أقلام وأراء

د. جواد العناني يكتب – عنق زجاجة في عنق الزجاجة

د. جواد العناني *- 1/4/2021

اختراع عنق الزجاجة من أجمل الاختراعات وأكثرها جدوى في العالم، لأنه يسمح لشركات التعبئة بأن تستفيد من كامل الحجم للزجاجة، في الوقت الذي تمكّن من صب المحتويات بطريقة منظمة سهلة. ولو لم يكن عنق الزجاجة موجوداً فهل تتخيل كم سيهدر من محتوياتها السائلة لو حاولنا صبّها في إناء بدون ذلك العنق؟

ولكن المصطلح الجميل تحوّل بعد مدة مِنْ مفهوم “المُيَسِّر” إلى مفهوم “المُعَوِّق”. وهذا واضح من الحوار المرتجل القصير بين الفنانة سهير البابلي والمرحوم حسن عابدين في المسرحية المصرية “على الرصيف”، حين تقول باللهجة المصرية العامية “سنة ثمانين قالولنا حتطلعوا من عنق الزجاجة، بس احنا مرضيناش، وحنطلع ليه؟ هم بيقولولنا اطلعوا بنطلع.. اقعدوا بنقعد. ما صدقوا شافونا قعدنا في قعر الزجاجة، جابولنا الفلة (الفلينة) وقفلوا علينا”.

وفِي عام 2018، صرّح رئيس وزراء الأردن آنذاك، عمر الرزاز، في مقابلة تلفزيونية، بأن الاقتصاد الأردني سوف يخرج من عنق الزجاجة في منتصف عام 2019.

وتداول الشعب ذلك الجزء من الشريط بنكاتٍ كثيرة. وانتهى الأمر بخروج رئيس الوزراء قبل تحقق تلك النبوءة. ولكن استخدام كلمة عُنق الزجاجة قد عني المكان الذي تتعطّل فيه الحركةُ وانسيابُها، وليس المكان الذي ينظم تلك الحركة، ويجعلها منسابة بدون هدر.

وأصل الكلمة في عالم الإنتاج والأعمال تعني، كما يقول موقع “Investopedia” أو “انفستوبيديا”، هو أضيق نقطة في خط الإنتاج، والتي تحصل عندما ينساب الإنتاج على خط التجميع بسرعة، فيصل إلى نقطةٍ يعجز فيها العاملون عندها عن الحفاظ على السرعة، فيحصل تراكمٌ في المنتجات، ويتعطل انسيابها. وهذا ما يحصل عادةً في بدايات الإنتاج، أو عند تغيير نمطه، أو عند تقديم سلعةٍ جديدة أو خدمة جديدة.

والإنتاج لا يكون بالضرورة سلعاً، بل خدمات أحياناً. مثل ما يجري في تدفق المعلومات على أجهزة الحاسوب، ولا يستطيع المبرمجون جدولتها بالسرعة الكافية، أو إعادة توجيهها إلى نقاط أمامية بسرعة تدفقها إليهم. حينها يحصل اختناق في سير المعلومات، ويطلق عليه اسم “عنق الزجاجة”.

بدأت الآلات الحاسبة تعمل بسرعة، لحساب الكلف الناتجة عن توقف الملاحة في القناة فترة قد تصل إلى شهر. وارتفعت نتيجة التوقعات كُلف الشحن والتأمين البحري، وأدّت إلى ارتفاع أسعار النفط.

وما جلب الموضوع إلى بالي هو ما حصل في قناة السويس، يوم الثلاثاء 23/3/2021. عندما دخلت السفينة “Ever Given” الحاملة العلم البنمي قناة السويس، وعلقت بالأوحال الرملية الناتجة عن الأمطار والرياح مثل “السفوده” أو “الشجا” في حلق القناة بالعرض، وعطلت حركة المرور فيها. ويبلغ عرض السفينة حوالي 390 متراً، أو ما يفوق ارتفاع ناطحة السحاب “إمبايرستيت”، ووزنها حوالي 200 ألف طن محمّلة بالحاويات.

وبدأت الآلات الحاسبة تعمل بسرعة، لحساب الكلف الناتجة عن توقف الملاحة في القناة فترة قد تصل على أسوأ الأحوال إلى شهر. وقد ارتفعت نتيجة هذه التوقعات كُلف الشحن والتأمين البحري، وكذلك أدّت إلى ارتفاع أسعار النفط.

وحتى نضع الأرقام في منظورها الأدق، فإن نسبة البضائع التي تمر عبر قناة السويس تشكّل حوالي 12% من حجم التجارة العالمية.

وتشكل نسبة أعلى من ذلك في مجال نقل النفط الخام. ولوعدنا إلى عام 2019، فقد بلغت فيه قيمة الصادرات العالمية حوالي 19 تريليون دولار. ولو كانت قيمة البضائع المارّة عبر قناة السويس، وليس وزنها، تشكّل 10% من قيمة الصادرات العالمية، أو حوالي 1.9 تريليون دولار، أو ما يساوي 158 مليار دولار في شهر.

ولذلك اضطرت الشركات التي تحمل بضائع حساسة، أو قابلة للتلف، ألا تنتظر، وتعود إلى رأس الرجاء الصالح عبر العودة إلى البحر الأحمر، فالمحيط الهندي فرأس الرجاء الصالح إلى المحيط الأطلسي إلى أوروبا، أو إلى الولايات المتحدة. وهذا طبعاً يرفع كلفة الشحن، وكلفة التأمين.

وكذلك ارتفع سعر النفط حسب أسعار مزيج برنت إلى قرابة 63 دولاراً، صباح السبت الماضي. وقد يرتفع إلى أعلى من ذلك في حال تأجيل إعادة الملاحة إلى قناة السويس وتأخر سحب السفينة العالقة إلى أجل أقرب بكثير من المتوقع.

العالم العربي مليء بالممرات المائية الضيقة ومحاط بها، فهنالك ممرات ضيقة بفعل خالق الكون، مثل مضيق باب المندب جنوباً، ومضيق هرمز بين الخليج وبحر العرب، ومضائق تيران وصنافير في شمال البحر الأحمر، ومضيق جبل طارق بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي.

وهنالك بالطبع قناة السويس التي يبلغ طولها حوالي 195 كيلومتراً، وتصل البحرين الأحمر والمتوسط. وعند تأميم القناة من الرئيس جمال عبد الناصر عام 1956 سحبت الشركة كل المرشدين الأجانب، فتولّى المرشدون المصريون تلك المهمة بنجاح كبير.

يستحق الرجال الذين تصدّوا لهذه المهمة التهنئة، فقد أسكتوا أيضاً كل الحسابات بحجم الخسائر التي وصلت إلى عشرات المليارات من الدولارات، والتي كانت ستتحقق لو طال أمد الإغلاق.

وبعد حرب 1967، واحتلال شبه جزيرة سيناء، تعطلت الحركة في القناة من عام 1967 حتى 1975 بعدما أُزيلت الألغام التي زرعها الإسرائيليون فيها. وقد حجزت 15 سفينة فيها طوال تلك المدة.

عدا عن الإغلاقات التي حصلت نتيجة الحروب، ما حدث مع السفينة “Ever Given” أو “عطية دائمة”، كما يحلو لي أن أترجم اسمها إلى العربية، فهي الحادثة الوحيدة التي وجدتها تقع أيام السلم.

قناة السويس هي عنق زجاجة ميسّر لحركة السفن، ولكن الحادثة جعلت لعنق الزجاجة القناة عنق زجاجة معطلاً للحركة فيها.

وما إن أهلَّ صباح يوم الاثنين، 29/3، حتى حملت وسائل الاعلام خبراً مبشّراً بأن “Ever Given” قد زُحزحت من مكانها، ما أدى إلى فتح الحركة وإعادة حركة الملاحة إليها.

وبهذا الخبر، تنتهي كل التوقعات التي تنبأت بطول إغلاق القناة والتفسيرات حول أسباب الحادث الذي أدّى إلى إغلاق القناة، ولربما طُويت معها النظريات التي نادت بإيجاد بدائل للقناة، مثل بعض المقترحات الإسرائيلية والايرانية والروسية، والتي قدّمت نفسها كبدائل جغرافية عن القناة.

ويستحق الرجال الذين تصدّوا لهذه المهمة التهنئة، فقد أسكتوا أيضاً كل الحسابات بحجم الخسائر التي وصلت إلى عشرات المليارات من الدولارات، والتي كانت ستتحقق لو طال أمد الإغلاق.

*د. جواد العناني سياسي وخبير اقتصادي، نائب رئيس الوزراء ورئيس الديوان الملكي الأردني الأسبق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى