أقلام وأراء

د. سنية الحسيني: قضية اللاجئين الفلسطينيين بين التنكر والتحيز

د. سنية الحسيني 2023-06-15قضية اللاجئين الفلسطينيين بين التنكر والتحيز

قد تكون قضية اللاجئين الفلسطينيين من بين الأدلة الصارخة الباقية آثارها حتى اليوم أمام العالم على الجريمة التي ارتكبت بحق الفلسطينيين من قبل الحركة الصهيونية ودولتها من بعدها، وبدعم ومساندة من قبل الدول الغربية أو القوى الاستعمارية في ذلك الوقت. تلك الجريمة التي اقترفت بحق شعب كامل، والتي تعد وصمة عار في جبين الإنسانية في العصر الحديث، لا تزال حتى اليوم تعاني الإنكار من قبل مقترفها، والتجاهل والتحيز لمرتكبها من قبل تلك القوى الغربية. بعد توقيع اتفاق أوسلو للسلام عام ١٩٩٣، واعتبار قضية اللاجئين من بين قضايا الحل النهائي، التي كان يفترض البت فيها خلال الخمس سنوات التالية على الاتفاق، بقي الوضع الفلسطيني كما كان يشهد على استمرار حالة الاحتلال، ولم تحل أي من القضايا المحورية في حياة الفلسطينيين، على رأسها بقاء نصف الشعب الفلسطيني مشتتاً لاجئاً في أصقاع الأرض، وبقي آلاف المعتقلين الفلسطينيين يرزحون في غياهب سجون الاحتلال. أجيال وأجيال فلسطينية متلاحقة تدفع ثمن ذلك الصمت والتحيز الغربي حتى اليوم، وخصوصا الأميركي القطب الأقوى عالمياً، والمنحاز بشكل أعمى للاحتلال، فإلى متى ستبقى العدالة غائبة في الحالة الفلسطينية؟

 

قامت المنظمات الإرهابية الصهيونية في فلسطين بطرد ما بين ٧٠٠ إلى ٩٠٠ ألف فلسطيني من وطنهم نهاية العقد الرابع من القرن الماضي، بما شكل حوالي نصف الشعب الفلسطيني في حينه. وكررت الحكومة الاسرائيلية ذلك عندما طردت أكثر من ٤٠٠ الف فلسطيني من الضفة وغزة، خلال وبعد احتلالها لما تبقى من أرض فلسطين في العام ١٩٦٧، بما شكل رحيل ما بين ثلث وربع الفلسطينيين الذين تواجدوا في تلك المناطق في حينه. تلك السياسة الممنهجة التي اقترفتها العصابات الصهيونية أو جيش الاحتلال بعد ذلك، كشفت الوثائق المحررة حديثا، أنها وضعت قبل تنفيذها بسنوات، منها ما رسم قبل أكثر من عقد على حرب عام ١٩٤٨، وأخرى حيكت قبل حرب عام ١٩٦٧ بسنوات. كما كشفت الوثائق كذب الرواية الصهيونية والاسرائيلية من بعدها حول تهجير الفلسطينيين، والتي تدعي أنهم خرجوا من وطنهم بإرادتهم أو بتوجيهات من قيادتهم، كما كشف الواقع من قبل أن فلسطين لم تكن يوماً أرضاً بلا شعب، كما ادعت الحركة الصهيونية كمبرر لأخذ فلسطين.

وتكشف الشهادات الوثائق التي لم يفرج الا عن القليل منها، عن استخدام العصابات الصهيونية في نهاية الأربعينات والجيش الإسرائيلي في الخمسينيات والستينيات، المجازر والقتل الجماعي للمدنيين، وعمليات اغتصاب وتمثيل بالجثث. وكشف اللثام فقط عن ٧٠ مجزرة حتى الآن، وتسميم آبار المياه للقرى والمدن الفلسطينية ونشر الأوبئة فيها. ويقدر عدد من استشهد خلال حرب عام ١٩٤٨ بـ ١٥ ألف فلسطيني على الأقل. عملت السلطات الإسرائيلية كذلك على قتل كل من حاول العودة من الفلسطينيين لدياره بعد ذلك، ودمرت وحرقت القرى الفلسطينية، لتمنع أي فرصة لعودتهم، ولإزالة أي أثر لوجودهم.  

إسرائيل لم تتوان عن سن قوانين رسمية لتشريع ممارساتها غير القانونية والانسانية والأخلاقية ضد الفلسطينيين، ففي حين سمح قانون العودة الذي صدر في العام ١٩٥٠ لأي يهودي، أيا كان موطنه وعرقه، بالدخول لفلسطين والحصول على الجنسية الإسرائيلية، حرم الفلسطيني من العودة لأرضه وبيته في وطن أجداده. وصدر قانون أملاك الغائبين في العام التالي، لمصادرة أملاك الفلسطينيين، الذين قتلوا أو طردوا أو منعوا من العودة لوطنهم، وهي جزء يسير من تلك التشريعات عموماً التي صدرت في تلك الفترة لتحقيق ذات الهدف. وعملت سلطات الاحتلال بعد ذلك على تطبيق مثل تلك التشريعات وأوامر عسكرية أخرى في الأراضي الفلسطينية التي احتلت بعد ذلك في العام ١٩٦٧.

جاءت كل إجراءات إسرائيل سابقة الذكر في ظل صدور قرار الأمم المتحدة رقم ١٩٤ في العام ١٩٤٩، والذي تأسست وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، على أساسه، وكان تنفيذه شرطاً من شروط قبول عضوية إسرائيل في المنظمة الدولية، ولكنها استمرت في ممارساتها لطرد الفلسطينيين، ومنع عودتهم ومصادرة ممتلكاتهم بعد صدور القرار. تآمر المجتمع الغربي والقوى الاستعمارية على الفلسطينيين عندما أصدروا قرار التقسيم رقم ١٨١ في العام ١٩٤٧، من الجمعية العامة، والتي لا يحق لها البت في مثل هذه القضايا، وفي ظل سيطرة القوى الاستعمارية على المنظمة. ليس هناك حاجة لإثبات تحيز هذه المؤسسة الدولية، التي يعد تحقيق الأمن والسلم الدوليين السبب الرئيس من وجودها، فقرار التقسيم سابق الذكر كان الشرارة التي أطلقت جرائم المنظمات الصهيونية ضد الفلسطينيين، كما تثبت الوقائع. كما جاء أول تحرك لهذه المنظمة لتفعيل نظام الأمن الجماعي ضمن الفصل السابع الخاص باستخدام القوة، على ندرته، لردع الجيوش العربية التي تحركت لنجدة الفلسطينيين في العام ١٩٤٨، وقبلت عضوية دولة إسرائيل بعد الإعلان عن قيامها مباشرة، رغم حيثيات ظهور هذه الدولة.

اليوم وبعد أكثر من سبعة عقود على عملها، فاق عدد اللاجئين الفلسطينيين الخمسة ونصف مليون لاجئ مسجل على قوائم الأونروا، رغم أن عددهم أكثر من ذلك، فنصف الشعب الفلسطيني يعيش خارج أرضه. ولا تزال إسرائيل تتنكر لجريمتها وترفض تطبيق قرار ١٩٤، الذي يدعو لعودة اللاجئين الفلسطينيين وتعويضهم، فاستعدت خلال جولات مفاوضاتها مع الفلسطينيين، لإعادة عدد منهم إلى أراضي السلطة الفلسطينية، ولبضعة آلاف منهم لأراضيهم لأسباب إنسانية بشكل متدرج زمانياً، كما اشترطت في موضوع التعويض ربط ذلك بقضية تعويض اليهود الذين تركوا الدول العربية خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، للهجرة لإسرائيل، مع التأكيد على عدم تحملها عبء التعويض، مقترحة إنشاء صندوق دولي لهذا الغرض. وتستمر إسرائيل باحتلالها للأراضي الفلسطينية وخرق القواعد الدولية في تعاملها مع الفلسطينيين، وترفض تنفيذ أي من قرارات للشرعية الدولية، متحصنة بدعم أميركي وغربي مطلق، على جميع الأصعدة، وعلى اعتبار أن إسرائيل تنتمي للحضارة الغربية، رغم وجودها في الشرق الأوسط. فالولايات المتحدة صاحبة الاستخدام الأكبر للفيتو في مجلس الأمن، تضع على عاتقها مسؤولية حماية إسرائيل من صدور أي قرار من المجلس على غير مصلحتها.

بعد توقيع اتفاق أوسلو عام ١٩٩٣، الذي لم تنفذ بنوده ولم تلتزم بها إسرائيل، بقي الفلسطينيون عملياً يرزحون تحت الاحتلال. تعاونت الولايات المتحدة مع إسرائيل طوال السنوات الماضية لإفراغ اتفاق أوسلو من مضمونه، وحسم قضايا الحل النهائي، التي حددها الاتفاق، ومنها قضية اللاجئين، لصالح إسرائيل. بدأت الإدارة الأميركية تتنصل من الاقرار بحق الفلسطينيين في العودة لديارهم، بعد توقيع اتفاق أوسلو في عهد الرئيس بيل كلينتون، فامتنعت ادارته في عامها الأول عن التصويت لصالح قرار الأمم المتحدة رقم ١٩٤ لأول مرة منذ صدوره، والذي يجري التصويت عليه سنوياً، وصوتت ضده في عامها الثاني، مؤكده أن القرار لم يعد مرجعية للحل بعد توقيع أوسلو، حيث قبل كلينتون بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى اراضي الدولة الفلسطينية فقط، وليس للأراضي التي هجروا منها. في تطور آخر للموقف الأميركي، دعت ادارة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش في خارطة الطريق التي وضعتها للفلسطينيين والاسرائيليين، لحل منطقي ومتفق عليه لقضية اللاجئين الفلسطينيين، في ظل اعترافها بيهودية إسرائيل، وذلك لأول مرة من قبل إدارة أميركية، الأمر الذي حسم موقف الولايات المتحدة بانكار حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وهو ذات الموقف الذي تمسك به الرئيس باراك أوباما بعد ذلك.

وفي تطور نوعي آخر، تبنت إدارة الرئيس دونالد ترامب الموقف الإسرائيلي بعدم احتساب الأعداد الحقيقية للاجئين الفلسطينيين، والاكتفاء باحتساب من بقي منهم حياً، وإنكار صفة اللاجئ عن أبنائهم وأحفادهم، الذين ولدوا في بلد اللجوء. كما تبنت تلك الإدارة في صفقة القرن التي طرحتها موقف اسرائيل باقران قضية تعويض اللاجئين الفلسطينيين بتعويض اليهود الذين خرجوا من الدول العربية للهجرة لإسرائيل. وأوقفت ادارة ترامب من بين عقوبات أخرى الدعم الأميركي عن الأونروا، والذي يشكل ثلث ميزانيتها، وعرضت استمرار عمل الوكالة للخطر. ورغم إعلان إدارة الرئيس جو بايدن تراجعها عن السياسات التي تبنتها الإدارة السابقة تجاه الفلسطينيين، وهو الأمر الذي لم يتحقق عملياً، الا فيما يتعلق بإعادة المساعدات المخصصة للفلسطينيين، بما فيها تلك المحددة للأونروا، الا أن الإدارة الجديدة أعادت مخصصات الأونروا المالية ضمن شروط، عكسها اتفاق إطار، يحد من عدد اللاجئين، ويقيد التوظيف والتعاون وتقديم الدعم على أساس محاربة الإرهاب، ويفرض تدخلاً في محتوى المواد التعليمية في مدارس الوكالة.

إن قضية اللاجئين الفلسطينيين قضية سياسية، ترتبط ارتباط أصيلاً بباقي القضايا الأساسية الأخرى التي تتعلق بالقضية الفلسطينية، والتي لا يمكن حلها إلا مجتمعة، في ظل تطبيق حق تقرير المصير، لشعب عانى من الظلم والصمت الدولي لعقود عديدة.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى