د. جمال عبدالجواد: الأيديولوجيا وأزمة النظام الدولى

د. جمال عبدالجواد 6-5-2025: الأيديولوجيا وأزمة النظام الدولى
يمر النظام الدولى بأزمة عميقة. النظام الدولى المأزوم هو النظام الدولى الليبرالى الذى تأسس بعد نهاية الحرب الثانية، ووصل إلى ذروة تطوره بعد نهاية الحرب الباردة، وهو النظام الدولى الذى لعبت الولايات المتحدة الدور الأكبر فى تأسيسه مستلهمة المبادئ الليبرالية، والذى يجد تجسيده فى مؤسسات متعددة الأطراف، أهمها الأمم المتحدة، ومحكمة العدل الدولية، ونظام بريتون وودز المالى، والاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة.
جرى تعميق الطبيعة الليبرالية للنظام الدولى فى المرحلة التالية لانتهاء الحرب الباردة، عندما انفردت الولايات المتحدة بقمة النظام الدولى، فتم تحويل الديمقراطية وحقوق الإنسان من مبادئ ملهمة، إلى سياسات وإجراءات ذات طابع إكراهى لفرض الديمقراطية والحقوق بالقوة، وتم إنشاء المحكمة الجنائية الدولية لمحاسبة المتورطين فى انتهاكات ضد الإنسانية، وتم تعميق ومأسسة مبادئ حرية التجارة عبر تحويل الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة إلى منظمة التجارة العالمية.
وفقا للتصور الليبرالى، فإن النظام الدولى هو حزمة واحدة، تزدهر بمقتضاها الديمقراطية الليبرالية فى الداخل، فيما يزدهر التنظيم الليبرالى للعلاقات الدولية. النظام الدولى الليبرالى هو، إلى حد كبير، تطبيق لنظرية السلام الديمقراطى التى تبناها عدد من المفكرين، أشهرهم الألمانى إيمانويل كانط فى القرن الثامن عشر. تذهب النظرية إلى أن السلام لا يمكن إقامته إلا عندما تقوم نظم حكم ديمقراطية، لأن الديمقراطيات لديها دوافع أقل للذهاب إلى الحرب مقارنة مع النظم الاستبدادية. التاريخ الفعلى يبين عدم وجود فارق يذكر بين الديمقراطيات وغيرها فيما يخص الذهاب إلى الحرب. غير أن التاريخ الفعلى يبين أيضا أن الديمقراطيات لا تحارب بعضها، وأن هناك عددا قليلا جدا من الحروب التى نشبت بين دول تحكمها نظم ديمقراطية. وبحيث إن فرصة نشوب الحرب تقل كلما زاد عدد الدول الديمقراطية. الملاحظ مؤخرا هو أن الديمقراطية الليبرالية آخذة فى التراجع، وأن عددا أكبر من المجتمعات يتجه للتخلى عنها كأساس لنظام الحكم، وأن هذا التراجع يتزامن مع تدهور المكون الليبرالى للنظام الدولى، ومع الأزمة الدولية العميقة الراهنة.
وصلت الديمقراطية الليبرالية إلى ذروة ازدهارها بعد نهاية الحرب الباردة. فى عام 2006 كان 60 بالمائة من سكان العالم يعيشون فى دول تحكمها نظم ديمقراطية ليبرالية. لكن طوال الثمانية عشر عاما التالية، وفقا لمؤسسة بيت الحرية التى ترصد وتقيس حالة الحرية فى بلاد العالم المختلفة، فإن عدد الدول التى تناقص مستوى الحرية المتاح فيها زاد على عدد الدول التى زاد مستوى الحرية فيها بمعدل اثنين إلى واحد.
خلال العقد التالى لانتهاء الحرب الباردة، شهدت الدول والمجتمعات الغربية ما بدا أنه إجماع على المؤسسات الديمقراطية والقيم الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة، الأمر الذى شجع المفكر فرانسيس فوكوياما لنشر كتابه الشهير عن نهاية التاريخ، ليعلن فيه الانتصار النهائى للديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق. لكن العقدين التاليين لذلك شهدا تزايدا فى الشكوك حول القيم الليبرالية، وتآكلا فى الإجماع حولها، وانكماشا فى اتجاهات الوسط الإيديولوجى والسياسى، واستقطابا أيديولوجيا بين اتجاهات أكثر تطرفا إلى اليمين واليسار.
ارتفاع مستوى التأييد الذى تحظى به تيارات يمينية شعبوية فى بلاد أوروبا هو التحول السياسى الأهم فى بلاد القارة الأوروبية خلال السنوات العشر الأخيرة، ويوازيه زيادة تأييد التيار اليمينى الشعبوى داخل الحزب الجمهورى فى الولايات المتحدة. فعشية انتخابات البرلمان الأوروبى التى جرى تنظيمها فى مايو 2024، كانت أحزاب يمينية متطرفة تشارك فى الحكومة فى ست دول أوروبية، فيما كانت الأحزاب اليمينية تتأهب للمشاركة فى الحكم فى بلدين إضافيين. لم تحقق أحزاب اليمين المتطرف الأغلبية فى انتخابات البرلمان الأوروبى الأخيرة، وكانت كتلة الأحزاب اليمينية المتطرفة هى الأكثر نجاحا فى زيادة عدد مقاعدها فى البرلمان الأوروبى، إذ نجحت فى زيادة مقاعدها بنسبة تزيد على 55 بالمائة، لتحتل أكثر من ربع مجموع مقاعد البرلمان الأوروبي.
الولايات المتحدة هى الدولة الأكبر والقائد للنظام الدولى، وهى الدولة التى منحت للنظام الدولى طبيعته الليبرالية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؛ والأرجح أن تراجع القيم الليبرالية وجودة النظام الديمقراطى فى الولايات المتحدة قد ألحق ضررا بالغا بالنظام الدولى الليبرالي. لقد شهدت الولايات المتحدة تراجعا فى جودة الديمقراطية وانصرافا عن القيم الليبرالية، تقدره مؤسسة بيت الحرية بمقدار 5 نقاط فى الفترة 2017-2024. كما شهدت الولايات المتحدة تدهورا فى الخطاب السياسى، وصعود القيم المعادية للمهاجرين والأجانب والتعددية الثقافية، وشيوع الحديث عن الحرب الثقافية، وأحداث العنف المدفوعة بأسباب سياسية وأيديولوجية، وأخطرها اقتحام الكونجرس احتجاجا على نتيجة الانتخابات الرئاسية فى يناير 2021، وبما يعكس الضيق بتعدد الرأى وتزايد حدة الانقسام والاستقطاب. وقد كان انتخاب الرئيس دونالد ترامب عام 2016، ثم إعادة انتخابه مرة أخرى عام 2024 مؤشرا قويا على اتجاه الولايات المتحدة للكف عن التصرف كقيادة ليبرالية للنظام الدولى، وإن لم تكف عن مواصلة الهيمنة على النظام الدولى، وهذا تطور خطير يبشر بمرحلة جديدة تكون فيها القوة المحرومة من أى أساس، أو حتى ادعاء، أخلاقى هى الأساس فى قيادة النظام الدولي.تبقى القوة هى الأساس فى ممارسة العلاقات الدولية، وإن كانت العقيدة الليبرالية قد تكفلت بتهذيب القوة العارية لعدة عقود، الأمر الذى لم يعد متاحا الآن.