أقلام وأراء

د. حسن أبو طالب: لبنان… مأزق الخروج من «اللادولة»

د. حسن أبو طالب 25-11-2025: لبنان… مأزق الخروج من «اللادولة»

يتفق اللبنانيون من كل الأطياف على أن بلدهم يمر الآن بأصعب مرحلة في تاريخه، سيادته مهددة ودوره مُعرَّض للانزواء. مرحلة محمَّلة بالمخاطر والتهديدات الإسرائيلية، التي للبنان كله، ومع هذا الاتفاق العام على خطورة اللحظة، تبدو الحركة السياسية لدرء المخاطر المتوقعة أقل بكثير مما يفترضه هذا الاتفاق العام مبدئياً.

غياب الجهد الوطني الشامل، وضعف أداء المؤسسات لمواجهة متطلبات المرحلة، وتشكيك بعض الساسة في أداء الجيش رغم ما يقوم به من جهد يفوق الطاقة والإمكانات، هي عناوين رئيسة في المجال العام اللبناني، تصاحبها قناعة غالبة بأن المخاطر تجاه لبنان وحوله هي من عمر لبنان ذاته؛ 82 عاماً هي عمر الاستقلال والدولة، وهي ذاتها عمر المخاطر والتهديدات والورطات والحروب والاعتداءات. الانتقال من تلك الحالة إلى أخرى أكثر سيادة على الجغرافيا وحدودها، والاتفاق العام على الهوية اللبنانية الجامعة ومتطلباتها، وعلى مستلزمات الانتماء الوطني بدلاً من الانتماء الطائفي، لم يعد أحد الخيارات؛ إذ هو الخيار الوحيد الواجب، وله شروطه التي لا تزال تبحث عمن يلتزم بها ويحترمها، وأولها حصرية السلاح بيد الدولة، والإيمان بأن كل الطوائف على الدرجة نفسها من المواطنة، وخضوع الكل بلا استثناءات للقانون، بعد تفعيل مؤسساته ودرجاته من دون أي تدخل سياسي أو غير سياسي.

 

رئيس مجلس النواب نبيه بري، وهو رمز تاريخي للبنان والبرلمان والطائفة الشيعية معاً، يرى أن الاستقلال ما زال معركة واجبة على كل لبناني؛ من أجل صون الوطن ووجوده وسيادته من التبعية والارتهان. توصيف دقيق، لكنه يتطلب مسارات عملية واضحة، لا بشائر حولها. الرئيس اللبناني جوزيف عون، وهو القادم من الجيش إلى قمة السياسة، يدرك متطلبات الأمن اللبناني عن خبرة عملية لا تشكيك فيها، يضع يديه على العلّة الأكبر، علّة الخروج من حالة «اللادولة» إلى حالة الدولة، معتبراً أن الحقائق والمتغيرات حول لبنان تفرض عليه التعامل مع إشكاليات سياسية وعملية بثقة ومن دون تردد ومن دون تخوين أيضاً، وإلا ظل لبنان على جانب الطريق؛ ما يفقده مصالح كبرى، ويفرض عليه أعباءً أكبر مما هو يواجهها الآن.

الأمر لدى الرئيس عون يمزج بين ضرورات إعادة التعافي العام في الداخل، اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، وبين الانخراط في المسارات السياسية والاستراتيجية الصعبة؛ أبرزها مسار التفاوض مع إسرائيل لوضع حد لاعتداءاتها المتكررة، التي لم تتوقف يوماً منذ 27 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، حين تم إعلان التفاهم بين «حزب الله» وإسرائيل على وقف الأعمال العدائية. وثانيها الاستعداد للمشاركة الجادة في عملية التغيير الجاري وضع لبناتها في الإقليم ككل، شريطة أن يكون التحرك اللبناني مُصاحباً للتحرك العربي العام وليس متفرداً عنه؛ إذ في ذلك حماية للبنان ولدوره، ولمنع التنمر السياسي عليه من قِبل من يحترفون هذا النوع من العمل السياسي.

مبادرة الرئيس عون الذي طرحها بشأن التفاوض مع إسرائيل الجمعة الماضي، برعاية أممية أو أميركية أو أي رعاية دولية، ولم ترد عليها الولايات المتحدة حتى الآن، تجسّد حجم المأزق اللبناني؛ فالمطلب كما ورد في الدعوة يتعلق باستعادة لبنان سيادته على أراضيه، وانسحاب جيش الاحتلال من المواقع التي يحتلها في الجنوب، ووقف الاعتداءات الإسرائيلية، وترسيم الحدود، وفرصة حقيقية لانتشار الجيش اللبناني على كامل تراب لبنان، مع ضمانات بأن يسود الهدوء الحدود المشتركة. على أن يعد ذلك خطوة رئيسة للمشاركة في عملية التغيير الجارية في الإقليم ككل، والتي وصفها رئيس الوزراء نواف سلام، بأن ثمة فرصة للتغيير في المنطقة ولبنان يرغب في ألا يفوّت تلك الفرصة، وأن يكون لبنان أحد الأطراف الفاعلة في التغيير الإقليمي الجاري حدوثه ببطء، وإن لن تتضح معالمه كلياً.

الفتور الأميركي للعرض اللبناني يعكس بدوره الميل الجارف نحو الرؤية الإسرائيلية، متضمنة ما يوصف بحقها في الأعمال العسكرية ضد من تعتبرهم إرهابيين ومخربين في أي مكان في لبنان، حتى ولو لم يقم «حزب الله» بأي عمل ضد الاحتلال الإسرائيلي منذ نوفمبر 2024 وإلى الآن، على الرغم من كل الانتهاكات والغارات الإسرائيلية التي تحدث بمعدل ما بين 45 و50 غارة شهرياً، وتُحدث خسائر كبرى في الأرواح والبنية التحتية المدنية وممتلكات المواطنين. ومتضمنة أيضاً البعد الأكثر إشكالية بالنسبة إلى لبنان وجيشه، الذي يلتزم خطة تدريجية في نزع سلاح الحزب من دون التورط في مواجهة عسكرية مع أحد مكونات المجتمع اللبناني، وهو الأمر الذي تنتقده واشنطن وتل أبيب، وتعتبرانه أقل من المطلوب المتمثل في قيام الجيش بمداهمة منازل اللبنانيين بحثاً عن السلاح، بل وتوجهان الانتقادات بالفشل للدولة اللبنانية ككل. ويتدرج التهديد الإسرائيلي إلى التلويح بأن عملية عسكرية كبرى باتت ضرورية للقضاء التام على تهديدات «حزب الله»، بعد ما يعدّونه محدودية العائد من الغارات والاستهدافات التي لم تتوقف على الجنوب اللبناني، حيث القاعدة المجتمعية لـ«حزب الله».

التهديدات الإسرائيلية والميل الأميركي لمناصرة موقف تل أبيب، إضافة إلى الانتقادات الأميركية غير المبررة التي وُجّهت لجيش لبنان حين تضمنت أحد تقييماته بشأن تطبيق خطة الانتشار في الجنوب اللبناني، عبارة العدو الإسرائيلي كأحد المعوقات المانعة لاستكمال الانتشار المدرج في الخطة، تعيد الاعتبار لأهمية الخروج من منطق «اللادولة» السائد إلى منطق الدولة الواجب؛ حيث المؤسسات الواحدة، والفاعلية الوطنية بلا استثناء، والوقوف وراء الجيش الوطني ومساندته بقوة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى