#شوؤن دولية

د. صدفة محمد محمود: ما فرص نجاح مشروع العملة المشتركة بين البرازيل والأرجنتين؟

د. صدفة محمد محمود 25-1-2023: ما فرص نجاح مشروع العملة المشتركة بين البرازيل والأرجنتين؟

خلال زيارته إلى الأرجنتين، في أولى جولاته الخارجية رئيساً للبرازيل، أعاد “لولا دا سيلفا” ونظيره الأرجنتيني ” ألبرتو فرنانديز” في 23 يناير الجاري، طرح فكرة سك عملة مشتركة للمعاملات التجارية والمالية بين البلدين، وهو ما أثار الجدل من جديد حول جدوى هذا المقترح ومدى إمكانية تنفيذه على أرض الواقع، خاصة أنه سبق أن نوقش أكثر من مرة خلال السنوات الماضية، لكن لم تُتخذ أي خطوات فعلية لتنفيذه حتى الآن.

واكب طرح هذه الفكرة، بروز بعض التوقعات لدى كثير من الخبراء بأن قادة البرازيل والأرجنتين(أكبر اقتصادين في أمريكا الجنوبية) يمكن أن يتبنوا عملة موحدة، على غرار اليورو، لتحل محل كل من البيزو الأرجنتيني والريال البرازيلي. مع ذلك، نفى وزير المالية البرازيلي “فرناندو حداد”، وجود مقترح بشأن “عملة موحدة” في مستهل زيارته إلى بوينس أيرس في 21 يناير الجاري، مؤكدًا أن العملة المقترحة، التي أطلق عليها “الجنوب”، لن تكون بديلًا للعملتين الوطنيتين، بل آلية لتمويل التجارة الخارجية بين البلدين.

دوافع متعددة

تتعدد العوامل التي تفسر اقتراح تبني عملة مشتركة بين البرازيل والأرجنتين؛ إذ إنها لا تقتصر على الدوافع الاقتصادية البحتة، بل لها أيضًا أبعاد سياسية واضحة؛ منها:

1- تنشيط التجارة الثنائية: البرازيل هي أكبر شريك تجاري للأرجنتين، كما أن الأخيرة تعد شريكاً تجارياً رئيسياً للبرازيل؛ حيث تستورد منها سلعاً ذات قيمة مضافة مثل المركبات وقطع الغيار. مع ذلك، بلغت الصادرات البرازيلية إلى الأرجنتين 15 مليار دولار في عام 2022، مقارنة بـ22 مليار دولار أمريكي في عام 2012، نظراً لأن التجارة بين البلدين في الوقت الراهن، مقومة إلى حد كبير بالدولار الأمريكي. وفي ظل ما تواجهه الأرجنتين من نقص حاد في الاحتياطيات الدولية بالدولار، فرضت قيوداً صارمة على رأس المال، وهو ما انعكس بالسلب على المصدرين البرازيليين. ومن خلال تفعيل مقترح العملة المشتركة، لن تضطر الحكومة الأرجنتينية إلى إنفاق دولارات احتياطية لدفع ثمن الواردات البرازيلية، في الوقت نفسه، ستتاح الفرصة للبرازيل لزيادة صادراتها إلى الأرجنتين. وفي هذا الإطار، شدد وزير المالية البرازيلي على أن مشروع العملة المشتركة هو أحد “الاحتمالات المتعددة” للتحايل على افتقار الأرجنتين للاحتياطيات الدولية لإبقاء البلاد مشترياً للسلع الصناعية البرازيلية.

2- تقوية التكامل الإقليمي: جاء طرح إطلاق العملة المشتركة بين البرازيل والأرجنتين، في سياق تشديد رئيسي البلدين على الحاجة لعلاقة جيدة بين الأرجنتين والبرازيل لتعزيز التكامل الإقليمي؛ لذلك لم يكن مستغرباً أن يختار دا سيلفا، الأرجنتين أكبر شريك تجاري للبرازيل في المنطقة، وجهةً لأولى رحلاته الخارجية منذ توليه منصبه في الأول من يناير الجاري؛ وذلك تماشياً مع تقليد سائد في البرازيل منذ عدة عقود. تأتي رحلة دا سيلفا أيضاً إلى الأرجنتين للمشاركة في قمة مجموعة دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي (السيلاك)، التي انسحبت منها البرازيل في عام 2019؛ لرفض سلفه بولسونارو المشاركة في المجموعة الإقليمية بسبب وجود كوبا وفنزويلا في عضويتها. في هذا السياق، شدد الرئيسان على أهمية تفعيل دور المؤسسات الإقليمية كالسيلاك وميركوسور لتعزيز اندماج بلدان المنطقة في العالم وتقوية وحدتها اقتصادياً واجتماعياً.

3- تعزيز الاستقلال الاقتصادي: من خلال تفعيل خطة العملة المشتركة التي يدرس البلدان إنشاءها في المستقبل، تسعى البرازيل والأرجنتين إلى تعزيز الاستقلال الاقتصادي والتخفيف من الضغوط الخارجية من خلال تقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي، واعتماد العملات المحلية في المبادلات التجارية. وفي مقال مشترك نُشر في صحيفة Perfil الأرجنتينية في 21 يناير الجاري، كتب دا سيلفا وفرنانديز: “قررنا المضي قدماً في المناقشات حول عملة أمريكا الجنوبية المشتركة التي يمكن استخدامها في كل من التدفقات المالية والتجارية، وتقليل تكاليف التشغيل وضعفنا الخارجي”. وقال دا سيلفا خلال مؤتمر صحفي مع نظيره الأرجنتيني في 23 يناير الجاري: “إذا كان الأمر يعتمد علي، فسأقوم دائماً بالتداول الخارجي بعملات الدول الأخرى؛ لذلك لا نعتمد على الدولار الأمريكي”. وبالنسبة إلى الرئيس البرازيلي فإن الأمر يتعلق باستقلال المنطقة بأكملها.

4- تحقيق مكاسب سياسية: شكلت الرغبة في تعزيز التكامل الإقليمي واستعادة البرازيل دورها الريادي باعتبارها قائداً إقليمياً، ركائز أساسية لحملة دا سيلفا الانتخابية لرئاسة البرازيل لعام 2022. من هذا المنطلق، يمكن النظر إلى تأكيدات الرئيس البرازيلي، أن مبادرة العملة المشتركة ستكون مفتوحة لبقية بلدان أمريكا اللاتينية للانضمام إليها فيما بعد دون الحاجة إلى إلغاء عملاتها الوطنية، باعتبارها محاولة من جانبه لأن تكون البرازيل، صاحبة أكبر اقتصاد وعدد من السكان في المنطقة، قاطرة هذه المبادرة، وربما تشجع بلداناً أخرى على أن تحذو حذوها. وفي أبريل من العام الماضي، كتب فرناندو حداد أن العملة الموحدة يجب أن تعمل كمُسرِّع لعملية التكامل الإقليمي في أمريكا الجنوبية. بالنسبة للأرجنتين، يستعد الرئيس فرنانديز للترشح لولاية رئاسية ثانية في أكتوبر القادم؛ لذلك فهو يتطلع إلى أن تكون خطة العملة المشتركة رافعة لتحسين الأوضاع الاقتصادية ودفع النمو؛ ما سيجذب الناخبين المحتملين، وربما سيعزز فرص إعادة انتخابه.

تحديات هيكلية

أدى توافر الإرادة السياسية وتقارب التوجهات الأيديولوجية بين قادة البرازيل والأرجنتين (كلاهما من تيار يسار الوسط) إلى إيجاد حالة من التفاؤل بشأن إمكانية تبني عملة مشتركة بين البلدين. ومع ذلك هناك عدة عقبات ومعوقات ربما تحول دون تحقيق هذا الهدف، ؛ بينها:

1- تباين هياكل الاقتصاد الكلي: ربما سيواجه إنشاء عملة مشتركة بين البرازيل والأرجنتين بعض الصعوبات نظراً لوجود اختلافات عميقة بين البلدين، سواء في سياساتهما النقدية أو المالية. البرازيل لديها سعر صرف حر وبنك مركزي مستقل. في المقابل، لا يتمتع البنك المركزي الأرجنتيني بالقدر نفسه من الاستقلالية. هناك تباين أيضًا في معدل التضخم الذي بلغ في الأرجنتين 95%، وهو واحد من أعلى معدلات التضخم عالمياً، في حين وصل إلى 5.8% في البرازيل عام 2022. الاختلافات تمتد أيضاً إلى حجم الاحتياطي من النقد الأجنبي؛ إذ تمتلك البرازيل أكثر من 300 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي؛ ما يجعل البلاد دائناً للنظام المالي العالمي. أما الأرجنتين فهي مدينة بأكثر من 40 مليار دولار لصندوق النقد الدولي. وهناك نحو عشرين سعر صرف مختلفاً للدولار. وفي السوق السوداء بالأرجنتين، العملة الأمريكية تساوي ضعف السعر الرسمي، كما انخفضت قيمة البيزو بشكل مطرد لأكثر من عقد من الزمان. من هذا المنظور، هناك مخاوف من أن البرازيل ستخاطر بسياستها النقدية السليمة من خلال ربط عملتها بالأرجنتين التي تعاني من العديد من المشكلات الاقتصادية التي أدت إلى تخلفها عن سداد ديونها السيادية للمرة التاسعة في عام 2020.

2- تأثير الضغوط والاعتبارات الداخلية: في البرازيل، قوبل مقترح إطلاق عملة مشتركة بموجة من الانتقادات من قبل بعض أحزاب المعارضة (يمين)، بالرغم من أن الرئيس السابق “جايير بولسونارو” سبق أن طرح مقترحاً مشابهاً بالتعاون مع رئيس الأرجنتين السابق “ماريسيو ماكري” عام 2019. وفي ظل سيطرة حلفاء بولسونارو على أغلبية مقاعد الكونجرس البرازيلي ربما ستكون هناك مقاومة سياسية لتنفيذ هذا المقترح.

يضاف إلى ذلك موقف البنك المركزي البرازيلي، الذي يتمتع باستقلالية عن الحكومة الفيدرالية؛ إذ سبق أن رفض هذا المقترح عندما طرح عام 2019. في الأرجنتين، من المرتقب أن يتوقف مستقبل العملة المشتركة على من سيفوز برئاسة البلاد خلال الانتخابات المقبلة. وإذا فاز مرشح من تيار اليمين، فإنه ربما سيتخذ موقفاً مغايراً من هذا المقترح، ويمكن أن يتردد في العمل مع رئيس ذي توجهات يسارية. في أمريكا اللاتينية؛ إذ تميل الحكومات المتوافقة في التوجهات السياسية والأيديولوجية إلى العمل معاً.

3- إشكاليات التعاون الإقليمي المتعددة: في معرض تصريحاته لصحيفة فايننشيال تايمز في 22 يناير الجاري، اعترف وزير الاقتصاد الأرجنتيني “سيرجيو ماسا” بصعوبة إنشاء عملة إقليمية لأمريكا اللاتينية، قائلًا: “لا أريد أن أخلق أي توقعات خاطئة […] إنها الخطوة الأولى على طريق طويل يتعين على أمريكا اللاتينية أن تسلكه”. تنبع صعوبات توسيع مقترح العملة المشتركة ليشمل بقية بلدان أمريكا اللاتينية، من افتقار المنطقة إلى سوق مشتركة أو حتى منطقة تجارة حرة. في تجمع ميركوسور، الذي يضم البرازيل والأرجنتين وأوروجواي وباراجواي، تخضع واردات عدد لا يحصى من المنتجات لرسوم جمركية عالية. وتنطبق العديد من الإعفاءات أيضاً على التعريفة الخارجية المشتركة. إن إضافة عملة مشتركة إلى هذا “التجمع الاقتصادي” سيفاقم المشكلات العميقة التي يعاني منها بالفعل. في الوقت نفسه، برزت مخاوف قوية من قبل بعض الأعضاء الأصغر في التجمع كأوروجواي؛ إذ انتقد بعض مسؤوليها عدم مناقشة هذا المقترح مسبقاً مع بقية بلدان التجمع، ورفضوا عودة النهج المهيمن للبرازيل والأرجنتين على سياسات ميركوسور وتوجهاته الخارجية.

عملية معقدة

من جملة ما سبق، يمكن القول إن الرؤساء اليساريين في دول أمريكا اللاتينية، بما في ذلك البرازيل والأرجنتين، يواجهون في الوقت الراهن ظروفاً اقتصادية عالمية أكثر صعوبةً، وسياسات داخلية أكثر تعقيداً مع العديد من الحكومات الائتلافية، وحماساً أقل من المواطنين للتكامل الإقليمي.

لذلك، فإنه من أجل تبني عملة مشتركة بين البرازيل والأرجنتين، وهي العملة التي ربما ستتطور فيما بعد لتكون عملة إقليمية لأمريكا اللاتينية، على غرار اليورو، سيكون على بلدان المنطقة اتخاذ عدة خطوات وتنفيذ مجموعة من الإصلاحات الهيكلية كتخفيض الحواجز الجمركية، وتبسيط الإجراءات الإدارية، وتحسين حركة رأس المال والعمالة، وكذلك تنسيق القواعد النقدية والمالية والاقتصادية ذات الصلة.

يعني هذا أن وجود عملة موحدة في أمريكا اللاتينية سيكون نهاية عملية طويلة ومعقدة من تدابير التكامل الاقتصادي المؤسسي التي من المرجح أن تستغرق عدة سنوات. والأهم من ذلك سيكون على بلدان المنطقة، تحييد التغير في التوجهات السياسية للحكومات (ما بين حكومات يمينية ويسارية) كعامل معرقل للتكامل النقدي والتجاري فيما بينها.

انترريجونال للتحليلات الاستراتيجية 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى