أقلام وأراء

د. رمزي عودة يكتب –  انتهى عصر الإسلاموية

د. رمزي عودة * – 13/12/2020

سألني أحد طلبتي قبل أكثر من سبع سنوات تقريبا حول الأسباب الكامنة وراء اكتساح القوى والحركات الإسلاموية المشهد السياسي في المنطقة العربية والإسلامية، فمنذ أوائل التسعينات فازت جبهة الإنقاذ بغالبية مقاعد المجالس البلدية والتشريعية في الجزائر، والذي أدى بدوره إلى حرب أهلية استمرت لسنوات، ثم فازت الحركات الإسلاموية وعلى رأسها حركة الإخوان المسلمين في الانتخابات التشريعية في الكويت والأردن وتونس بشكل متكرر، والمشهد نفسه تكرر عندما فازت حركة حماس بالانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، ثم تلاه فوز الإخوان المسلمين في مصر في الانتخابات الرئاسية عام 2012.

 في الواقع، كانت إجابتي عن السؤال السابق بسيطة جدا، وتشير إلى أن الجمهور العربي في هذه الفترة “قد غدا جمهورا ذا طابع اسلاموي”، وهو الأمر الذي وجدناه سابقا وبشكل مختلف، حتى في ظل غياب الانتخابات،  في صعود العصر الذهبي ” للفترة التحررية” ماركسية الطابع بعد الاستعمار الغربي للمنطقة، ثم صعود العصر “القومي” بعد سيطرة الناصريين والبعثيين على عدد مهم من الدول العربية، ومن ثم بروز سيطرة الاسلامويين وامتدادهم في المنطقة منذ بداية التسعينات. وبالضرورة، فإن مثل هذه “الانتقالات الفكرية” التي مر بها المجتمع العربي تشير إلى محاولة هذا المجتمع البحث عن نموذج ملائم للتحديات والمشاكل التي يواجهها، وأنه بالمحصلة سرعان ما تتطور هذه التحديات وتتعزز تجاربه في “اختبار النموذج” الذي اختاره لينتقل بعد فترة ليست طويلة إلى نموذج آخر يراهن عليه، وهكذا دواليك. وفي النتيجة، فإن حركة التاريخ تختزل في ثناياها تطور الفكر في المجتمعات وتطور الواقع بكل تحدياته المتجددة والمتغيرة.

وتثبت الأحداث السياسية التي تجري مؤخرا صيرورة تغير النموذج الفكري للمجتمعات العربية، ويبدو جليا أن العصر الذهبي للحركات الاسلاموية بدأ بالانحسار. فقد شهدت الانتخابات البلدية التي جرت في الجزائر عام 2017 تراجعا واضحا للحركات الإسلاموية، حيث فازت حركة “مجتمع السلم” بالانتخابات البلدية التي جرت في 23 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي برئاسة 49 مجلسا بلديا  فقط من بين 1541 مجلسا، كما حصلت الحركة على 152 عضوا في 23 من مجالس محافظات البلاد الـ48، وأما بالنسبة للاتحاد من أجل النهضة والعدالة والبناء فلم يفز إلا برئاسة ثماني بلديات فقط، ولم يحصل على أي مقعد في مجالس المحافظات. وقد تكرر المشهد نفسه في الانتخابات التشريعية في تونس عام 2019، حيث تقدمت حركة “نداء تونس” العلمانية على “حركة النهضة” الإسلاموية. وقد تراجعت حصة “النهضة” في انتخابات المجلس التأسيسي من 37% الى 26% في هذه الانتخابات. وترافق مع هذا التراجع انخفاض حاد في نسب إقبال المقترعين، حيث لم تتجاوز نسبة الاقتراع 45 % مُقارنة بنسبه 63 % عام 2014. وعلى المنوال نفسه، خسر الإسلامويون قاعدتهم الشعبية في الانتخابات التشريعية في الأردن في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، حيث تراجع عدد المقاعد البرلمانية “للتحالف الوطني للإصلاح” الذي يقوده حزب جبهة العمل الاسلاموي، الذراع السياسية للإخوان المسلمين وأبرز أحزاب المعارضة في البلاد، إلى ثمانية مقاعد بدلا من 16. وفي الكويت، تراجع الإسلامويون ومؤيدوهم في البرلمان الجديد من 21 مقعداً من بين الخمسين إلى 11 فقط؛ أي أنهم خسروا في الواقع نصف مقاعدهم النيابية.

في الواقع، تظهر النتائج الانتخابية إنحسار القاعدة الشعبية للحركات الإسلاموية في الوطن العربي، ويبدو أن الجمهور العربي بدأ بالفعل في خطوات انتقال نموذجه الفكري من نموذج الإسلام السياسي إلى نموذج آخر، لم تتضح معالمه إلى الآن. وهنالك عدة عوامل أدت الى مثل هذا التحول؛ أهمها التجارب المريرة للشعوب في ظل حكم الحركات الإسلاموية التي لم تستطع أن تنعش الاقتصاد أو تحل مشكلات البطالة والفقر المستعصية، كما أن الخلافات الداخلية التي تنشب داخل الحركات الإسلاموية والتي أدت إلى الانقسامات وتشتيت الأصوات الانتخابية قد ساهمت في إضعاف وانحسار القاعدة الشعبية لهذه الحركات. ومن جانب آخر، فإن تنامي قوة الأحزاب الليبرالية والعلمانية قد ساهم في توسع مكاسبها السياسية على حساب الحركات الإسلاموية كما هو الحال في تونس والجزائر بشكل واضح. وأخيرا، لا يمكن أن نغفل عامل اكتساب متانة التجربة من قبل الأحزاب الحاكمة في التعامل مع الأحزاب الإسلاموية في الانتخابات التشريعية، حيث عمدت هذه الأحزاب الحاكمة إلى تعزيز قوة العشائر من جهة، وتصميم أنظمة انتخابية أدت إلى تقسيم مناطق نفوذ الجماعات الإسلاموية وتشتيت الأصوات لديها من جهة ثانية كما هو الحال في الأردن. ويضيف مارك لينش الباحث في شؤون الحركات الإسلاموية في مركز مالكوم كير- كارنيجي عوامل أخرى قائلا ” يُنبئ شطب الفرص الديمقراطية، وصعود تنظيمات عنيفة ناجحة، وتغيّر السياقين الإقليمي والإسلامي بأن منظمات أخرى غير الإخوان المسلمين قد تهيمن على المرحلة المُقبلة”.  ويبقى العامل الأقوى والمشترك بين كل تجارب سقوط الأحزاب الإسلاموية في المشهد السياسي في الوطن العربي هو تغير وتحول النموذج الفكري الإسلامي المسيطر في الشارع العربي وإنحساره، مؤذنا بمرحلة جديدة قد تؤدي إلى ظهور أحزاب جديدة ربما تحمل أنماطا من الفكر الوطني أو الليبرالي الاجتماعي أو غيره.

* مدير وحدة الأبحاث في معهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى