أقلام وأراء

د. حسن أبو طالب: ألاسكا… قمة صانع الصفقات ورجل المخابرات

د. حسن أبو طالب 18-8-2025: ألاسكا… قمة صانع الصفقات ورجل المخابرات

لكلٍّ سمةٌ مميزةٌ، ومع ذلك فهناك تقاطعاتٌ ومشتركاتٌ كثيرة. الرئيس ترمب يفضل لقبَ صانع الصفقات. لا يهم كيف تكون الصفقة ومن الطرف الآخر، المهم أن تكون في صالح مجد بلاده، ورصيداً شخصياً يدعم رغبة دفينة لنيل لقب صانع السلام. الرئيس بوتين؛ الأصل رجل مخابرات، والامتداد رئيس روسيا؛ انتشلها من أصعب الأوقات بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وصعد بها قليلاً وأعاد تموضعها العالمي، وأكسبها قدراً من الاحترام لدى كثير من الدول، وقدراً من العداء لدى الغرب المتوجس من روسيا دائماً. ولكنه يعاني وبلاده كثيراً من عواقب العملية العسكرية في أوكرانيا، التي لا يعرف أحد كيف ومتى تنتهي.

قمة ألاسكا وصفت خطوةً من أجل البحث عن حل لتلك المعضلة في صيغة صفقة بين رجلين أحدهما يرغب في أن يحقق حلمه الأكبر؛ جائزة نوبل للسلام. والثاني يبحث عن مخرج من حرب مفتوحة وعقوبات قاسية وعزلة دولية، ولكن دون أن يتخلى عن المكاسب الإقليمية التي حققها في الأراضى الأوكرانية، فضلاً عن ضمانات أخرى مكتوبة وموثقة بوقف تمدد «الناتو» صوب حدود بلده، والمهم أيضاً تخفيف العقوبات الاقتصادية ولو تدريجياً، ووصولاً إلى رفعها كلياً.

الرمزيات في قمة ألاسكا كانت كثيرة، وعبرت عن الأسلوب الذي أراد كل طرف أن يوثقه رسالةً عملية. ترمب من جانبه عبر عن قوة أميركا العسكرية؛ طائرات الشبح تحوم لحظة استقبال الضيف، وخلفية اللقطة الرئيسية الأولى عدد كبير من الطائرات المقاتلة حديثة الصنع. ألاسكا نفسها رمزية تاريخية عن قطعة من الأرض تم التنازل عنها بمقابل مادي، فلمَ لا تتنازل أوكرانيا عن بعض أراضيها مقابل ضمانات أمنية مثلاً!؟

بوتين من جانبه قال: «صباح الخير يا جاري»، الجيرة هنا رسالة بأن يتواصل الطرفان إلى حل ما بينهما من مشكلات، لا أن يتعاركا أو يعاقب طرف الطرف الآخر. قيام بوتين بزيارة ضريح الطيارين السوفيات الذين شاركوا في عملية أميركية – سوفياتية قبل ثمانية عقود لمواجهة عدو مشترك (ألمانيا النازية)، لا يخلو من معنى كبير ركز عليه بوتين في كلمته الأخيرة أمام الصحافيين، فثمة إرث مشترك بين البلدين مُعبد بالدماء المشتركة، فلمَ لا نعيد البناء عليه، وننظر للمستقبل برؤية غير تلك السائدة الآن؟

أمام الصحافيين، الذين استفاضوا قبل القمة في وضع تصورات، عن المدة الزمنية الممتدة للمباحثات، وعن قدرة ترمب في انتزاع موافقة بوتين على إعلان وقف إطلاق النار، كما دعا إلى ذلك قادة أوروبا حلفاء الرئيس زيلينسكي، وهؤلاء الذين أفاضوا في المغريات الاقتصادية التي قد يقدمها ترمب لبوتين، لم يجدوا أياً من تلك الأمنيات في كلمة بوتين، أو تعليق ترمب الأخير. المؤكد هنا أن خيبة الأمل كانت كبيرة، ما دفع كثيرين إلى تصوير الأمر على أنه فشل لترمب وانتصار معنوي لبوتين. وكلا الأمرين بعيد تماماً عما حملته كلمات الرئيسين من أمور تم التباحث حولها. صحيح لم تصل إلى اتفاق كامل، ولكن الطرفين لمّحا إلى نقاط اتُفق عليها، وبقيت أخرى تحتاج إلى قرارات من قبل أصحابها؛ زيلينسكي والأوروبيين. وهو ما أكده لاحقاً ترمب في حواره التلفزيوني مع قناة «فوكس». الاستنتاج هنا بسيط ولكنه جوهري. فثمة أمور اتفق عليها ترمب وبوتين، بعضها يتعلق بأوكرانيا، و«الناتو»، والضمانات التي ستقدم لأوكرانيا بعد قبول مطالب روسيا المتعلقة بأمنها القومي غير القابلة للتصرف، ولو في خطوط عريضة. والأكثر يتعلق بالعلاقات الثنائية، والتي بدورها سوف تشهد لقاءات بين مسؤولين من الجانبين، تمهد لتطبيع العلاقات، وبحث آفاق الاستثمارات المتبادلة، ورفع العقوبات تدريجياً، وكذلك معاهدة «نيو ستارت» الخاصة بالقدرات النووية للبلدين التي تعد أحد أعمدة الأمن العالمي. كلمة الرئيس بوتين تؤكد هذا الاستنتاج، والذي تدعمه الدعوة العابرة حول إمكانية عقد لقاء ثانٍ قريب بين الرئيسيْن في موسكو، والتي استقبلها ترمب باحتمال الحدوث رغم ما قد يتعرض له من انتقادات.

ستشهد الأيام المقبلة كيف سيتحرك الأوروبيون ورئيس أوكرانيا في ضوء المعلومات التي قدمها لهم الرئيس ترمب، والذي نصح أيضاً زيلينسكي بأن يعقد صفقة عن طيب خاطر توفر على بلاده كثيراً من المعاناة؛ اقتصادياً وإنسانياً وأمنياً، مع إشارة واضحة في لقاء قناة «فوكس»، إلى إعداد لقاء ثلاثي يجمع بوتين وزيلينسكي وترمب، فضلاً عن دعوة قادة أوروبا و«الناتو»، لبحث ملامح الصفقة المحتملة لوقف الحرب بأسس مستدامة. إشارات الرئيس بوتين بشأن الأصول المشتركة للشعبين الروسي والأوكراني، تفسر جزئياً اقتناع الرئيس ترمب بأن نظيره الروسي قادر على التوصل إلى اتفاق شامل، وليس مجرد وقف إطلاق النار، يوفر الأمن لبلاده ولكل القارة الأوروبية.

وعلى الرغم من تضارب التقييمات، فقمة ألاسكا تُعد بداية نحو نمط أقل عدوانية، يسعى لتفكيك أعقد المشكلات بين قوتين، وإن اختلفتا في القدرات الاقتصادية والنفوذ السياسي العالمي، فإن كونهما الأكبر من حيث امتلاك الرؤوس النووية والقدرات الصاروخية المدمرة، يجعل لتلك البداية قيمة تاريخية كبرى.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى