أقلام وأراء

د. سنية الحسيني تكتب – التنين الصيني والأسد الإيراني: شراكة إستراتيجية مهدّدة لطموحات الغرب

بقلم د. سنية الحسيني ١-٤-٢٠٢١م

وقّع وزيرا خارجية الصين وإيران، مطلع الأسبوع الجاري، اتفاقية تعاون إستراتيجي شامل، مدتها خمسة وعشرون عاماً، تمثل خطة طريق متكاملة في مجالات وأبعاد متعددة للتعاون بين البلدين. ورغم أن هذه الاتفاقية لا تعد ملزمة للطرفين، إلا أنها تفتح الطريق أمام شراكة إستراتيجية من نوع خاص، كما تسمح بترسيم تلك الشراكة وشرعنتها من خلال اتفاقيات ثنائية متعددة ومتنوعة مستقبلية. وتحمل هذه الاتفاقية أهمية خاصة نظراً لدور البلدين وأهميتهما سواء على المستوى الدولي في حالة الصين أو على المستوى الإقليمي في حالة إيران. وتعتبر صفعة مباشرة للولايات المتحدة، خصوصاً في ظل مواقفها المعلنة والتصعيدية تجاه الصين وإيران والتي تسير بخطوات طردية منذ سنوات. كما تشكل الاتفاقية خطورة على طموحات وأهداف إسرائيل وحلفائها في منطقة الشرق الأوسط، والتي تسعى لتقويض مكانة إيران فيها، حيث إن الاتفاقية من شأنها إبراز دور إيران واستثمار مكانتها الإستراتيجية.
لم تأتِ هذه الاتفاقية الإطارية بين الصين وإيران كردّة فعل على سياسات الولايات المتحدة تجاه البلدين في الآونة الأخيرة، بل على العكس جاءت بواكيرها بعدما أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مطلع العام ٢٠١٦، أن إيران أوفت بالتزاماتها بموجب الاتفاق النووي، وما ترتب على ذلك من رفع العقوبات عنها. وخلال زيارة شي جين بينغ الرئيس الصيني إلى طهران خلال ذات العام، وفي المؤتمر الصحافي الذي جاء في نهاية الزيارة، أكد البيان المشترك للرئيسين الصيني والإيراني البدء في العمل على إعداد وثيقة ترتب مستقبل العلاقة بين البلدين وفق رؤية إستراتيجية واسعة. كما أن موعد توقيع الاتفاقية بين البلدين تم الإعلان عنه في وقت سابق من العام الماضي، عندما أعلن محمود واعظي، مدير مكتب الرئيس الإيراني تفاصيل تلك الوثيقة وموعد توقيعها، والذي حدده في نهاية العام الفارسي الحالي.
إلا أنه من المؤكد أن إصرار الطرفين الصيني والإيراني على استكمال العمل على ترسيم هذه الاتفاقية، بل والمضي قدماً في بلورتها وترسيخها، ينطلق من تصلب الولايات المتحدة في سياساتها تجاه البلدين. فقد صعّدت إدارة جو بايدن الرئيس الأميركي الجديد من نبرتها تجاه الصين، وفرضت، مع دول غربية أخرى، عقوبات على مسؤولين صينيين بارزين، بحجة تورطهم في انتهاكات حقوق الإنسان. هذا بالإضافة إلى تصريح الولايات المتحدة الصريح بأنها ستقف أمام طموحات التمدد الصيني وعدم وجود أرضية مشتركة للتفاهم بين البلدين. من ناحية أخرى، فقدت إيران الثقة بالولايات المتحدة والدول الغربية، وهو الأمر الذي روّج للحديث عن توجه إيران أو التفافها نحو الشرق. خذلت الولايات المتحدة وحلفاؤها إيران على مدار خمسة عقود، بعد نجاح الثورة الإسلامية، ولم تبدِ أي استعداد للتفاهم معها. وفي العقد الأخير ورغم توقيع إيران على الاتفاق النووي عام ٢٠١٥، لم تنفتح الدول الغربية على التعاون ورفضت عقد صفقات مهمة معها، تبع ذلك انسحاب إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب من ذلك الاتفاق من طرف واحد، وفرض عقوبات أميركية أشد من سابقاتها. وحتى في ظل إدارة الرئيس الحالي جو بايدن، ما زالت الولايات المتحدة تتشدد في علاقاتها مع إيران وتدعوها للتراجع عن أي إجراءات اتخذتها بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق، قبل رفع العقوبات التي فرضتها من دون سبب.
ورغم أهمية الخوض في تفاصيل هذا الاتفاق الذي غطته صحف إيرانية وأميركية منتصف العام الماضي، باعتباره مسودة له، يؤكد عدد من الخبراء أنه يعكس ما تم التوقيع عليه مطلع هذا الأسبوع، إلا أنه من الضروري الإشارة إلى أن هذا الاتفاق إلى جانب أهميته الاقتصادية والسياسية للصين وإيران، يتعلق بالمشروع المركزي للصين والمعروف بطريق الحرير، والذي ورد ذكره عديد المرات خلال تلك المسودة. إن الأهمية لموقع إيران الإستراتيجي سواء على المستوى البحري أو البري لهذا الطريق يجعل من إيران شريكاً إستراتيجياً مستقبلياً للصين يختلف عن غيره من الشركاء الإستراتيجيين العديدين لها في هذه المنطقة. لن تنجح إيران فقط من خلال تطوير شراكتها المتوقعة مع الصين بالتخلص من الضغوط الآنية الأميركية والإسرائيلية، وإنما سيمكن الاتفاق إيران على المستوى البعيد من استرداد مكانتها الإقليمية التاريخية. كما أن هذا الاتفاق، وبغض النظر عن الاختراق الذي سيحققه للصين على المستويات الاقتصادية والسيبرانية والسياسية، سيزيد من فرص توغل الصين في منطقة الشرق الأوسط وتحقيقها لحلمها بتشييد طريق الحرير، وتربّعها على قمة النظام العالمي.
إن تتبع العلاقات الصينية الإيرانية على عجالة يفصح عن أهمية إيران الخاصة بالنسبة للصين، حيث تضرب تلك العلاقة جذورها في قلب التاريخ، والتي بدأت قبل الميلاد بقرن ونصف القرن من الزمان. منذ ذلك الوقت اكتشفت الصين أهمية موقع إيران الإستراتيجي، والذي بدأ بظهورها كطريق تجاري يفتح العالم أمام الصين في أوروبا والشرق الأوسط. تلك الأهمية جعلت الصين تمتنع عن معاداة إيران بشكل عام، حتى عندما كان البلدان في معسكرَين متضادين في عهد حكم الشاه وما بعده، فكانت الصين مورد السلاح الوحيد لإيران في حربها مع العراق، رغم أنها دعمت العراق أيضاً. كما أن الصين كانت أهم الدول التي خرقت الحصار الأميركي الغربي على إيران، وإن بقيت ملتزمة بمعايير معينة لم تضطرها لمعاداة الولايات المتحدة، الأمر الذي يفسر انخفاض نسبة وراداتها وصادراتها خلال سنوات الحصار.
الصين بلد براغماتي، يسعى بوعي لتحقيق مصالحه الإستراتيجية، ويميل بشكل عام لتحقيقها عبر الأساليب السياسية والاقتصادية والدبلوماسية. إن ذلك يفسر علاقاته المتشعبة مع جميع دول العالم بما فيها الأنداد منها، وذلك بالتركيز على الصفقات الاقتصادية، وتجنب الخوض في المشكلات السياسية. إن ذلك يعطي مؤشراً على سياسة الصين تجاه منطقة الشرق الأوسط في ظل علاقاتها الإستراتيجية الجديدة المتوقعة وفق هذا الاتفاق مع إيران ومع دول أخرى عديدة. إن الصين لن تقحم نفسها في صراع إيران مع عدد من دول المنطقة، التي تربطها علاقات إستراتيجية معها كإسرائيل والسعودية ودولة الإمارات، بل على العكس قد تكون الصين الوسيط الأنسب بين هذه الدول، بدل الوسيط الأميركي الذي فشل على مدار أكثر من ربع قرن مضى في حل مشاكلها، وبات جزءاً منها. إن الصين تستطيع ضمن رؤيتها الساعية لتحقيق مصالحها في منطقة الشرق الأوسط والساعية لربط دولها بعلاقات اقتصادية تعود بالمنفعة عليها، والذي يتطلب حدوث استقرار فيها، تعتبر الأقدر على انتزاع مركز الوساطة من الولايات المتحدة.  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى