منوعات

د. دلال صائب عريقات: الدبلوماسية والديمقراطية.. من هوبز ولوك لروسو: فلسطين في الخارج والعقد الاجتماعي على الأرض

د. دلال صائب عريقات 20-8-2025: الدبلوماسية والديمقراطية.. من هوبز ولوك لروسو: فلسطين في الخارج والعقد الاجتماعي على الأرض

يعيش العالم قرنًا أمميًا بامتياز؛ سرعة التحول في ميزان القوى، وثورة الاتصالات التي قلبت دبلوماسية الأمس رأسًا على عقب، جعلت السياسة الخارجية لكل دولة في حالة إعادة تشكيل مستمرة. لا يحدث التغيير على إيقاع مبادئ العمل الدولي وحقوق الانسان، بل على إيقاع التكنولوجيا والرأي العام والمنصات الجديدة التي باتت أدوات دبلوماسية بحد ذاتها.

أدركت فلسطين ذلك مبكرًا ولم تكن استثناء. ففي سعيها للحرية وحلّ الصراع وإنهاء الاحتلال، انتقلت منظمة التحرير الفلسطينية من الكفاح المسلح إلى التفاوض في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، وبعد عقد إلى استراتيجية “تدويل القضية” باستخدام الدبلوماسية على كل الجبهات. هذه الاستراتيجية أعادت فلسطين إلى الخريطة الدولية: انضمام وانخراط في منظمات، توقيع اتفاقيات، وحضور متزايد وتسكين عضوية فلسطين في المحافل العالمية. بالمقابل وعلى المستوى المحلي، حدث ما لم يُخطّط له: تضخّم الاهتمام بصورة فلسطين في الخارج جاء على حساب تعزيز الحضور وحماية المواطن واستكمال مسار التحول الديمقراطي في الداخل.

أطروحة هذه المقالة بسيطة ومباشرة: نعم، خدمت الدبلوماسية فلسطين دوليًا، ويجب أن تُترجم بالقدر نفسه إلى تقدم في بناء ديمقراطية فلسطينية راسخة. ومن هنا تتفرع ثلاثة أسئلة لا مفر منها:

هل يريد الغرب فعلًا ديمقراطية فلسطينية كاملة أم أن “الاستقرار المُدار” هو سقف التوقع؟

هل نستطيع فعلًا السير بمسارين متوازيين: تدويل ذكي ومواطنة وديمقراطية صلبة في آنٍ معًا؟

هل توظيف الدبلوماسية يوقف استباحة الاحتلال لحقوق الانسان على الأرض ؟

خلال الأعوام الأخيرة، صار “بناء الصورة الوطنية” هاجسًا للحكومات؛ ليس ترفًا دعائيًا بل أداة نفوذ: تُكسب الداخل شرعية، وتُحسّن مكانة الدولة خارجيًا. في عالم متواصل، منفتح، سريع التحولات وشديد الترابط، باتت صورة الوطن وعلامته التجارية -كيف يراه الآخرون- متغيرًا حاسمًا في علاقاته الدولية. فلسطين بدورها استثمرت في هذا المسار: عضوية في منظمات، انضمام إلى اتفاقيات، وحضور رمزي قوي لتثبيت اسم “فلسطين” على الخريطة.

لكن بناء الصورة يجب أن لا يبتلع الجوهر. فبينما تكاثفت الجهود واشتغلنا على “رواية فلسطين” أمام العالم، مطلوب إعادة تقييم للوضع الداخلي، مراجعة وتحسين الأدوات من الشخوص والأفكار، وإنفاذ ما جاء في القانون الأساسي من أسس الشفافية والمساءلة، تداول السلطة، فصل بين السلطات، وحماية الحريات تتويجًا للدولة العلمانية المستقلة. تحسّن السمعة الخارجية لا يعوّض غياب العقد الاجتماعي الداخلي. وهذا ما نشهده اليوم، فالعالم، مهما احتفى ببلاغة خطابنا، سيعود ليسأل: أين الإصلاح؟ اين الانتخابات؟ أين الحكم الرشيد؟ أين قنوات المشاركة والمساءلة؟

مساران لا يتعارضان: الدبلوماسية أداة قوة لا غنى عنها، لكنها تفقد زخمها إن لم تسندها شرعية صندوق الاقتراع ومؤسسات فاعلة. المطلوب ربط الاعتراف الدولي بتقدم قابل للقياس في إنهاء الاحتلال وتحقيق الديمقراطية.

تحويل رأس المال الرمزي إلى مكاسب مؤسسية: كل انضمام لاتفاقية وكل قرار أممي يجب أن يُترجم إلى تشريعات، وآليات مساءلة، ومواءمة في القوانين المحلية لضمان حماية المواطن.

إعادة ترتيب الأولويات: لا يكفي أن نكون مرئيين؛ يجب أن نكون جديرين بهذه الرؤية عبر عقد اجتماعي حيّ، وتجديد شرعيات، وتوسيع المجال العام.

أثبتت “دبلوماسية التدويل” جدواها في حماية الاسم والقضية، لكنها لن تخلصنا من الاحتلال، ولن تبني ديمقراطية فلسطينية من دون قرار داخلي شجاع يعيد الدورة السياسية إلى مسارها الطبيعي.

من توماس هوبز وجون لوك إلى جان جاك روسو، خلال سعينا لتحقيق الدولة الفلسطينية، تنجح الدبلوماسية حين تتكئ على ديمقراطية حقيقية، وتفشل حين تُستخدم بديلًا عنها.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى