أقلام وأراء

د. حسن نافعة: هل يستطيع نتنياهو إجهاض خطة ترامب؟

د. حسن نافعة 24-10-2025: هل يستطيع نتنياهو إجهاض خطة ترامب؟

يدرك نتنياهو أن دونالد ترامب هو صديق “إسرائيل” الصدوق، وأنه قدّم لها ما لم يستطع أي رئيس أميركي آخر أن يقدمه. ففي فترة ولايته الأولى (2017-2020)، نقل السفارة الأميركية إلى مدينة القدس التي اعترف بها عاصمة أبدية موحّدة لـ”إسرائيل”، ووافق على ضمّ “إسرائيل” هضبة الجولان السورية، وأبدى استعداده للموافقة على اقتطاع أجزاء من الضفة الغربية لحساب “إسرائيل”، بل إنه ذهب إلى حد الانسحاب من اتفاق دولي بناء على نصيحة نتنياهو وإلحاحه (الاتفاق الخاص بالبرنامج النووي الإيراني).

وفي فترة ولايته الحالية، التي لم يمض عليها سوى عشرة أشهر، سمح لنتنياهو بالتنصل من اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، كان قد ساعد بنفسه على التوصل إليه قبيل عودته إلى البيت الأبيض، وأفرج عن أسلحة أميركية كان بايدن قد أوقف تصديرها إلى “إسرائيل” بسبب ارتكابها مجازر بشعة في غزة، بل إنه ذهب إلى حد الموافقة على المشاركة مع نتنياهو في توجيه ضربة عسكرية مباشرة للمنشآت النووية الإيرانية خلال حرب “إسرائيل” على إيران في يونيو/ حزيران الماضي.

كان يفترض، في سياق كهذا، أن يوافق نتنياهو من دون تردد على “خطة ترامب للسلام في الشرق الأوسط”. ولأنه اعتقد أنها لا تستجيب لكل طموحاته، سعى لمحاولة إفراغها من مضمونها قبل إعلانها رسمياً، وحين فشل لم يجد أمامه سوى التظاهر بتأييدها والسعي سراً لإجهاضها.

صحيح أنه كان يدرك أنها تصلح لتمكينه من تحقيق أهداف مرحلية، كاستعادة الرهائن ونزع سلاح حماس، لكنه شعر بالقلق إزاء بعض ما قد تفرضه من التزامات، كالانسحاب من قطاع غزة والتعهد بعدم ضمه أو احتلاله و”تهيئة ظروف مناسبة لمسار حقيقي نحو تقرير المصير الفلسطيني والدولة”.

لذا، قرر أن يوافق عليها في العلن، ليحصل منها على كل ما يناسبه في المرحلة الأولى، ثم يسعى بعد ذلك للتنصل من كل ما لا يناسبه، وهو ما حدث ويحدث الآن بالفعل. فهل يتمكن نتنياهو من ذلك؟ وهل سيسمح له ترامب بإجهاض خطته؟ وإلى أين تتجه العلاقة بينهما؟

للعثور على إجابة عن أسئلة هامة كهذه، يتعين البحث عن الأسباب التي دفعت ترامب إلى صوغ خطة لا تلبّي كل طموحات نتنياهو، خصوصاً أن جميع تصرفاته السابقة كانت توحي دوماً بأنهما يتبنيان الأهداف نفسها، بما في ذلك هدف “الانتصار المطلق” الذي طالما تغني به نتنياهو. بل إن ترامب لم يبخل أبداً في تقديم كل ما احتاج إليه نتنياهو من عون لتحقيق ما يصبو إليه، بما في ذلك مساعدته على التملص من الوفاء بتعهداته ومدّ حبال الصبر له لمواصلة حرب لا يريد لها أن تتوقف حتى لا يتعرض للمحاكمة.

غير أنه لم يكن بمقدور ترامب في الوقت نفسه تجاهل ما طرأ من تحولات على توجهات الرأي العام العالمي، بما في ذلك داخل الولايات المتحدة، بل وفي قاعدته الانتخابية نفسها، وذلك بسبب وحشية “إسرائيل” وفظاعة الجرائم التي ارتكبتها، خصوصاً أن نتنياهو فشل في استعادة الرهائن وفي القضاء على حماس بالوسائل العسكرية، ثم حاول التغطية على إخفاقاته المتكررة بعمليات تصعيد تجاوزت كل الخطوط الحمراء وعرضت المصالح  الأميركية في المنطقة لأخطار كبيرة، وهو ما تبين بوضوح عقب إقدامه على شن غارة عسكرية على قطر، إحدى أهم الدول الحليفة للولايات المتحدة في المنطقة، لاغتيال زعماء حماس أثناء اجتماع لبحث اقتراح أميركي بوقف إطلاق النار! ويبدو أن تلك كانت “القشة التي قصمت ظهر البعير” وأقنعت ترامب بأن “إسرائيل” أصبحت في حاجة ماسة ليس إلى من يقف إلى جانبها وإنما إلى من ينقذها من نفسها. 

لقد أدلى ترامب بتصريحات مفادها أن خطته تستهدف “حل صراع ظل مشتعلاً في المنطقة لثلاثة آلاف عام”، وأنها “تحظى بتأييد معظم الدول العربية والإسلامية ودعمها “، ومن ثم بات مقتنعاً بأن وضعها موضع التطبيق كفيل بتحقيق السلام والأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط ككل، وبالتالي لن يقتصر على تسوية الصراع الفلسطيني- الصهيوني وحده.

غير أن هذه التصريحات الرنانة تتسم بقدر كبير من الحماسة البلاغية، ولا تستند إلى أي معطيات تاريخية أو سياسية تبرر هذا التفاؤل المفرط.

بل يمكن القول إن قدرتها على تسوية القضية الفلسطينية بمفردها تبدو محدودة، إن لم تكن معدومة، خصوصاً أنها تتبنى مواقف منحازة كليا لـ”إسرائيل”. فأكثر نصوصها وضوحاً هي تلك التي تستجيب إلى المطالب الإسرائيلية وحدها، كتسليم الرهائن ونزع سلاح الفصائل الفلسطينية  في القطاع.

أما المطالب الفلسطينية، وبالذات ما يتعلق منها بإقامة الدولة وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير مصيره، فورد ذكرها في عبارات يلفها الغموض، وارتبطت الاستجابة لها بشروط والتزامات يصعب تحديد كنهها أو الوفاء بها، كالالتزام بإصلاح السلطة الفلسطينية واشتراط “إحكام قوات الاستقرار الدولية سيطرتها على القطاع” قبل الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية منه.

الأخطر من ذلك أن الخطة لا تشير من قريب أو بعيد إلى الضفة الغربية، ما يعني أنها تتعامل مع قطاع غزة كمنطقة قائمة بذاتها يراد لها أن تكون “خالية من الإرهاب ومن التطرف، و أن لا تشكل تهديداً لجيرانها”. لكن، ماذا عن إرهاب المستوطنين في الضفة الغربية؟ لا شيء على الإطلاق، فتلك قضية مسكوت عنها. ولأنها خطة مليئة بالثغرات، فقد أصبح من السهل على نتنياهو أن ينفذ منها للحيلولة دون وضعها موضع التطبيق، واتهام حماس بأنها المسؤولة عن انتهاكها، وهو ما حدث ويحدث الآن بالفعل.

فنتنياهو يدرك جيداً استحالة استعادة رفات جميع الأسرى الإسرائيليين من القطاع خلال الفترة القصيرة المنصوص عليها في الخطة (72 ساعة)، خصوصاً أن استخراج الجثث من تحت كومات الأنقاض المتراكمة يحتاج إلى معدات ثقيلة لا تتوفر في القطاع وتتعمّد “إسرائيل” عدم السماح بدخولها، كما يحتاج إلى وقت أطول بكثير من المهلة المحددة لها، ومع ذلك تعلل نتنياهو بانقضاء هذه المهلة لتبرير إجراءات انتقامية لا تستهدف في واقع الأمر سوى إجهاض الخطة من التزاماتها غير المرغوب فيها.

فقد شملت هذه الإجراءات تقليص حجم المعونات الإنسانية المسموح بدخولها إلى القطاع، ورفض إدخال المعدات اللازمة لإعادة تشغيل المرافق الحيوية كالماء والكهرباء. ما يعني الاستمرار في خطة التجويع التي تستهدف إجبار الفلسطينيين على الهجرة القسرية. الأخطر من ذلك أن نتنياهو تعلل بوقوع أحد الحوادث الأمنية بعد توقف إطلاق النار، رغم علمه يقيناً أن حماس ليست مسؤولة عنه، لكي يشن هجوماً كاسحاً بمختلف أنواع الأسلحة، راح ضحيته 42 مدنياً. ولأن هذا الهجوم كاد يؤدي إلى استئناف الحرب، وبالتالي تقويض الخطة،  فقد سارع ترامب على الفور إلى إيفاد كل من ويتكوف، مبعوثه الخاص، وصهره كوشنر ونائبه، جي دي فانس، إلى “إسرائيل” للحيلولة دون تفجر الأوضاع من جديد.

يعتقد ترامب أن خطته يمكن أن تؤدي في نهاية المطاف إلى تهدئة دائمة للأوضاع في المنطقة، إذا ما قبلت “إسرائيل” الانسحاب من قطاع غزة، في مقابل تسوية شاملة تتضمن مجموعة من العناصر، أهمها:

1- نزع سلاح حماس وبقية الفصائل المسلحة، وإنهاء حكم حماس للقطاع، وترحيل قيادات المقاومة خارجه.

2- تشكيل قوات أمن دولية تتولى تجميع السلاح من فصائل المقاومة، وحفظ السلام في القطاع خلال فترة انتقالية تتراوح بين 3 و 5 سنوات، وتتكوّن في معظمها من دول عربية وإسلامية.

3- تعيين حكومة انتقالية من خبراء مستقلين، يعهد إليها بإدارة القطاع وإعادة تعميره، على أن تباشر مهماتها تحت إشراف “مجلس للسلام” يرأسه ترامب ويشارك في عضوية توني بلير وآخرون.

4- إصلاح السلطة الفلسطينية وتمكينها تدريجياً، بعد تأهيلها وفقاً للاشتراطات الإسرائيلية، من المشاركة في إدارة القطاع والتمهيد لانتخابات رئاسية وبرلمانية تشمل الضفة والقطاع.

5- توسيع نطاق الاتفاقيات الإبراهيمية لتشمل السعودية ودولاً أخرى، مقابل وعود فضفاضة ترسم خريطة طريق قد تفضي بعد مرحلة زمنية طويلة نسبياً إلى شكل ما من أشكال دولة فلسطينية يمكن حينئذ الاتفاق على حدودها وتاريخ إعلان قيامها.

لا شك أن هذا الطرح الأميركي ينطوي على أوجه قصور عديدة تمس جوهر الحقوق الوطنية الفلسطينية غير القابلة للتنازل، ومع ذلك فهو ليس مقبولاً من حكومة إسرائيلية تضم في صفوفها وزراء من نوعية بن غفير وسموتريتش.

بل إن نتنياهو نفسه يرفضها لأنه يعتقد أنه حقق الآن ما درج على تسميته “النصر المطلق”، خصوصاً بعد أن تمكن من استعادة جميع الأسرى الأحياء. ولأنه على قناعة تامة بأن الحل الشامل، من منظوره، يجب أن يتضمن أيضاً نزع سلاح حزب الله، وربما نزع سلاح الحوثيين أيضاً، وليس سلاح حماس وحدها، وكذلك تجريد إيران من كل قدرة ليس على تصنيع سلاح نووي فحسب، وإنما من امتلاك أي برنامج تسليحي قد ينطوي على أي نوع من التهديد لأمن “إسرائيل”.

فتلك كلها شروط أساسية لإقامة “إسرائيل” الكبرى القادرة على الهيمنة على المنطقة. لذا، يتوقع أن تشهد المنطقة جولات أخرى من الصراع، وأن تنهار خطة ترامب بعد أن تكون قد حققت لنتنياهو ما كان يأمل في الحصول عليه من مكاسب.

لكن أوهام نتنياهو شيء وواقع وموازين القوى في المنطقة شيء آخر تماماً. فالمقاومة لم تهزم وما تزال هي السبيل الوحيد لمواجهة التوحش الصهيوني في المنطقة. ويبدو أن شطط نتنياهو لن يفضي إلا إلى انهيار المشروع الصهيوني نفسه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى