أقلام وأراء

د. عاطف ابو سيف – أوروبا وتبعات المسألة اليهودية

د. عاطف أبو سيف – وزير الثقافة الفلسطيني ٣-١-٢٠٢٢م

نتجت عن حلّ المسألة اليهودية مشكلة جديدة بالنسبة للعالم الغربي تمثلت بقضية الشعب الفلسطيني. لم تتم عملية بناء وطن قومي لليهود في فلسطين بالشكل الكامل المخطط له، والذي كان يعني التخلص من كل تبعات إزاحة السكان أصحاب الأرض من بلادهم، إما عبر إقامة دولة لهم كما اقترح قرار التقسيم، أو عبر التعامل معهم في الوطن الجديد، أو إذابتهم في الدول المحيطة. والسيناريو الأخير يفسّر بقوة الكثير مما قيل عن التخاذل العربي في عدم الدفاع الحقيقي عن فلسطين، وكيف أن الجيوش العربية لم تكن تحارب بالجهد المطلوب من أجل حماية البشر والأرض وتلازمهما، وهذا موضع نقاش مهم دائماً من أجل تذكر حقيقة التاريخ، لا ما نعرفه عنه.
لم يعد وجود اليهود بذات القدر من الأزمة للكثير من الدول الأوروبية، سواء الفقيرة والضعيفة منها أو القوى الكبرى. لم تعد ثمة مسألة يهودية، فسكان الكثير من بلدان أوروبا اليهود وجدوا طريقهم إلى دولة اليهود الجديدة. لاحظوا مثلاً كيف أن اليهود العرب لم يهاجروا إلى فلسطين قبل النكبة، ببساطة لأنه لم تكن ثمة مسألة يهودية في الدول العربية؛ فالمواطنون اليهود العرب كانوا جزءاً من النسيج العام لكل المجتمع العربي في كل الأماكن التي كانوا فيها. لم يكن ثمة ما يزعج في وجودهم، وبعضهم شغل مواقع متقدمة في الدولة وفي النسيج الاقتصادي والاجتماعي. المسألة اليهودية كانت دائماً مسألة أوروبا، ولم تكن مسألة اليهود بهذا المعنى. فقط بعد أن تم استهداف اليهود العرب من قبل العصابات الصهيونية، وتفجير الكنس في بغداد وصنعاء وغيرها من أجل دفعهم للهجرة إلى الوطن القومي بعد تهجير الفلسطينيين، حيث بدأت إسرائيل تشهد وصول مواطنين يهود عرب. وعليه، فإن إقامة إسرائيل كانت تعني في المقام الأول التخلص من مسألة اليهود بالنسبة لأوروبا. حتى الادعاء بأن حروب هتلر ومذابحه كانت سبباً في هجرة اليهود إلى فلسطين ليس إلا إغفالاً للحقيقة الثابتة أن مجازر هتلر أيضاً جزء من التعاطي مع المسألة اليهودية.
نتجت عن تخلص أوروبا من مسألتها الخاصة (المسألة اليهودية) أزمة أخرى تمثلت في تشتيت الشعب الفلسطيني، وعدم إيجاد حلّ لتبعات ما بعد إقامة دولة يهودية في أرض فلسطين للمستوطنين اليهود الأوروبيين. ببساطة، إن تخيّل حلّ لتلك الأزمة، باستثناء الإشارات التي لا تتجاوز المجاملة للسكان العرب في البلاد، لم يكن وارداً. بل إن تضمين بعض القرارات الأممية بعض الإشارات لدولة للسكان العرب، مثل قرار التقسيم، وبعد ذلك قرار 194، ليس إلا من أجل ضمان تصويت الدول المستقلة حديثاً، والتي عانت من الاستعمار وناضلت للتخلص منه، لصالح القرارات. بمعنى يمكن إعادة النظر في تلك القرارات ضمن منظور سياقي، لنكتشف أنها حقيقة لم تكن تعني كثيراً بالنسبة لأوروبا التي خلقت المشكلة الفلسطينية بامتياز. كل ما كان يعنيها هو أن يتم تثبيت الدول اليهودية الناشئة بقرار أممي والاعتراف بها كذلك. هذا كان مربط الفرس.. إشارتان تؤكدان ذلك.
الأولى كانت عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة. لم يكن المجتمع الدولي ليقبل إسرائيل عضواً في الجمعية العامة لو لم توافق شكلياً على قرارات الجمعية العامة. إنها القرارات التي لا تعترف بها إسرائيل وغير جاهزة للتعاطي معها. ومع ذلك، فإن قبولها الشكلي بها كان مدخلاً من أجل أن يقول العالم الأوروبي لبقية العالم: إن المولود الجديد هو ابن شرعي للنظام الدولي وتنظيمه وقوانينه. عملياً، وقبل ذلك نظرياً، كان عدم تنفيذ إسرائيل لالتزاماتها وفق القرارات التي وافقت ووقّعت عليها يعني وقف عضويتها في الأمم المتحدة. وإسرائيل من المؤكد جهاراً ومراراً قالت: إنها لن تنفذ قرار التقسيم، وترفض النظر في قرار 194 لما يحمله من إعطاء حق للاجئين بالعودة إلى قراهم ومدنهم وجبر الأضرار. هذا لم يكن وارداً في أيّ طرح إسرائيلي. ببساطة، عضوية إسرائيل مشروطة بهذا القبول الذي لم يتم، وعليه فإن عضويتها غير شرعية. ولكن مرة أخرى، إن الأمر لا يعني كثيراً مَن حلّ مشكلته على حساب الآخرين، أي أوروبا.
الأمر الآخر كان تعامل دول أوروبا مع القضية الفلسطينية. فبعد قرار التقسيم، وتسليم البلاد لغير أصحابها، وبعد ذلك القرار 194، صارت أوروبا أكثر تطرفاً ضد الفلسطينيين من ذي قبل. طبعاً يمكن للبعض أن يسترشد بالحرب الباردة من أجل أن يدلل على بعض أسباب هذا التطرف الأوروبي، وهو استرشاد غير سليم؛ إذ إن أساس وقوف الفلسطينيين والعرب بجوار الاتحاد السوفياتي وحلفائه أنهم كانوا أقل تطرفاً في التعامل مع الحق الفلسطيني، وليس أنهم كانوا معه؛ إذ إن هذا الموقف الأقل حدة بدروه له علاقة أيضاً باصطفاف إسرائيل بشكل كامل مع النصف الغربي من القارة. وعليه، مرة أخرى، كانت القضية الفلسطينية ضحية صراعات القوى الكبرى. وتظل الحقيقة الكبرى أن الدول التي تسيّدت المجتمع الدولي، خلال استصدار القرارات الجائرة التي وفرت فرصة لسرقة فلسطين من أصحابها، ظلت وفية لرغبتها في إسناد الوطن القومي لليهود لضمان حلّ المسألة اليهودية للأبد، ولو على حساب شعب آخر.
لذلك، ليس مستغرباً أن تظل تلك القوى مناهضة للحق الفلسطيني، وألا ترى أن ثمة مشكلة أو مسألة فلسطينية؛ لأن تلك المسألة لا تمسّ مصالح تلك الدول وليست من شأنها، إنها عرض جانبي لصراع بين إسرائيل وجيرانها. هكذا، فإن الموقف الأوروبي، رغم انزياحاته التدريجية لصالح إقرار حقوق بسيطة للفلسطينيين، بدءاً من تقرير شومان، ومواقف ديغول عقب حرب 1967، وصولاً لإعلان البندقية في مطلع الثمانينيات، إلى إعلان برلين في نهاية التسعينيات، لم يبرح حدود التصوّر الأوروبي للحلّ الأوروبي للمسألة اليهودية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى