منوعات

د. حسن بشارات: دور الأخصائي وفرق العمل في تقديم الإسعافات النفسية الأولية

د. حسن بشارات 12-12-2025: دور الأخصائي وفرق العمل في تقديم الإسعافات النفسية الأولية
قراءة في ظل الواقع الفلسطيني المثقل بالصدمات
الحياة جميلة، لكنّها لا تخلو من لحظات قاسية قد تهزّ كيان الإنسان. فالعالم شهد كوارث طبيعية مدمّرة كالأعاصير والزلازل والفيضانات والحرائق، وهذه الأحداث تترك أثرًا نفسيًا متفاوتًا على الناس؛ فبعضهم يشعر بالارتباك أو الخوف الشديد، وآخرون قد يفقدون القدرة على الاستيعاب أو ينسحبون من التفاعل، بينما يظهر آخرون ردود فعل أشدّ حدّة.
وفي الوقت الذي تقدّم فيه الطواقم الطبية إسعافاتها الأولية لإنقاذ الجسد، يبقى السؤال الأهم: ماذا عن الإصابات النفسية؟ ماذا عن أولئك الذين يصمتون من شدة الصدمة؟ الذين فقدوا منازلهم، أو أحبّتهم، أو عاشوا تهديدًا مباشرًا للحياة؟
إنّ الإسعافات النفسية الأولية هي استجابة إنسانية في لحظة الانهيار، تهدف إلى مساندة الأشخاص الذين مرّوا للتوّ بحدث صادم ويعانون ضيقًا نفسيًا شديدًا. وهي ليست علاجًا نفسيًا احترافيًا، ولا تفريغًا انفعاليًا، وتقوم على عوامل أثبتت فعاليتها في تعزيز التعافي على المدى البعيد، أهمها: الأمان، والترابط، والدعم الاجتماعي، والأمل بقدرة الشخص على استعادة السيطرة.
الإسعافات النفسية الأولية ببساطة هي وجود إنساني داعم، يستمع ويهدّئ ويربط الشخص بالموارد.
وعليه، فإن مبادئ الإسعافات النفسية الأولية (انظر – استمع – اربط) تشكّل دليل العمل الأساسي لكل من يقوم بتقديم الإسعافات النفسية، سواء كان أخصائيًا نفسيًا، أو عضو فريق طوارئ، أو متطوعًا مدرّبًا.
1. انظر (Look)
•تأكد من سلامة المكان.
•قيّم مدى خطورة الوضع.
•حدّد الأشخاص الأكثر تضررًا أو المعرّضين للخطر.
•انتبه لمن يعانون ردود فعل نفسية حادّة.
2. استمع (Listen)
•اقترب من الشخص بهدوء واحترام.
•اسأله بلطف عمّا يحتاجه.
•استمع دون مقاطعة.
•لا تضغط عليه بالكلام.
•ساعده على التقاط أنفاسه والعودة إلى هدوئه.
3. اربط (Link)
•ساعده في تلبية احتياجاته الأساسية.
•أوصله بالمعلومات الضرورية والخدمات المتاحة.
•اعمل على لمّ شمله بأسرته وأحبّائه.
•عزّز مصادر الدعم الاجتماعي.
دور الأخصائي النفسي أثناء تقديم الإسعافات النفسية
الأخصائي هنا ليس “خبير علاج”، بل نقطة اتّكاء إنسانية تمثّل الهدوء الذي يحتاجه الشخص المضطرب، وتمدّه بالشعور بأن هناك من يفهمه ويحترم معاناته.
ومن أهم مهامه:
•الاستماع دون ضغط.
•احترام الصمت.
•استخدام لغة جسد مطمئنة.
•مراعاة الثقافة والعمر والجنس والدين.
•توفير معلومات دقيقة وموثوقة.
•ربط الشخص بأسرته ودائرته الاجتماعية.
•مساعدته على استعادة السيطرة على تفاصيل بسيطة (كالشراب، والتواصل، والمكان الآمن).
الإسعاف النفسي الأولي في السياق الفلسطيني
في فلسطين، لا تُعد الصدمة حدثًا طارئًا أو عابرًا؛ بل هي واقع يومي يعيشه الفلسطيني في كل المحافظات، بفعل:
•المداهمات الليلية والاعتقالات.
•الاغتيالات والمجازر.
•تدمير المنازل فوق ساكنيها.
•تحويل البيوت إلى ثكنات عسكرية.
•الحواجز والإغلاقات وقطع الطرقات.
•اعتداءات المستوطنين المتواصلة.
•القمع في السجون وما يتعرض له الأسرى من تعذيب يصل حدّ الموت.
•الانهيار الاقتصادي وتبعاته النفسية الثقيلة.
كل ذلك يجعل الفلسطيني يعيش دوامة مستمرة من الصدمات النفسية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، ما يزيد الحاجة إلى وجود فرق إسعاف نفسي أولي مدرّبة في:
•المدارس.
•القرى والبلدات المعرّضة للمداهمات.
•المستشفيات وأقسام الطوارئ.
•مراكز الإيواء بعد الهدم أو التهجير.
•المؤسسات الحقوقية والاجتماعية.
•أماكن الاحتجاز والتحقيق (عبر متابعات لاحقة للأسرى المحررين).
وفي هذا السياق، يصبح للأخصائي والفريق النفسي دور مضاعف، ليس فقط في تهدئة الشخص، وإنما أيضًا في:
•تعويض غياب الأمان الناتج عن وجود الاحتلال.
•مواجهة فقدان السيطرة الذي يعيشه الناس يوميًا.
•منع تراكم الصدمات قبل أن تتحول إلى اضطرابات شديدة.
•تعزيز القدرة المجتمعية على التكيّف والصمود.
فالأخصائي النفسي هنا يقدّم دعمًا مقاومًا يعيد للفرد شيئًا من توازنه وسط واقع عنيف ومليء بالتهديدات.
احترام السلامة والكرامة والحقوق
في بيئة يتعرض فيها الفلسطيني للإذلال والإقصاء والتهديد المستمر، تصبح هذه المبادئ الثلاثة ليست مجرد إطار نظري، بل جوهر العمل الإنساني.
في النهاية، وفي ظل الظروف التي يعيشها الفلسطينيون، حيث الصدمات ليست استثناءً بل روتينًا يوميًا، تغدو الإسعافات الأولية النفسية ضرورة وطنية ومجتمعية. فهي أداة لحماية النفس، وتعزيز الصمود، والمحافظة على تماسك الناس في مواجهة سياسات القمع والتهجير والعنف.
إنها رسالة إنسانية تُعيد للفرد شيئًا من الأمان وسط الفوضى، وتقول له: “أنت لست وحدك… ونحن هنا لنحمي قدرتك على الصمود والعيش رغم الألم”.
*دكتوراه في الصحة النفسية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى