية اميركية سنة 1820 والتي توصلت للنتيجة نفسها عن فشل محاولات ادخال المسلمين الى المسيحية . عندها قرر القس دانيال بلس بإقامة شبكة من الجهاز التعليمي من المهد الى اللحد لإعادة تكوين وغسيل الدماغ لأجيال بأكملها ليكون هناك مسلمون بلا إسلام الا على بطاقات الهوية  . وكانت الكلية الامريكية  البروتستانية السورية   ( أُنشأت 1866) والتي تم تغيير اسمها الى  الجامعة الامريكية في بيروت سنة 1920 والتي كانت مهمتها تكريس الهويات القومية . كما تم مساعدة كل طائفة بإنشاء جهازها التعليمي  المنفصل بحيث تبدلت الهوية الجامعة بهوية المواطن الفرعية يُغَني كلٌ على لَيلاه ! هناك سُنّة وشيعة، عرب وكرد، كاثوليك وبروتستانت ، ودروز وأرمن ومارونيين والقائمة تطول. لم يعد هناك مواطنون.

• المرحلة الثانية ، مرحلة الاستعمار المباشر :

‏ودامت هذه المرحلة حوالي 30 عاما ، وهي الفترة الزمنية لإعادة تكوين جيل كامل. ‏أواخر المرحلة الأولى قام المستعمرون الأوروبيون بتقسيم المشرق العربي الى ‏دويلات قبلية وعائلية وإثنية ودينية.  ‏كان الشيطان حاضراً أثناء تلك التقسيمات . تم عزل العمق العربي عن أوروبا بعزله عن البحر الأبيض المتوسط بكيانات دينية في ‏الوقت الذي كانت الدول الاستعمارية تلك تدّعي أنها أم وأبو العلمانية وإلغاء الصفة الدينية عن الدولة العثمانية . فخططوا ‏لدولة يهودية في فلسطين تفصل المشرق العربي عن مغربه ‏والى دولة مسيحية في لبنان تم اقتطاعها من ولاية الشام وإلى أغلبية علوية في منطقة اللاذقية ‏أرادوها دولة مستقلة لولا أنها لم تكن تملك أدنى متطلبات دولة. وهكذا أنشأ الاستعمار منظومة دول جديدة حدد الاستعمار  حدودها ، وخلق ما بين الدولة والاخرى من المتناقضات القبلية والاثنية والمذهبية ما لا يعد ولا يحصى، و هم من اختار حكامها ، وهم من حدد وظائفهم  والتي كانت منظومة متكاملة تماماً لخدمة الاهداف التي حددها الاستعمار ولم يحددها الشعب ولا حتى من اختارهم الاستعمار حكاما لها.

كانت مهمة الاستعمار المباشر تكريس الحدود الجديدة، وخلق هويات فرعية جديدة، وتأسيس منظومات أمنية بما فيها الشرطة والمخابرات والجيوش  ومهمتها حماية المهام الوظيفية لكل نظام (حتى من الحكام أنفسهم) لا حماية الوطن ، وتكريس العشائرية والقبلية ، والحيلولة دون خلق مجتمع مدني أو مؤسسات أو أحزاب ليبقى الناس قطيعاً بلا راعٍ يسهل قيادته. وهكذا كان وما زال.

• المرحلة الثالثة ، الاستعمار غير المباشر واسم دلعه الاستقلال :

بعد ‏الحرب العالمية الثانية واستلام الولايات المتحدة رئاسة العالم الرأسمالي الاستعماري تم إقرار الاستعمار غير المباشر عن طريق الهيمنة الاقتصادية ‏والأجهزة الأمنية من مخابرات وأحلاف، وبذلك قامت بريطانيا وفرنسا ‏بتسليم  وكلائها الحكم والعمل بطريقة الاستعمار غير المباشر. ‏عندما نشبت مسرحية حرب 1948 ‏كانت الدول المحيطة بفلسطين قد أُعطيت ما أسموه  استقلالها قبل سنتين أو ثلاثة فقط ، وتم إنشاء ما أسموه بالجامعة العربية لقيادة المسرحية . ‏تم تسليم القيادة المشتركة للجيوش العربية الوليدة لمحاربة الصهاينة في فلسطين للأردن ‏والذي كان قائد جيشه بريطانياً بل وكان جميع وأكرر كلمة جميع قادة الفرق والالوية من الإنجليز ، وأكثرهم كان مستعاراً من الجيش البريطاني.‏ ‏قبل الحرب مباشرة كان الجيش العربي الأردني يتبع مباشرة أحد الالوية للجيش البريطاني، وهنا المهزلة : بريطانيا جاءت لفلسطين لبناء دولة يهودية في فلسطين  ويرأس الجيوش المحاربة لهذا الكيان قادة انجليز !

خاض ‏الضباط العرب الأردنيون في الجيش الاردني بعض المعارك وحققوا الانتصارات بالرغم من  أوامر قادة الجيش  الإنجليز . أذكر أن ‏والدي سنة 1948 جاء يومًا مقفهر الوجه قائلاً احتل الجيش العربي الاردني  جزءا كبيراً من القدس الغربية (من اليهود )  لكن الضباط  الإنجليز ‏اجبروهم على الانسحاب . ‏قرأت عن هذه الواقعة بعد ذلك بـ 60 سنة في كتاب (مذكرات جندي ) للمرحوم الضابط الاردني الكبير صالح الشرع والذي ذكر الحادثة واسم الضابط الانكليزي الذي أمر بالانسحاب بل وهدد الضابط الاردنيالمنتصر انه سيقصفه  بالمدفعية اذا لم ينسحب.  وعندما رجع تم اعتقاله وارساله الى عمان للمحاكمة !‏ ‏في معركة باب الواد أسر الجيش الاردني بقيادة ضابط  أردني أرييل شارون (رئيس وزراء لاحق وجنرال عبور الدفروسوار)  وعلى ذلك قس على كل الجبهات العربية. ‏كانت عمليات 1948 مسرحية ولم تكن حرباً.

أمّا حرب 1967 ‏فكانت أقل حتى من مستوى مناورات عسكرية بالذخيرة الحية. كانت حرب مخابرات بامتياز.  والمعلومات المؤكدة عن ذلك كثيرة. ‏من أمثلة الاختراقات الامنية في أعلى المستويات ‏‏ترتيب ‏حفلة السُكْر والعربدة  للطيارين المصريين حتى فجر  يوم تحطيم الأسطول الجوي المصري على الارض في أول ساعتين من  تلك الحرب ، أو اعلان  راديو دمشق الرسمي الحكومي بسقوط القنيطرة عاصمة الجولان قبل أن تطأ قدم اي جندي إسرائيلي واحد مرتفعات الجولان ، فأصاب الجيش  السوري في الميدان الاضطراب وبدأ الانسحاب ! ‏اعلن الحزب  الحاكم النصر لان الجولان سقطت  لكن الحزب ونظامه باقيان .

أما في حرب 1973 ‏فقد حقق الجيش المصري بطولات هي التي يجب أن تُدرّس عن بطولات الجندي العربي وليس الأسطورة الكاذبة للجندي الإسرائيلي الذي لا يُقهر والذي قهرته المقاومة في فلسطين وجنوب لبنان .  ولكن نتائج تلك الحرب أجهضتها ‏القيادة السياسية التي كانت تتلقى رواتب شهرية من السي اي ايه حسب ما أفصح عنه الكاتب الامريكي المعروف بوب ودوارد في كتابه {القناع}. ‏ألا يمكننا القول بصدق  وأريحية أن الكيان الصهيوني المحتل لفلسطين لم يكن ليكون دون مساعدة النظام الرسمي العربي في بنائه وتقويته  ورعايته؟ ‏أليس التطبيع هو تحصيل حاصل لمثل هذه المنظومة المتكاملة منذ انشائها قبل مئة سنة ؟ ‏هذه المنظومة هي أطوع منظومة لمخلوق وأعصاها لخالق ، ‏وإذا قِيل لهم طبِّعوا طبَّعوا وإذا قيل لهم طبِّلوا طبَّلوا ! لذلك كنت أقرأ أخبار التطبيع الأخيرة بدم بارد دون أن تهتز شعرة من بدني.

هذه المرحلة منذ حوالي 70 سنة قد وصلت اليوم بالتطبيع الى نهاية صلاحيتها ‏بإسقاطها ورقة التوت عن عوراتها ‏لإعادة هيكلة المنظومة القديمة ‏بمنظومة أمنية واقتصادية وظيفية جديدة ‏بل وربما بجغرافيا‏ جديدة‏ ‏(تُفَتِت المُفتت) وبأساليب جديدة ‏وما الربيع العربي وصفقة القرن إلا بداياتها‏ ،  ولربما يكون المنخرطون في هذه اللعبة هم أول ضحاياها ‏وهم ‏لا يعلمون!

‏ ‏وماذا بعد :

•‏في ‏عصر العولمة والأحادية القطبية أصبحت سيادة الدول منقوصة بما فيها كبريات الدول الغربية الأوروبية . ‏‏أما منظومة الدول العربية فقد وُلِدت وصُمّمت لتكون منقوصة السيادة من أول يوم من إنشائها ، ‏ولولا عمليات التجميل والمكياج في هذه الدول فهي في جوهرها نسخة طبق الأصل عن سلطة أوسلو التي لا تعمل ‏لصالح شعوبها وهي ليست سوى حكم   ذاتي لا اكثر ولا اقل وبدون سيادة حقيقية على مواردها وسياساتها الدفاعية والمالية والخارجية ، مع السماح  لمن يحمل بطاقات VIP  ‏من النخبة المتعاونة أن تُفْسد في الأرض كما تشاء. ‏استطاع هؤلاء المفسدون في الأرض  أن يحولوا أكبر قوتين تمتلكهما الأمة وهما النفط  محرك الحضارة الغربية وبترودولاراته،  والقوة المعنوية العقائدية والأخلاقية ( الاسلام)  واساءة استعمالهما لتدمير الذات !!

ولكن دوام هذا الحال من المحال ، فنحن نعيش في عالم متحرك يتغيّر بسرعة غير مسبوقة ‏على المستوى العالمي والإقليمي والمحلي.

•فالنظام العالمي يشهد سقوط الأحادية والامبراطورية الصهيوأميركية وصعود نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب مما ينعكس إيجاباً على منطقتنا .‏

•‏إقليميا هناك دولتان صاعدتان بتؤدة وثبات.  ‏ومع أنهما ليستا جمعيتين خيريتين إلّا أن اكثر (وليس كل) مصالحها تتقاطع مع مصالح الشعوب العربية وحركات مقاومتها.

•‏عربياً :

فحسب‏ صندوق النقد الدولي  ستصبح دول ‏النفط الخليجية مقترضة بحلول سنة 2034 ‏، ولكن بعد هبوط أسعار النفط ستصبح تلك الدول مقترضة خلال عقد العشرينيات بما لذلك من آثار على تأثيرها الإقليمي مالياً وسياسياً.

•عربياً وعبرياً :

قوة إندفاع التطبيع ‏وإعادة التحالفات العسكرية والإقليمية بقيادة الكيان الإسرائيلي المباشر ستبدأ بالانكسار خلال سنوات فقط . ‏ستزيد التناقضات داخل المجتمع الإسرائيلي وسيزداد تطرفاً وغروراً ومن الغرور ما قتل . الصدمة في دول النفط المنخرطة في طوابير المقترضين من صندوق النقد   الدولي وسرعة الانتقال من الوفرة والخدمات المجانية الى الشح وضنك العيش ودفع الضرائب ستُحدث آثارا اجتماعية واقتصادية وجيوسياسية!

سيشتد عود حركات المقاومة، وسيخرج  الى السطح ‏قادة للمقاومة من أبناء الشعب الكادح ‏وسيكون هناك ربيع عربي حقيقي يقوده أمثال محمد الضيف  قائد كتائب عز الدين القسام والذي ‏عمل في مزرعة دواجن قبل انضمامه الـى المقاومة والذي استطاع ان يبني مقاومة في غزة ووقف ضد جيش الاحتلال اكثر من 50 يوما وحاول الاحتلال اغتياله خمس مرات وفقد بعض اطرافه وزوجته وبنيه. الشيخ أحمد ياسين مؤسس حماس عمل (صبي) في مطعم قبل ان يصبح مقعدا. امثال هؤلاء هم من سيقود حركات المقاومة والتحرير في المستقبل .

لاحظوا معي ان الدول الصاعدة في الاقليم هي التي عَرَّفت هويتها امتدادا لحضارتها وتاريخها  واسلامها ،  وان حركات المقاومة الوازنة في لبنان وفلسطين هذه ايضا حركات اسلامية. وان اي حركات مقاومة مستقبلية ستكون هويتها اسلامية. لهذه الاسباب يقوم الصهيواميركيون بمحاربة الاسلام باسم الارهاب الذي أنشؤوه  ورعوه، وبواسطة  محاربته ثقافياً من امثال صعاليكهم كالصبي ماكرون . هذا العداء متأصل في الغرب . جورج بوش الجد الاعظم لرئيسَين اميركيَيْن   كتب سنة 1844 كتاب (وادي الرؤى) يطالب بفلسطين دولة لليهود وكتب كتاب ( محمد النبي الكاذب) ايضا قبل اكثر من 50 سنة من ثيودور هيرتزل!

الثابت الوحيد في التاريخ هو التغيير وهو قادم ، وأمريكا تريد والله فعال لما يريد!

*مستشار ومؤلف وباحث

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى