الصراع الفلسطيني الاسرائيلي

سيف الدين الدريني يكتب – جذور الصراع على فلسطين محطات تاريخية

سيف الدين الدريني 28-3-2018م

مقدمة

لا يمكن تناول الصهيونية فكرة ودعوة ومشروعا خارج السياق الأوروبي-الاستعماري. وان كان وعد بلفور وانعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1879 حاضرا في الوعي الجمعي الفلسطيني باعتباره أساس النكبة، فانه لم يكن بلا جذور ومقدمات مهدت لها قرون طويلة من الافكار والمشاريع والمؤتمرات والوعود الاوروبية-الاميركية.

وتؤكد الوثائق والمراجع التاريخية ان جذور دعوة تجميع اليهود في فلسطين وإقامة وطن قومي لهم، بدأت تحديدا في القرن السادس عشر مع حركة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر وغيره من المصلحين، واحدثت تغييرا جوهريا في موقفها من اليهود تولدت عنه نظرة جديدة للماضي والحاضر والمستقبل اليهودي. فالتداعيات والنتائج التي افرزتها حركة الاصلاح الديني في اوروبا، كانت تمس الجانب الديني المتعلق بفلسطين وعلاقتها بالشعب اليهودي، حيث نادت بالعودة الى الكتاب المقدس (بعهديه القديم والحديث) والتمسك بحرفية النص واحياء فكرة “الشعب المختار” وعودته الى ارض الميعاد (فلسطين)، وهو ما يشير ضمنا الى ان اليهود في اوروبا ليسوا عضوا في التشكيل الحضاري الغربي. وقد وردت هذه الافكار منذ العام 1535 في كتاب مارتن لوثر “عيسى ولد يهوديا” وكذلك كتاب “روما والقدس”. ومع مرور الوقت شكلت هذه الافكار مادة خصبة للاستغلال السياسي في اوروبا وظهرت حركات وتيارات خلطت بين الديني والسياسي عرفها المؤرخون فيما بعد بالصهيونية المسيحية او الصهيونية غير اليهودية.

ونحن اذ نعود الى هذه الجذور التاريخية فذلك من اجل استحضار الحقائق والمحطات الرئيسية التي أسست للصراع وتداعياته على فلسطين. فلم تكن أوروبا قبل حركة الإصلاح الديني تعتبر اليهود الشعب المختار الذي يتمتع بصفات قومية وله الحق في العودة الى ارضه الموعودة. ذلك ان حلم اليهود بالعودة الى ارض الميعاد قديم قدم اليهودية ذاتها، الا ان العودة الجماعية لم تكن مطروحة اساسا على المستوى الديني، فالدين اليهودي في احدى صوره يؤمن بان فكرة المسيح المنتظر وحلم العودة تتعارض مع التدخل البشري او الدنيوي لتحقيقها، فهي مرهونة بمشيئة السماء وفي الوقت الذي يحدده الرب عندما يصبح الانسان مؤهلا للتحرر المطلق. 

“الصهيونية غير اليهودية”

ان ولادة حركة الإصلاح الديني لم تكن حدثا عابرا في التاريخ الاوروبي، فقد ادت الى نشوء مذهب جديد خرج عن الكنيسة الكاثوليكية عرف بالبروتستانتية والتي تعني الاحتجاج، تفرعت عنها جماعات تنحدر من اللوثرية والكالفينية والمعمدانية والأنغليكانية..وغيرها. وكانت المعتقدات التي حملها اتباع مختلف تيارات حركة الاصلاح ترى ان تجميع اليهود في فلسطين وتأسيس دولتهم هناك يعجل بالمجيء الثاني للمسيح. وبالتالي فان الدعوة لإنشاء “وطن قومي” لليهود في فلسطين قد نادى بها البروتستانتيون وسعوا الى تنفيذها قبل ان يسعى اليهود الى ذلك، وأصبح الايمان بمساعدة اليهود على اقامة دولتهم في فلسطين نوعا من العبادة التي تعبر عن المشاركة الانسانية في تحقيق المشيئة الالهية، وهو ما اصطلح على تسميته ب «الصهيونية غير اليهودية”.

وقد اعتبرت (البيوريتانية) اشد اشكال البروتستانتية تطرفا ووصلت ذروتها في القرن السابع عشر. غير ان أكثر تلك المعتقدات رواجا ما عرف بعقيدة (الالفية السعيدة) ومفادها، ان المسيح بعد نزوله سيقيم مملكة الله في الارض. وبما ان ظهوره سيكون في موطنه الاصلي فلسطين فلا بد من الاعداد والتهيئة لمقدمه بتجميع اليهود في فلسطين، واقامة دولتهم عليها وعاصمتها القدس تمهيدا لعودة المسيح الذي سوف يقيم دولة الحق والايمان حيث يتم تنصير اليهود فيها، وسوف تعمر هذه الدولة ألف عام وبعدها تقوم الساعةّ. من هنا جاء اسم (الحركة الالفية).

انتشرت الحركة الالفية وعمت اوساطا مسيحية واسعة في بريطانيا والمانيا والولايات المتحدة وأصبح شغلها الشاغل مصير اليهود وارتباطهم بأرض الميعاد، ورات ان من واجبها العمل على اعادة اليهود الى فلسطين. هذا الاعتقاد ألَّف في الماضي وهو يؤلِّف اليوم قاعدة الصهيونية غير اليهودية التي تربط الدين بالقومية. وأصبحت التقاليد والتاريخ والقيم العبرية على مدى ثلاثة قرون، عاملا قويا ومؤثِّرا في الادبيات والثقافة الإنجليزية بوجه خاص والاوروبية بوجه عام. وبدأت صورة “الأمة اليهودية” تتغير تبعًا لذلك في أذهان المسيحيين الجدد.  

ولا يمكن عزل مفهوم الصهيونية غير اليهودية عن التحولات الاجتماعية والاقتصادية والتطورات السياسية التي حصلت في أوروبا في القرنين السادس والسابع عشر، عصر التجارة والاكتشافات الجغرافية وعصر الاستعمار التجاري؛ ووصلت إلى ذروتها في نهاية القرن التاسع عشر. وبدت سيطرة البعد الديني واضحة في انتاج الغرب الفكري والأدبي والفلسفي؛ حيث نلاحظ حماس الدعوة لقضية عودة اليهود إلى فلسطين على أسس دينية في كتابات الفلاسفة “جوزيف بريستلي”؛ “جون لوك”, “إسحق نيوتن”, “جوهان جوتغريد وهودر”، “جان جاك روسو”؛ “بليز باسكال”؛ “ايمانويل كانت”؛ “فخته”. وغيرهم؛ وأصبح أنبياء العهد القديم يحتلون بالتدريج مكان أبطال اليونان الكلاسيكيين في عالم الأدب الغربي. وجاءت مرحلة حل الأدب فيها مكان النهج الديني، ولمعت أسماء عديدة من الشعراء والأدباء الذين انصرفت أقلامهم إلى وصف الشخصيات والصفات اليهودية. وقد فاقت حماسة البعض منهم في تأييد عودة اليهود إلى فلسطين كل تصوّر”.

وتشير المؤرخة اليهودية باربرا تخمان إلى أن الحركة من اجل البعث اليهودي لم تكن من اجل اليهود أنفسهم وحسب، بل من اجل الوعد المعطى لهم أيضا. فقد كان ينظر إلى العودة على أنها اعتناق اليهود للمسيحية، لان هذه هي علامة تحقيق الوعد، وعليه فقد كان كثير من البيوريتانيين يعتقدون، بان من اليسير على اليهود إن يتحولوا إلى المسيحية. وهكذا اتحد الديني بالسياسي واللاهوتي بالتاريخي، فتشكلت هذه العلاقة المميَّزة منذ قرون.

خلاصة القول، إن اهمية حركة الإصلاح الديني تكمن في تمهيدها الطريق للأفكار الصهيونية عن الأمة اليهودية والبعث اليهودي، وكون فلسطين وطنا لليهود. هذه الأفكار لاقت رواجا فيما بعد، حيث كان للصهيونية غير اليهودية ممثلون بارزون في كل فترات التاريخ التي تلت حركة الإصلاح الديني – كما سنرى لاحقا – وتحولت من عقيدة لاهوتية إلى أيديولوجية سياسية للغرب المعاصر، بحيث لم تعد هذه الفكرة غريبة على الراي العام الاوروبي والامريكي، وباتت جمعيات ومؤسسات دينية مختلفة تنادي بالعمل على تحقيقها. واصبحت تداعياتها في عالم اليوم أقوى منها في أي وقت مضى، يشهد على ذلك انتساب قطاعات كبيرة من سادة النظام العالمي الجديد إلى الكنائس البروتستانتية المختلفة التي يشكل هذا الاعتقاد عمودها الفقري.

“الصهيونية “غير اليهودية” في بريطانيا

إن الدور الأوروبي في خلق الصهيونية غير اليهودية كان أكبر بكثير مما يظهر لنا عبر الكتابات الصهيونية بأنها حركة ذاتية واستمرارية لطبيعة المشاعر اليهودية. فلم تكن أوروبا مجرد المهد الذي ولدت فيه الصهيونية وإنما كانت المهد الذي لولاه لما كان للحركة الصهيونية أن توجد. فقد كتب “ماكس نورداو” رفيق “هيرتزل”، وأحد أبرز قادة الحركة الصهيونية فيما بعد : ” لو لم تولد الصهيونية، إذن لعملت بريطانيا على خلقها“.

مع مرور الوقت بدأت المصلحة السياسية تلقي بثقلها إلى جانب الدين، فتم ربط الأفكار الدينية مع السياسة الواقعية القائمة على بسط النفوذ في الشرق الأدنى وتعزيزه تحت شعار الدين، وأصبحت أفكار عودة اليهود تستغل كستار للمصالح البريطانية في فلسطين التي ارتبط موقعها بالمتطلبات الأساسية للإمبراطورية. وقد تجسد ذلك في كثير من المحطات اهمها:

  • مقررات مؤتمر “وايت هول” عام 1655 الذي دعا اليه “أوليفر كرومويل” رئيس المحفل البيوريتاني ومؤسس كومنولث إنجلتراالحر لبحث شرعية عودة اليهود الى بريطانيا بعد طردهم منها، وتمخض عن المؤتمر نص القرار التالي: ان السماح لليهود بدخول دولة بروتستانتية ينبغي ألا يكون قانونياً فحسب بل وأمراً نفعياً “؛ بما يؤشر لبداية توظيف البعد الديني لخدمة البعد السياسي والاستفادة من اليهود وتوظيفهم في خدمة المصالح البريطانية. المفارقة المذهلة هي أن إنجلترا في ذلك الوقت كانت خالية تماماً من اليهود، اذ اصدر الملك إدوارد الأول في عام 1290 قرارًا بطرد جميع اليهود من إنكلترا وانهاء تواجدهم فيها، أي أن فكرة استيطان فلسطين من قبل اليهود ولدت في مكان لا وجود لليهود فيه على الإطلاق! .. عندما وافق كرومويل على السماح لليهود بالعودة الى بريطانيا بعد حوالي 350 عاما كان منهمكاّ في سلسلة من الحروب التنافسية. وقد اوضح الرئيس الفلسطيني محمود عباس في كتابه (قنطرة الشر) أن المنافع التجارية والعسكرية والطمع في ثروات اليهود المزعومة هي التي أملت سياسة التسامح الديني مع اليهود: فقد سمح كرومويل بعودة اليهود عندما كان منهمكاً في سلسلة حروبه التجارية ضد البرتغال وهولندا وإسبانيا. وكان في كل دولة من هذه الدول التي يحاربها جالية يهودية كبيرة معروفة بثرائها ومهارتها التجارية وصلاتها مع الدول الأجنبية بالإضافة إلى ما يمكن أن يجلبه اليهود معهم من رؤوس أموال كبيرة يوظفونها في الصناعة البريطانية.
  • عام 1807 تأسست (جمعية لندن لتعزيز المـسيحية بـين اليهود) كأول جمعية صهيونية منظمة، وطالبت من رئيس الوزراء الانجليزي وليم بت بالعمل على تحقيق ” عودة اليهود نهائيا للأرض المقدسة باعتبار “أن اليهود هم الأمل الوحيـد فـي تجدد المسيحية وعودة المسيح””.
  • عام 1838 أصدر اللورد بالمرستون الذي شغل منصب وزارة الخارجية ورئاسة الوزراء تعليماته بافتتاح قنصلية بريطانية في القدس (كانت اول قنصلية اجنبية في المدينة) وجعلت من اولويات مهام القنصل منح اليهود في فلسطين الحماية البريطانية لضمان سلامتهم وصيانة ممتلكاتهم واموالهم.
  • عام 1840 عقد مؤتمر لندن الذي شاركت فيه عدة دول اوروبية، وقد اعد اللورد شافتسبري مشروعا قدمه الى بالمرستون عرف فيما بعد باسم (ارض بلا شعب لشعب بلا ارض) دعا فيها بريطانيا الى تبني اعادة اليهود الى فلسطين واقامة دولة خاصة بهم، ومحذرا في الوقت ذاته من انه في حالة تقاعس بريطانيا، فهناك احتمالات كبيرة بقيام دول اخرى بالعمل على تنفيذه كروسيا. وقد تبنى بالمرستون خلال المؤتمر مشروعا يهدف الى اقامة كومنولث يهودي في النصف الجنوبي من سوريا (بلاد الشام).. اي فوق المساحة التي شغلتها فلسطين التوراتية.
  • عام 1844 شكل البرلمان البريطاني لجنة اعادة الامة اليهودية الى فلسطين. وفي العام ذاته تم تشكيل الجمعية البريطانية والاجنبية للعمل على اعادة توطين اليهود في فلسطين، والح رئيسها القس كريباس على الحكومة البريطانية كي تبادر للاستحواذ على جميع ارض فلسطين التاريخية من النيل الى الفرات ومن المتوسط الى الصحراء..
  • عام 1845 قدم ادوارد ميت فورد مستشار رئيس الوزراء بالمرستون مذكرة الى حكومته طلب فيها اعادة توطين اليهود في فلسطين باي ثمن، واقامة دولة خاصة بهم تحت الحماية البريطانية. وكان ميت فورد من أوائل الذين تعرضوا لمسالة “الوجود الفلسطيني”، فاقترح إجلاء الفلسطينيين عن وطنهم لأنه حسب الوثيقة.. ” البلد قليل السكان في الوقت الحاضر بالنسبة إلى مساحته. لكن الضغط الذي يولّده إدخال كتلة بهذا الحجم من الغرباء على السكان الفعليين قد تترتب عليه نتائج سيئة، لذا من المستحسن قبل القيام بمحاولة الاستيطان أن يتم اعداد البلاد لاستقبال القادمين. ويمكن تحقيق ذلك بحثّ الحكومة العثمانية للعمل على جعل السكان المحمديين يتراجعون صوب تلك البلاد النائية والمزروعة جزئيا في اسيا الصغرى”.
  • عام 1865 تأسس (صندوق اكتشاف فلسطين) في لندن تحت رعاية الملكة فكتوريا، وقد لعب الصندوق دورا في مجال تزويد الساسة والعسكريين البريطانيين بالمعلومات الجغرافية والتاريخية والسياسية التي كانوا يحتاجون اليها لدراسة جدوى المشروع الاستعماري في فلسطين ودعم جهود بريطانيا الهادفة إلى الاحتفاظ بمواقعها وتدعيمها في وجه التنافس البريطاني- الفرنسي الذي عاد إلى الظهور. خصوصاً بعد هزيمة فرنسا في لبنان في أحداث سنة 1860 وبروز بريطانيا كقوة رئيسية في المنطقة مرشحة لوراثة الإمبراطورية العثمانية في المستقبل.

هكذا توالت الكتب والمشروعات التي بدأت تتحول الى مؤتمرات واجراءات ملموسة عندما بدا رئيس وزراء بريطانيا بينجامين دزرائيلي رئيس حزب المحافظين يهيئ المناخ المناسب لعرض مسألة توطين اليهود في فلسطين أمام مؤتمر برلين عام 1878. حيث نشر مذكرة بعنوان “المسالة اليهودية في المسألة الشرقية”، لا تدعو لتوطين اليهود في فلسطين فحسب، وإنما تدعو أيضا إلى إقامة دولة يهودية تتولى بريطانيا حمايتها والإشراف عليها.

  • عام 1905 انعقد مؤتمر لندن أو ما يسمى بمؤتمر كامبل بنرمان ضم الدول الاستعمارية في ذاك الوقت وهي: بريطانيا، فرنسا، هولندا، بلجيكا، اسبانيا، إيطاليا، واستمرت مناقشاته حتى عام 1907 وخرج بوثيقة سرية عرفت ” بوثيقة كامبل” دعت إلى إقامة دولة في فلسطين تكون بمثابة حاجز بشري قوي وغريب يفصل الجزء الأفريقي عن القسم الآسيوي. وهذا يعني وفق الوثيقة أن إنشاء مثل هذا الكيان انما يعتبر وسيلة لإيجاد قلعة متقدمة ترعى المصالح الغربية، وتضمن ضعف المنطقة وتمنع وحدتها، وهو ما حدث ويحدث فعلاً بغض النظر عن صحة الوثيقة. كما أن هربرت صموئيل الوزير في الحكومة البريطانية التي كان يرأسها أسكويث قدَّم مذكرة سرية للحكومة البريطانية في يناير/كانون الثاني 1915، طالب فيها باحتلال فلسطين وفتح باب الهجرة والاستيطان لليهود ليصبحوا أغلبية السكان، مشيراً إلى المزايا الاستراتيجية للسيطرة على فلسطين.

ان وثيقة كامبل بنرمان باعتمادها فكرة إقامة الحاجز البشري الغريب من اليهود على أرض فلسطين، تكون قد التقت عبر لحظة حاسمة أخرى، في التأسيس لتحول الغرب إلى منشئٍ لمنظومة قيمية جديدة تستثمر اليهودية وإسرائيل، من أجل أغراضه الاستعمارية والأهم من ذلك انجراف مراكز السلطة في الغرب إلى الحديث عن اليهودية وإسرائيل على أنها منشأ الحضارة الغربية ومصدرها الأخلاقي.

  • عام 1917 صدر وعد بلفور  وهو الاسم الدي اطلق على رسالة آرثر بلفورإلى اللورد ليونيل دي روتشيلديشير فيها إلى تأييد الحكومة البريطانية إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.  وحين صدر هذا الوعد كان تعداد اليهود في فلسطين لا يزيد عن 5% من مجموع السكان. وقد أرسلت الرسالة قبل شهر من احتلال الجيش البريطاني لفلسطين. واشتهر منذ ذلك التاريخ بوصف “وعد من لا يملك لمن لا يستحق”.

وبالرجوع إلى دفتي التاريخ نجد أن بلفور كان آخر من أعطى تصريحا وتعهدا بإقامة الوطن اليهودي، فهو لا يشكل البداية لفكرة الوطن القومي لليهود في فلسطين، وانما تضرب الفكرة بجذورها في القرن السادس عشر حيث تبلورت في إطار ما سمي بـ “الصهيونية غير اليهودية” التي وضعت المقدمات الحقيقية لظهور الصهيونية بوصفها مجموعة من المعتقدات المنتشرة بين غير اليهود والتي تؤيد قيام دولة قومية يهودية في فلسطين من منطلقات دينية.

ومع النصف الأخير من القرن التاسع عشر، ومع تدفق يهود شرق أوروبا إلى غربها، وبدلا من أن تنشغل أوروبا باستقبال اللاجئين الجدد، انشغلت بما يُسمى “التخلص من الفائض اليهودي” من خلال دعم الصهيونيّة لتوطين اليهود في أي مكان خارج أوروبا، وللمفارقة فان آرثر بلفور نفسه تبنّى “قانون الغرباء” الذي صدر بين عامي 1903 و1905 والذي كان يهدف إلى وضع حد لدخول اليهود إلى بريطانيا!

بشكل عام؛ فإن التصور الاستراتيجي بإنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين (كنقطة اتصال ومواصلات، وكمنطقة عازلة وقاعدة متقدمة)، كان سبباً رئيسياً في ذهن من اتخذوا قرار إصدار “وعد بلفور”. ونجد مثل هذه الإشارات الاستراتيجية في تصريحات لويد جورج رئيس الوزراء، واللورد كيرزون (الذي خلف بلفور في منصبه) حيث تحددت التوجهات وصيغت التوصيات.

  • عام1921 تجسدت تلك التوجهات في مذكرة ريتشارد ماينر تزهاغن مدير العمليات في الشرق الأوسط قام الجنرال اللنبي بتحويلها إلى رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج. وكان اهم ما ورد فيها.

“طلب مني المارشال اللنبي أن اكتب لكم مذكرة عن السيادة على سيناء، وهو موضوع له أهمية خاصة.. إننا نسير بحكمة زائدة، مستهدفين السماح لليهود بإنشاء وطنهم القومي في فلسطين.. “”وقد تمخّض مؤتمر الصلح عن وليدين، القومية اليهودية والقومية العربية، وشتّان بينهما: فالأول يمتاز بحيويته ونشاطه، في حين يمتاز الثاني بكسله وخموله المكتسبين من الصحراء.. ومما لا شك فيه أن السيادتين العربية واليهودية ستصطدمان. وإذا قدّر لمشروع الهجرة اليهودية إلى فلسطين أن ينجح، فإن الصهيونية ستتوسّع على حساب العرب من دون سواهم.. ونحن لا نستطيع أن نكون أصدقاء للعرب واليهود في آن واحد، وإني أقترح منح الصداقة البريطانية لليهود وحدهم بتقدير أنهم الشعب الذي سيكون صديقنا المخلص الموالي في المستقبل. إن اليهود مدينون لنا كثيراً، وهم يحفظون لنا هذا الجميل، وسيكونون ثروة لنا، بعكس العرب الذين سيكونون سلبيين معنا برغم خدماتنا لهم.. “

“في حال ضم سيناء إلينا، فإننا نربح حداً فاصلاً بين مصر وفلسطين، ونؤكّد لبريطانيا مركزاً قوياً في الشرق الأوسط، مع سهولة الاتصال بالبحرين المتوسّط والأحمر، وقاعدة استراتيجية واسعة النطاق مع ميناء حيفا الممتاز الذي سنستعمله بموافقة اليهود. ومن حسنات هذا الضّم، أنه سيحبط أية محاولة مصرية لإغلاق القناة في وجه ملاحتنا، كما سيمكننا من حفر قناة تربط بين البحرين المتوسّط والأحمر، ثم إن ضم سيناء لن يثير أية قضية قومية ضدّنا، إذ إن البدو الرّحل المقيمين فيها لا يتجاوزون بضعة آلاف”.

 الصهيونية غير اليهودية في فرنسا :

لم تنفرد بريطانيا باحتضان نبوءة التوراة وتحقيقها، فمع أنها كانت أول الدول وأشدها حماسة للصهيونية نظرياً وعملياً إلا أن دولاً أوربية كثيرة لم تكن أقل حماساً منها. ففرنسا مثلاً وجهت أول دعوة رسمية من جانب قوة عظمى لتوطين اليهود في فلسطين. ففي عام 1798 كانت هناك خطة من رسم الحكومة الفرنسية لإقامة كومنولث يهودي في فلسطين معدة للتنفيذ في حالة نجاح الجيوش الفرنسية في احتلال مصر والشام، وكان “نابليون بونابرت” يتطلع إلى ضرب المصالح البريطانية الرئيسية في الشرق الأوسط. وإلى قطع طريق الهند ومد النفوذ الفرنسي إلى الشرق، وجعله منافساً أساسياً للنفوذ البريطاني. وأول ما قام به بونابرت بعد احتلاله مصر في العام ذاته إصدار بيان دعا فيه اليهود للانضواء تحت رايته من أجل إعادة بناء مملكة القدس القديمة، ثم كرر دعوته عند حصاره عكا في 1799.

طوال القرن التاسع عشر كان العالم مشغولاً بأربع قضايا: ظاهرة الوطنية، وظاهرة التسابق إلى المستعمرات والتنافس عليها بين القوى الأوروبية، والمسألة الشرقية أي التربّص بإرث الخلافة العثمانية والمسألة اليهودية, حيث كان اليهود هدف عداء استفحل خصوصاً في شرق أوروبا وروسيا, واستطاع نابليون الربط بين المسائل الأربع مع التركيز على المسألة اليهودية لتحقيق اغراضه التوسعية.

يقول محمّد حسنين هيكل في كتابه “المفاوضات السرّية بين العرب وإسرائيل، ان الحملة الشهيرة على مصر جاءت لتحقيق هدفين. احتلال مصر كبداية لعملية إرث الخلافة. والزحف منها إلى فلسطين والشام. فنابليون لم يكن ينظر إلى مصر وحدها وإنما كان يراها في اتصال غير قابل للانفصال مع السهل السوري الذي يشكّل معها حجر زاوية قائمة تحيط بالشاطئ الشرقي الجنوبي للبحر المتوسّط، وهذه الزاوية القائمة بضلعها الجنوبي في مصر تمدّ تأثيرها بالعرض إلى كل الساحل الشمالي لأفريقيا وبالطول إلى الجنوب حتى منابع النيل، ثم أنها بضلعها الشمالي في سوريا تلامس حدود بلاد ما بين النهرين وشبه الجزيرة العربية والخليج وحتى طرق الاقتراب البري والبحري إلى فارس والهند”.

ولكي يضمن نابليون عدم التقاء الضلعين عربياً وإسلامياً – مصر وسوريا – فإنه يزرع عند مركز الزاوية هذه شيئاً آخر لا هو عربي ولا هو إسلامي. ومن هنا “أتت ورقة نابليون اليهودية” التي أظهرها أمام أسوار القدس ووزّعت على كل يهود العالم فكان نداؤه على النحو التالي:

  • من نابليون بونابرت القائد الأعلى للقوات المسلّحة للجمهورية الفرنسية في أفريقيا وآسيا إلى ورثة منطقة فلسطين الشرعيين.

” أيها الإسرائيليون، أيها الشعب الفريد، الذي لم تستطع قوى الاحتلال والطغيان أن تسلبه إسمه ووجوده القومي، وإن كانت قد سلبته أرض الأجداد فقط. إن مراقبي مصائر الشعوب الواعين المحايدين وإن لم تكن لهم مقدرة الأنبياء مثل يشعيا ويوئيل ـ قد أدركوا ما تنبّأ به هؤلاء بإيمانهم الرفيع أن (اليهود) سيعودون إلى صهيون وهم ينشدون، وسوف تعمهم السعادة حين يستعيدون مملكتهم من دون خوف”.

“انهضوا بقوة أيها المشرّدون في التيه. إن أمامكم حرباً مهولة يخوضها شعبكم بعد أن اعتبر أعداؤه أن أرضه التي ورثها عن الأجداد غنيمة تقسّم بينهم حسب أهوائهم..

“إن الجيش الذي أرسلتني العناية الإلهية به، ويمشي بالنصر أمامه وبالعدل من ورائه، قد اختار يروشلايم مقراً لقيادته، وخلال بضعة أيام سينتقل إلى دمشق المجاورة التي استهانت طويلاً بمدينة داود ملك إسرائيل وأذلّتها. “

 يا ورثة فلسطين الشرعيين.. « ان الأمّة الفرنسية التي لا تتاجر بالرجال والأوطان كما فعل غيرها، تدعوكم إلى إرثكم بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء. سارعوا، إن هذه هي اللحظة المناسبة ـ التي قد لا تتكرّر لآلاف السنين ـ للمطالبة باستعادة حقوقكم ومكانتكم بين شعوب العالم، تلك الحقوق التي سلبت منكم لآلاف السنين وهي وجودكم السياسي كأمّة بين الأمم، وحقكم الطبيعي المُطلق في عبادة إلهكم (يهوا)، طبقاً لعقيدتكم، وافعلوا ذلك في العلن وافعلوه إلى الأبد”.

وقد أُعلن هذا النداء في الجريدة الرسمية الفرنسية يوم 20 أبريل سنة 1799. وكان من اللافت ان عدد اليهود في مدينة القدس آنذاك لم يتجاوز الالفين، وهؤلاء ليس في مقدورهم مهما فعلوا أن ينصروه ولا أن يخذلوه”. وبالتأكيد، لم يكن نابليون يهودياً أو صهيونياً، وإنما قصد إلى استخدام هذه الدعوة لخدمة أغراضه الاقتصادية والسياسية. وبهذا النداء، دخلت مرحلة التنافس الاستعماري البريطاني – الفرنسي مرحلة جديدة، كما أصبحت الدعوة الصهيونية أداة لخدمة أغراض هذا الاستعمار أو ذاك.

لم يكن لنداء نابليون اي إثر مباشر بسبب فشله في دخول عكا ولكن نداءه قد نجح نظريا في ارساء القواعد الرئيسية للمشاريع الصهيونية القادمة. ومع نهاية القرن الثامن عشر كانت الافكار الصهيونية قد ترسخت في فرنسا بعد ان وجدت فكرة البعث اليهودي منطلقا لها في القرنين السابع عشر والثامن عشر من خلال التعاليم الدينية.

  • انتعشت الصهيونية غير اليهودية بعد نابليون خاصة ايام الامبراطور نابليون الثالث 1852 م عندما تجددت النشاطات الاستعمارية على نطاق اشد. وكان الممثل الرئيسي للصهيونية غير اليهودية في هذه الحقبة هو ارنست لاهاران السكرتير الخاص لنابليون الثالث الذي كان يؤيد فكرة احتلال المشرق العربي, وقد وضع كتابا عام 1860 اكد فيه المكاسب الاقتصادية التي ستجنيها اوروبا اذا اقام اليهود وطنا لهم في فلسطين. وجاء في كتابه ان اليهود «شعب عضوي لم يندمج في الحضارة الغربية لأنه مرتبط بالشرق حيث يجب أن يذهبوا حاملين “أنوار أوروبا” ليكونوا بمنزلة الوسطاء الذين سيفتحون الشرق للغرب عن طريق تكوين دولة يهودية في الأرض الواقعة بين مصر وتركيا، تحت رعاية فرنسا. وقد بيَّن لاهاران الفوائد التي ستعود على الغرب من توطين اليهود في فلسطين: “طريق جديد ومُعبَّد للحضارة الغربية وأسواق جديدة للصناعة الغربية”.

 الصهيونية غير اليهودية في بقية دول أوروبا: 

انتشرت أفكار الصهيونية غير اليهودية في جميع إنحاء أوروبا. وتميزت الخريطة الدينية في القرن السادس عشر بوجود انقسام ما بين الكاثوليكية والبروتستانت؛ حيث انتشرت اللوثرية في كل من الدنمارك والسويد وأجزاء من بولونيا، بينما انتشرت الكالفينية في الأراضي المنخفضة واسكتلندا، وتركزت الأنغليكانية في انجلترا. وهكذا انتشرت الافكار (الألفية). وبالتالي لا غرابة إذا كانت فكرة الاستيلاء على فلسطين وتحفيز اليهود على انشاء وطن قومي فيها قد وجدت المنشأ والحاضنة المناسبة لها في أحضان الدول الغربية. غير أنَّ الاستجابات اليهودية الأولية لهذه المشاريع لم تتخذ طابعًا جماهيريًّا واسع النطاق.

كانت الدول الاوروبية الرئيسية منغمسة في بناء امبراطورياتها وجلب افواج من المستوطنين الى المواقع الحيوية من مستعمراتها وتهيئ لهم سبل الاستقرار فيها لحمايتها من أي اخطار، والاستعانة بهم في استغلال ثرواتها مثلما حدث في جنوب افريقيا والجزائر وروديسيا وغيرها. وبالنسبة لفلسطين فان التناقضات بين إنكلترا وفرنسا وألمانيا في المنطقة العربية التي كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، والصراع الدائر من أجل تقسيمها النهائي أرغمتها على البحث عن أفضل السبل ملائمة لتوسيع مناطق نفوذها، ووجدت ضالتها في تشجيع فكرة توطين اليهود في فلسطين كأفضل وسيلة. ولم تعد “العودة اليهودية ” آنذاك موضوعا للبحث الأكاديمي المجرد، بل أصبحت صيغة واقعية مرتبطة بالأزمة السياسة السائدة في أوروبا، ولم يعد الأمر بحاجة لجيل جديد من المؤمنين بالعصر الألفي السعيد، حيث تكفلت الأحداث بالتبشير بتلك العودة.

  • عام 1556 قامت في هولندا ثورة أسفرت عن تأسيس جمهورية بروتستانتية مستقلة عام 1609 حملت معها الافكار المتعلقة بعودة اليهود الى فلسطين. وفي عام 1649 قدم اثنان من الدعاة الانجليز يقيمان في أمستردام، استرحاما لحكومتهم جاء فيه «ليكن شعب انجلترا وسكان الأراضي المنخفضة أول من يحمل أبناء وبنات إسرائيل على سفنهم إلى الأرض التي وعد بها أجدادهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب لتكون ارثهم الأبدي”. كما انتشرت في الدول الاسكندنافية الأفكار الألفية، وفي الدنمارك حث السياسي والداعية هولجربولي ملوك أوروبا على شن حملة جديدة لتحرير ارض الميعاد وتوطين اليهود ورثتها الاصليين.
  • عام 1870 قامت جمعية الهيكل الالمانية وهي حركة اصلاحية انجيلية اسسها جوتليب هوفمان بإنشاء مستوطنات زراعية ألمانية في القدس وحيفا ويافا.
  • عام (1898) أكد الإمبراطور الألماني غليوم الذي زار مدينة القدس امام وفد يهودي برئاسة هيرتزل بأن (المساعي الصهيونية في فلسطين التي تحترم سيادة حليفته تركيا تستطيع أن تعتمد على رعايته الكاملة)، وترجمت هذه الرعاية بتوثيق العلاقة بين المستوطنين اليهود والمستوطنين الألمان في فلسطين.
  • عام 1880 تبنّى الأسقف الأنغليكاني في فيينا وليم هشلر النظرية التي تقول “إن المشروع الصهيوني هو مشروع إلهي، وإن العمل على تحقيقه يستجيب للتعاليم التوراتية”، وألف هشلر كتابا عام 1882م بعنوان “عودة اليهود إلى فلسطين حسب النبوءات”.
  • عام 1901 قام هيرتزل بتفويض من المؤتمر الصهيوني بمقابلة فون بليفيه وزير الداخلية الروسي حصل بعدها على تصريح نوايا في شكل رسالة وجهها الوزير إلى هيرتزل جاء فيها:
    “ما دامت الصهيونية تحاول تأسيس دولة مستقلة في فلسطين، وتنظيم هجرة اليهود الروس، فمن المؤكد أن تظل الحكومة الروسية تحبذ ذلك. وتستطيع الصهيونية أن تعتمد على تأييد معنوي ومادي من روسيا إذا ساعدت الإجراءات العملية التي يفكر فيها على تخفيف عدد اليهود في روسيا”.

وقد ربط المؤرخ السوفييتي “لوتسكي” في كتابه “تاريخ الأقطار العربية الحديث” بين ازدياد الحماسة للدعوة الصهيونية وتأسيس دولة يهودية في فلسطين من جهة. واحتدام التنافس والصراع الاستعماري للاستيلاء على سورية وفلسطين من جهة أخرى.

 الصهيونية غير اليهودية في الولايات المتحدة

منذ بدايات القرن التاسع عشر كان المحافظون في اوساط البروتستانتية الاميركية يعتقدون ان عودة اليهود الى ارض المیعاد ھو تحقیق نبوءة توراتية مرتبطة بعودة المسیح ونهاية العالم. وان لهم دور مكتوب هو حماية اليهود وانتعاشهم لأن انتشالهم من حیاة الفقر والاضطهاد سيرتقي بحياتهم كما ارتقت هجرة الأوروبيين الى امريكا بحياة هؤلاء المهاجرين وعندئذ سيتمكن اليهود من رؤية الحقيقة والانضمام لحركة الاحیاء المسيحي تمهيدا لعودة المسیح ونهاية العالم.  واتسع انتشار الكتب والمنشورات التي تتحدث عن اعادة تاسیس الدولة اليهودية وعودة القبائل المفقودة من العهود القديمة. وتأصلت هذه الرؤية عندما تزايدت هجرة اليهود من روسيا بعد 1880’.

تتعدد أسماء الفرق والجماعات المسيحية الصهيونية في امريكا منها: الأُصولية اليمينية، والألفية، والميثودية والإنجيلية المتشددة التي تتبعها كنائس عديدة داخل امريكا وخارجها أبرزها شهود يهوا، والطائفة البيوريتانية، وفرق المجيئيون والسبتيون، وجبل المعبد وغيرها. أما أكثر الفرق مغالاة وأكثرها نفوذًا وعددا فهي الطائفة “التدبيرية” التي ترى أن كل شيء من تدبير الله ومقدر سلفًا، والتي تعرف أحيانًا باسم “الأنجلو سكسون البروتستانت البيض” “White Anglo-Saxon Protestant تختصر بـ (W.A.S.P) وتضم شخصيات بارزة سياسيًّا واقتصاديًّا وتربويًّا وإعلاميًّا وعسكريًّا. وتؤمن هذه المجموعة الدينية بأن قيام إسرائيل يؤكد توافر الشرط الذي طال انتظاره من أجل العودة الثانية للمسيح، وبالتالي فإن الدفاع عن إسرائيل هو عمل ديني يتعلق بثوابت إيمانية، وليس مجرد موقف سياسي يتأثر بالمتغيرات من الأحداث.

تترجم هذه الحركات الصهيونية غير اليهودية أفكارها إلى سياسات داعمة لإسرائيل، من خلال تشكيل منظمات ومؤسسات تعمل لتحقيق هذا الهدف. وهناك أكثر من 40 مليونا من أتباعها داخل امريكا وحدها، ولها حضور متزايد في الإعلام الأميركي، فهناك حوالي 100 محطة تلفزيونية، وأكثر من ألف محطة إذاعية، ويعمل في مجال التبشير والدعوة لهذه الفكرة ما يقرب من 80 ألف قسيسا.

  • عام 1818 سار الرئيس الأميركي جون آدامز على خطى نابليون، اذ دعا إلى “استعادة اليهود لفلسطين وإقامة حكومة مستقلة لهم”، فقد كتب آدامز رسالة جاء فيها: “أتمنى أن أرى ثانية أمة يهودية مستقلة في يهودا”.
  • عام (1844) قامت أمريكا بفتح أول قنصلية لها في القدس، وفي عام 1852 تم تعيين أحد قادة البروتستانت ووردر غريسون (اشتهر بتعاطفه مع فكرة الشعب المختار وارض الميعاد) قنصلاً للولايات المتحدة وساهم مع عدد من المسيحيين واليهود الأمريكان في دعم المستوطنات في فلسطين.
  • عام 1891 قام ما يزيد على 413 رجل من الدوائر السياسية والقضائية والدينية من بينهم كبير قضاة المحكمة العليا، ورئيس مجلس النواب وعدد كبير من أعضاء مجلس الشيوخ ورؤساء تحرير عدد من الصحف الكبرى. بتوقيع مذكرة تناشد فيها حكومة الرئيس الامريكي بنيامين هاريسون (زعيم الكنيسة المشيخية) مطالبة الدول الأوروبية عقد اجتماع بهدف الضغط على الإمبراطورية العثمانية لإعادة اليهود إلى فلسطين.
  • عام 1917 وبعد اعتزاله الرئاسة صدر كتاب (The Winning of the West)، وهو مؤلف من أربعة أجزاء للرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت جاء فيه. ” ان الرعيل الأول من الأمريكيين لم ينظروا الى السكان الأصلیین-الهنود الحمر- من منظور الحقيقة او الرحمة وانما كانوا ينظرون إليهم كما نظر انبياء إسرائيل الى اعداء إسرائيل.. ” وانه من المنطقي البدء في انشاء دولة صهيونية حول القدس “.
  • في 12/01/1919 رفعت لجنة خبراء رسمية تقريرا للرئيس وودرو ويلسون حول فلسطين واستيطان اليهود فيها جاء فيها ما يلي: “توصي اللجنة بإنشاء دولة منفصلة في فلسطين تحت الانتداب البريطاني، ويتم توجيه الدعوة إلى اليهود للعودة إلى فلسطين والاستيطان فيها وتقديم جميع المساعدات اللازمة والتي لا تتعارض مع الحفاظ على حقوق السكان من غير اليهود.

وكان ويلسون قد بعث برسالة رسمية لزعيم الصهيونية الأمريكية الحاخام “ستيفن وايز” مصدقاً بشكل رسمي على وعد بلفور، وفي آب/ أغسطس 1918 جاء في تصريح له: “أعتقد أن الأمم الحليفـة قـد قـررت وضع حجر الأساس للدولة اليهودية في فلسطين بتأييد تام من حكومتنا وشعبنا”.

  • عام 1922 قال رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب (هنري كابوتلودج).”إنني لم أحتمل أبدا فكرة وقوع القدس وفلسطين تحت سيطرة المحمديين.. إن بقاء القدس وفلسطين المقدسة بالنسبة لليهود، والأرض المقدسة بالنسبة لكل الأمم المسيحية الكبرى في الغرب، في أيدي الأتراك، كان يبدو لي لسنوات طويلة وكأنه لطخة في جبين الحضارة من الواجب إزالتها”.
  • عام 1936 أصدر المؤتمر المسيحي- الأميركي إعلانا بدعوة المجتمعات المتحضرة إلى مساندة اليهود الفارين من ألمانيا وأوروبا الشرقية، للعودة إلى فلسطين ملاذهم الطبيعي، ورفعت هذه المنظمات شعار «الأرض الموعودة” و”الشعب المختار”.
  • عام 1944 قال الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت: “إن الرئيس سعيد لأن أبواب فلسطين مفتوحة اليوم أمام اللاجئين اليهود، وعندما يتم التوصل إلى قرارات في المستقبل فسوف ينصف أولئك الذين ينشدون وطنا قومياً لليهود وهو ما كانت تشعر نحوه حكومتنا والشعب الأمريكي، واليوم أكثر من أي وقت مضى”.

وفي العام ذاته اتخذ الكونغرس قراراً تتعهد الولايات المتحدة بموجبه: «بذل قصارى جهدها من أجل فتح أبواب فلسطين أمام الشعب اليهودي للدخول إليها بحرية ولإتاحة الفرصة أمامهم للاستيطان فيها، وحتى يتمكنوا من إعادة تكوين فلسطين يهودية ديموقراطية حرة”.
• عام 1963 قال الرئيس الأمريكي ليندون جونسون أمام جمعية «أبناء العهد»: «إنني مستعد للدفاع عن إسرائيل تماماً كما يدافع جنودنا عن فيتنام. وإن بعضكم، إن لم يكن كلكم، لديكم روابط عميقة بأرض إسرائيل مثلى تمامًا، لأن إيماني المسيحي ينبع منكم، وقصص التوراة منقوشة في ذاكرتي، تماماً مثل قصص الكفاح البطولي ليهود العصر الحديث، من أجل الخلاص من القهر والاضطهاد».

  • عام 1979 قال الرئيس (جيمي كارتر) في خطاب له أمام الكنيست الإسرائيلي: “إن علاقة أميركا بإسرائيل أكثر من مجرد علاقة خاصة.. لقد كانت ولاتزال علاقة فريدة، وهي علاقة لا يمكن تقويضها، لأنها متأصلة في وجدان وأخلاق وديانة ومعتقدات الشعب الأميركي”.

ولعل أكثر من ألقى الضوء على الصهيونية الإنجيلية الأمريكية الكاتبة غريس هالسل باعتبارها من مستشاري البيت الابيض وعلى صلة وثيقة بخفايا السياسية الأمريكية في كتابها المسمى (النبوءة والسياسة) سلطت الضوء فيه على تلك العلاقة. تقول في معرض تعريفها لكتابها: ( قلة قليلة تدرك أن التحالف الصهيوني – الأمريكي الفريد والخاص يرجع بالإضافة للعوامل السابقة وفي المقام الأول إلى دوافع وأسس دينية عميقة الجذور في البنية الثقافية المسيحية وإلى الخلفية التوراتية في العقل الأمريكي. كما أن قلة قليلة من المثقفين تدرك أن الفكرة الصهيونية قد ولدت في أحضان المسيحية البروتستانتية قبل هيرتزل بقرون). واستغربت هالسل كيف أصبح اليهود في نظر العديد من المسيحيين الأميركيين أقرب وأهم من المسيحيين الآخرين، بمن فيهم المسيحيون الفلسطينيون،

ولاحظت الكاتبة أن الأصوليين المسيحيين في أميركا “مستعدون لتقبل نقد موجه لفرنسا أو إنجلترا أو ألمانيا أو إيطاليا، أو حتى الولايات المتحدة ذاتها، لأن ذلك شأن سياسي، أما نقد إسرائيل فهو يساوي عندهم نقد الرب ذاته” حسب تعبيرها.

وفي مقالة نشرت في عدد يوليو/اغسطس 2008 في مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية المعروفة في أوساط المفكرين وصانعي القرار تحت عنوان- اسرائيل القديمة واسرائيل الجديدة-، حلل الكاتب راسل ميد الأسباب الفعلیة التي تفسر تأييد الأمريكان للدولة اليهودية. وفي مقدمته يذكر المؤلف انه في 12 مايو 1948 قدم كلارك كلیفورد ، احد مستشاري الرئيس ترومان مذكرة الى رئيسه مؤيدا الاعتراف بدولة إسرائيل لاعتبارات إنسانية وعقائدية واستشهد بنص توراتي ليؤكد حق اليهود في تملك أرض فلسطين التي وهبها الله لأجدادهم.

وتشترك كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، كما يقول الكاتب في ان كلاهما دول استيطانية اقيمت على أنقاض السكان الأصلیین واتصفت علاقتهما التاريخية بالحرب والصدام مع الشعوب التي احتلوا ارضها، وكلاهما قدم تبريراته لسلوكه من نفس النصوص التوراتية. ان التأييد الواضح لإسرائيل في الولايات المتحدة هو في راي المؤلف، ليس تعبيرا عن قوة اللوبي اليهودي فقط، وانما هو تعبير عن قوة الرأي العام الأمريكي في صياغة السياسة الخارجية الأمريكية على الرغم من تحفظات وحساسيات بعض صانعي القرار في الادارة الأمريكية. فتأييد إسرائيل هو كالحرب على تجارة المخدرات وبناء الجدار على الحدود الأمريكية –المكسيكية تعبيرا عن قناعات ثابته لدى الرأي العام الأمريكي. وهذا لا يعني ان اللوبي اليهودي لیس مؤثرا ولكن ما يريد ان يؤكده، ان سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط يتجاوز التأثير فيها الدائرة اليهودية.

وإذا ما تركنا جانباً هذا المنطلق الأساسي للسياسة الأمريكية وتتبعنا مراحل تطور الموقف الأمريكي من الصراع العربي ـ الإسرائيلي، فإننا نعود الى نفس السياق الاستعماري التقليدي والساعي دوما الى تحقيق مصالح استراتيجية وبسط السيطرة والنفوذ. فالولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بدأ اهتمامها يتزايد بمنطقة الشرق الأوسط، وتبنت استراتيجية “ملء الفراغ” الناتج عن تواري وتراجع بريطانيا وفرنسا. وقد تضافرت عوامل عديدة للفت أنظار الولايات المتحدة إلى أهمية هذه المنطقة وأهمية تواجدها الكثيف فيها، ومن هذه العوامل “البحث عن مصادر التسهيلات في المنطقة لضمان مصالحها البترولية، والحد من النفوذ السوفياتي في المنطقة، وضمان أمن (إسرائيل).
بهذه الخلفية يأتي ترامب بجرأة لم يسبقه إليها أي رئيس أمريكي، ضاربا عرض الحائط سمفونية السلام المحتشمة التي ظل أسلافه يعزفون عليها، وغير آبه بكل أولئك الكارهين لهذه السياسة المتطرفة. ليعلن أن القدس عاصمة إسرائيل. متحديا بذلك جميع الاحتجاجات السابقة واللاحقة، وما سيترتب على ذلك من أوضاع بالغة الخطورة. فهل كان لترامب أن يقدم على هذه الخطوة الخطيرة وغير المسبوقة، بكل هذه السهولة، لو لم تكن هناك من ورائها عقيدة قوية راسخة يؤمن بها كما تؤمن بها قطاعات واسعة من الأمريكيين؟ ان الذين يقرؤون التحيز الأميركي لإسرائيل بعيون سياسية واستراتيجية فقط، يغفلون حقيقة تاريخية على قدر كبير من الأهمية، وهي أن الصهيونية غير اليهودية سبقت الصهيونية اليهودية بمئات السنين.

 خلاصة القول

ان فلسطين لأهمية موقعها الذي يجعلها نقطة الوصل بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، ولكونها مفتاح منطقة الشرق الاوسط باسرها. كانت تشكل عبر التاريخ مركزا حيويا لكل القوى الغازية في مختلف المراحل. وكانت محاولة كورش الفارسي اول محاولة سجلها التاريخ قام بها المستعمرون، لضمان مصالحهم الاستراتيجية بعد انتصاره على بابل وتحرير اليهود الذين تم سبيهم عن طريق انشاء دولة يهودية على ارض فلسطين لحماية الحدود الغربية لإمبراطورتيه من الهجمات المصرية. بمعنى ان طبيعة انشاء مثل هذه الدولة هي طبيعة وظيفية للمستعمر القادم الى فلسطين يريدها ان تقوم بوظيفة معينة لا علاقة لها باليهودية، وتقوم على التلاقي بين الاهداف والمخططات والمصالح.

ولا تخرج محاولة الصهيونية غير اليهودية في الغرب عن هذا السياق، فالدعوة لإنشاء دولة يهودية في فلسطين ما هي الا مشروع لقوى عظمى وامبراطوريات كان يهدف ولا يزال الى بسط السيطرة والنفوذ في المنطقة وتوظيف هذه الدولة لضمان مصالحه الاستراتيجية من خلال التستر خلف مقولات دينية. ولعل ابا ايبان وزير الخارجية الاسرائيلي الاسبق قد أكد هذا المعنى عندما صرح. “ليس هناك ادنى شك ان الدوافع المحركة لرئيس وزراء بريطانيا دزرائيلي (1874-1880) لإنشاء وطن قومي يهودي كانت مصلحة بريطانيا اولا واخيرا. “

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى