#شوؤن دولية

د. توفيق أكليمندوس: الحرب الروسية الأوكرانية وانعكاساتها على أوروبا

د. توفيق أكليمندوس 22-11-2022:  الحرب الروسية الأوكرانية وانعكاساتها على أوروبا

يوم ١١ أكتوبر ألقى وزير خارجية ودفاع بولندا السابق السيد راديك سيكورسكي محاضرة بالغة الأهمية أمام المجلس الألماني للشئون الخارجية، تناول فيها عدة موضوعات وخلفياتها التاريخية تدور كلها حول الحرب الروسية الأوكرانية ومستقبل الاتحاد الأوروبي والعلاقات الألمانية البولندية، ونرى فيها عرضًا جيدًا لموقف الصقور الغربيين من الصراع الحالي. ورغم انتمائه إلى المعارضة البولندية فإنه أجاد عرض موقف دولته عرضًا جمع بين الدفاع عنه وانتقاده.

سيناريو مستبعد

قال السيد راديك سيكورسكي في كلمته، إن الحرب الحالية تشكل تحديًا كبيرًا للاتحاد الأوروبي وإنه لا يعرف إن كانت أوروبا ستخرج من المواجهة أقوى بكثير مما كانت عليه أم أضعف بكثير، وإن هذا يتوقف على أدائها وقرارات القادة خلال الأزمة. ولفت النظر إلى أهم تحدٍ يواجه الغرب وهو الانهيار السريع للاقتصاد الأوكراني، مذكرًا بأن هذا الانهيار سريع ومن الصعب التعامل معه، وفي المقابل بدا واثقًا في قدرة أوروبا على تجاوز أزمة اقتصادها.الأرقام وطبيعة الأمور تؤيد هذا الكلام. أوكرانيا في حاجة إلى دعم مالي شهري لا يقل عن ٤ مليارات دولار إلى جانب مصادر الإنفاق الأخرى من تسليح وارتفاع الأسعار وإيواء اللاجئين، والاقتصاد الأوكراني أسرع بكثير في الانهيار من الاقتصاد الروسي، حتى لو أخذنا بالتقديرات المتشائمة لأداء روسيا، وهذا طبيعي لأن أوكرانيا تتعرض لقصف مكثف يخرب كل المنشآت، ولأن الولايات المتحدة فرضت لاعتبارات مفهومة عدم قيام أوكرانيا بقصف داخل روسيا، وقلل “سيكورسكي” من احتمال لجوء روسيا للسلاح النووي قائلًا إن استخدام “النووي التكتيكي” ليس كاستخدام “النووي الاستراتيجي” وأنه يتم من خلال التراتبية العسكرية وسلم القيادة، ومن المستبعد موافقة كل المعنيين من الضباط الروس على طاعة أمر باستخدام النووي، وقد يقنع هذا الكلام بعض الخبراء والمراقبين ولا يقنع البعض الآخر، ولكن حجته الثانية أقوى نسبيًا، وهي أن استخدام النووي التكتيكي يحتاج إلى عدة أيام وسيلاحظ الجميع الخطوات الأولى، وستتدخل الصين بحسم لمنع هذا التطور، وقال إنه “سمع” أن الصين أجبرت موسكو على سحب قواتها من كازاخستان وأن روسيا نفذت صاغرة.ولكن استبعاد سيناريو لجوء روسيا إلى النووي نهائي وغير ممكن، فالرجل يقول إن نهاية الأزمة ستكون إما بالإطاحة بالرئيس بوتين أو بانهيار الجيش الروسي انهيارًا شاملًا. ووفقًا له، فالروس –تحت قيادة الرئيس بوتين- لن يستسلموا ولن يتفاوضوا بجدية. وحتى لو تفاوض الرئيس بوتين بجدية فإن كلمته وتوقيعه فقدا كل مصداقية. لا يمكن لأي فرد ولا سيما إن كان أوكرانيًا أن يقبل بأن مستقبل بلده رهن كلمة هذا الرجل. ويقول إنه سيترتب غالبًا على الإطاحة بالرئيس بوتين سقوط حكم الرئيس البيلاروسي لوكاشنكا، وإن ضم البيلاروس للاتحاد الأوروبي سيكون أسهل وأقل كلفة من ضم أوكرانيا. يمكن فهم هذا المنطق –القائل بإطاحة الرئيس الروسي- لا سيما إن استمعنا إلى ما يقوله الروس وفي مقدمتهم الرئيس بوتين في بحثه المنشور على موقع الكرملين وفي مناسبات أخرى عن أوكرانيا، يرون فيها كيانًا مصطنعًا لا وجود حقيقي له ولا حق له في الوجود. على أحسن الفروض الهوية الأوكرانية فولكلور يمكن الحفاظ عليه كفولكلور يعجب السائحين، ولكن الهوية الحقيقية للأوكرانيين هي الهوية الروسية، ويجب فرضها عليهم ونزع الفكرة الشيطانية التي تزعم وجود شيء اسمه أوكرانيا. نظرًا لسيادة هذا المنطق في روسيا فإن أي تفاوض –وفقًا لسيكورسكي والصقور- مع الرئيس الروسي يقدم تنازلًا لموسكو ولو كان ضئيلًا أو يكتفي بتقليص الأوضاع ووقف إطلاق النار هو إضاعة وقت، فهو سيجني ثمر التنازل ويستفيد من التقاط الأنفاس ويستأنف العدوان في أول فرصة، هذا التفكير مقبول مع تحفظ، قد تكون الخسائر التي لحقت بالجيش الروسي درسًا تعلمه الزعيم الروسي و/أو رجاله، حتى لو شكك الصقور في هذا لأنهم يرون أن آليات عمل النظام الروسي وأسس شرعيته تحتم الخوض في مغامرات خارجية، وفي المقابل يمكن إضافة أن الرئيس الروسي لم ولن يقبل الانسحاب من الأراضي التي قام باحتلالها، وأنه سيتفاوض بمنطق كسب الوقت لا بمنطق حل المشكلة. ذلك أن أي تراجع يعرض النظام والرئيس لهزات شديدة قد تطيح به أو بهما. وكما هو واضح يرفض الصقور منطق فرق التهدئة القائل “بإيجاد مخرج مشرف للرئيس الروسي”، ليس فقط لأن لا عهد له، بل أيضًا لمسئوليته هو ونخبته عن عدد من الجرائم توصيفها القانوني الأضعف أنها “جرائم حرب”.ولكن هذا الكلام معناه وجوب تدمير الجيش الروسي و/أو الإطاحة بالرئيس بوتين، وهو أمر صعب ومحفوف بالمخاطر، ويفترض مثلًا أن الجيش الأوكراني قادر على استرداد كافة الأراضي وفي مقدمتها خيرسون وماريوبول، إضافة إلى ذلك فإن هذا الكلام قد يقوي موقع المنادين في موسكو بضرورة اللجوء إلى السلاح النووي. وما يزيد الطين بلة قول الوزير السابق إن الخطابات النخبوية والإعلامية وربما الشعبية الروسية عن أوكرانيا متطرفة وشبه نازية وغير مقبولة، وهو محق في هذا، ولكنه يقول إنه يجب الإصرار على وجود أو فرض سياسات “تنزع التطرف” وتظهر فساد الخطاب المتطرف.. إلخ. وتظهر التجارب الغربية أن لا أحد يعرف بدقة كيف يجب التعامل مع ملف “نزع التطرف”، وإضافة إلى ذلك يمثل هذا الكلام اعتداءً واضحًا على السيادة الروسية قد يقوي المتطرفين ولا يضعفهم.

حجج الكرملين

يمضي الوزير السابق وقتًا يفند فيه حجج الكرملين حول حماية الأقليات الروسية الموجودة في دول أخرى، قائلًا إن هناك محكمة أوروبية لها كفاءة في التحكيم في هذه النزاعات، ثم يقيم حكم الرئيس بوتين تقييمًا بالغ السلبية فيقول إنه قام بتدمير جيشه وهو في طريقه إلى تدمير قطاع الطاقة الروسي، وكان مخيرًا بين التحالف مع الغرب والتبعية للصين واختار الثانية مرتكبًا “خطأ استراتيجيًا كارثيًا”، فالتحالف مع الغرب كان –وفقًا لسيكورسكي- الطريق الذهبي لتحديث الاقتصاد الروسي ولتأمين أقصى شرق روسيا وحمايته من المطامع الصينية، ويمكن الرد على هذا الحكم بالقول إن التعامل مع الغرب أمر بالغ الصعوبة واختبار كبير للعزة الوطنية وللصبر وأنه يتعين على الغرب أن يتساءل: لماذا يفضل الكثيرون بدائل غير الاصطفاف معه؟ ولماذا فضل الرئيس الروسي بعد عقد كامل من التعاون مع الغرب الانقلاب عليه سنة ٢٠١١، ويُحمد سيكورسكي على ذكره تفاصيل التعاون الروسي الغربي والروسي البولندي ومبادرات بوتين لتحسين العلاقات، منها ما كان مكلفًا وقاسيًا له في العقد الأول من الألفية.يمكن طبعًا رفض السؤال ونسبة كل مسئولية التدهور للطبيعة الشكاكة للرئيس الروسي أو لميله الدائم منذ أول يوم إلى استخدام العنف لحل نزاعات روسيا، ولكنني أعتقد أن الوضع أكثر تعقيدًا. يمكن أيضًا القول إن الروس كانوا يريدون تعاونًا قائمًا على الاعتراف بهم كقوة عظمى شأنهم شأن الولايات المتحدة، في حين أن روسيا لم تعد قوة عظمي وإن كانت نووية. ولكن هذا المطلب الروسي (إدارة مشتركة للنظام العالمي بين موسكو وواشنطن) لا يبرر تصريحات الرئيس أوباما المقللة دائمًا من شأن الروس. وأيًا كان الحال، في نهاية سنة 2011 قرر الرئيس بوتين صرف النظر عن منهج مخاطبة ود الغرب وسعى إلى تشكيل نظام إقليمي أوراسي، ووفقًا لسيكورسكي فهم بسرعة بوتين أن هذا النظام لن يكون بديلًا عن المنظومة الغربية ما لم يضم أوكرانيا، ولكن أوكرانيا لم تكن راغبة في الابتعاد عن أوروبا والولايات المتحدة، ويقول الوزير أيضًا إن الرئيس الروسي كان يستطيع أن يحول بلده إلى صين صغيرة ولكنه فضل أن تكون إيران كبيرة، أي –وفقًا له- “دولة مارقة لها قنابل نووية”. ويضيف أن حكام روسيا المتعاقبين ضلوا الطريق منذ سنة ١٩١٣ ولو كانوا حرصوا على تحقيق نمو سنوي مثل نمو كندا لكان الاقتصاد الروسي اليوم في قوة الاقتصاد الأمريكي.ويقول أيضًا إنه يجب الاعتراف بأن مصالح النظام الروسي تناقض دائمًا مصالح روسيا والشعب الروسي. ولصياغة أخرى لنفس الفكرة، يمكن القول إن الأنظمة الروسية المتعاقبة فشلت دائمًا في إيجاد صيغة توفق بين منطق الأمن -وهو منطق مشروع- ومنطق الاقتصاد والتنمية، ويعود هذا إلى ضعف نسبة السكان إلى مساحة الأرض، وقولي هذا لا يعفي تلك الأنظمة من المسئولية.وبعد ذلك يخاطب المسئول البولندي السابق الألمان منددًا بسياساتهم تجاه روسيا وبعدم إدراكهم حقيقة وحجم التهديد الروسي حتى آخر لحظة، ويتقدم بعدة اقتراحات، يقول أولًا إن دول شرق أوروبا فهمت بسرعة جدًا وجود خطر كبير عندما غير الرئيس بوتين محتوى كتب التاريخ التي تدرس في العملية التعليمية ليمجد عصور الإمبراطورية والستالينية، وزادت شكوكهم عندما سمعوه في ميونخ سنة 2008 وبوخارست سنة 2010 يتكلم عن الماضي القريب وعن أوكرانيا، وتأكد هو شخصيًا من نوايا الرئيس الروسي عندما كتب الأخير في صيف 2021 دراسته عن أوكرانيا التي أنكر فيها وجود كيان أوكراني متفرد وأمر كل ضباط الجيش بقراءتها. ويفند سيكورسكي الرواية الروسية حول مخاطر انضمام أوكرانيا للناتو، ويقول إن أوكرانيا وعدت في مباحثات سرية بينها وبين روسيا أن تظل محايدة وألا تنضم أبدًا للناتو (لم يحدد تاريخ هذه المفاوضات)، وقال إنه من المعروف أن المستشار شولتز وعد الرئيس بوتين علنًا وفي السر أن ألمانيا ستستعمل حقها في الفيتو في الناتو لتمنع دخول أوكرانيا في الحلف الأطلسي. وتساءل سيكورسكي لو يخطط الرئيس الروسي لغزو فنلندا والسويد، وقال إن الرئيس بوتين يريد ضم أوكرانيا إلى ممتلكاته، وهذا ما أكده البيان الروسي المرعب في بدايات الحرب، ويوبخ البولندي ألمانيا وفرنسا قائلًا: “أيوجد في عواصمكم شخص جاد يعتقد فعلًا أن بوتين سيتخلى عن حلمه بضم كييف؟”. ويضيف أن الرئيس الروسي رفض أن يترك الوقت والأجيال القادمة تحل قضية العلاقات الروسية الأوكرانية، وحاول حسمها بالقوة الغاشمة، ويتحمل مسئولية تاريخية.

معضلة حدود الدور الألماني

يمضي السيد سيكورسكي قائلًا: “قلت هذا الكلام سنة ٢٠١١ وأقوله مجددًا بخصوص حرب أوكرانيا. ألمانيا اختارت ألا تقود وهي متأخرة عن الدول الأخرى المتصدرة”. وأشار إلى أن ألمانيا، إن حسبنا نسبة إجمالي المساعدات المقدمة إلى عدد سكان الدولة، لا تساعد أوكرانيا كما تساعدها دول أقل شأنًا وثراء. وأعرب عن أمله في تكثيف سياسة ألمانيا (في دعم أوكرانيا) بعد أن ضرب الرئيس بوتين المدن الأوكرانية “موضحًا أهدافه الحقيقية”.يمكن التوقف لحظة هنا للقول إن بعض هذا الكلام إعادة صياغة لفكرة قديمة، وهي أن ألمانيا عملاق اقتصادي وقزم سياسي، وأن هذا الوضع وليد الحرص على عدم إحياء ذكريات الماضي والخوف من عنف يفترض أنه كامن ومكبوت في الشخصية الألمانية، وهي فكرة سطحية نوعًا ما، ولكنها سائدة في ألمانيا وغيرها، وبعضه الآخر نقد ضمني لموقف الحكومة البولندية الحالية المعادي بشدة لألمانيا. القول إن ألمانيا الدولة الضرورية وإن خمولها يضر الجميع، وأن عليها مسك زمام القيادة، معناه أن ألمانيا ليست عدوة بولندا مهما صحت انتقادات كل طرف للطرف الآخر، وهناك أخيرًا إشارة ضمنية إلى بطء اتخاذ القرار في ألمانيا، فهو تكلم عن “تأخر وراء دول أقل شأنًا”، وإشارة ضمنية أخرى إلى عجز ألمانيا عن فهم طبيعة النظام الروسي، كلامه يقول ضمنًا إنها احتاجت لموجة القصف الأخيرة للمدن الأوكرانية لتفهم.الإشارة التالية نقد لمن يطالب أوكرانيا بالتفاوض مع روسيا، وهم كثيرون في الإعلام الأوروبي، وقال: “لا أحد يطالب ضحية اغتصاب أن تفاوض المغتصب”، وأضاف أن هناك عددًا كبيرًا من الميكرو “تشامبرلين” المستعدين للتضحية بأراضٍ ليست ملكهم وبحريات الآخرين ليكونوا هم مرتاحي البال. تشامبرلين المشار إليه هو رئيس الوزراء البريطاني الذي تفاوض في ميونخ مع هتلر هو ونظيره الفرنسي المسيو دلادييه ووافقا على التضحية بأراضي تشيكوسلوفاكيا مقابل السلام. وكما يقول تشرشل، اختاروا العار ولم يحصلوا على السلام. ويمكن التعليق على هذا بالقول إن التشبيه يستخدم كثيرًا، ولكنه هذه المرة في محله إلى حد ما، مع ظرف مخفف عملاق هو امتلاك روسيا للسلاح النووي وأدوات ضغط لم تكن في يد هتلر، وأضيف أن قادة فرنسا عامة يتصرفون وكأنهم لا يفهمون عمق الجرح الذي تركه هذا الفصل في الذاكرة الأوروبية الشرقية. في مذكراته اشتكى الرئيس ساركوزي من ميل القادة البولنديين إلى الاستشهاد دائمًا بهذا الماضي.

قليل من التاريخ

 

بعد الإشارة الثانية بقليل يقول الوزير السابق الذي يتحدث أمام المجلس الألماني للعلاقات الخارجية، إن ألمانيا لم تفهم لا الرئيس بوتين، ولا نظامه، ولا روسيا، وإن تحليل هذا الخطأ واجب. الخطأ ليس في الرغبة في حث روسيا على سلك مسلك الغرب، وعلى بناء علاقات قوية معه، وقال: “إلى يومنا هذا علينا تقديم خيار أفضل للدول التي نتعامل معها ومنها روسيا”، ويقول الوزير وهو محق في هذا، يبدو أن النخبة الألمانية أساءت تحديد وفهم أسباب انتصار الغرب في الحرب الباردة، وتصورت أن السياسة الشرقية –سياسة ألمانيا في الانفتاح على روسيا وتنمية التبادل التجاري معها- التي انتهجها المستشار الراحل ويلي براندت هي سبب الانتصار. وتتخيل هذه النخب أن كل المبادرات السلمية (الاعتراف بألمانيا الشرقية، تبادل البعثات الطلابية بين الألمانيتين وما إلى ذلك) هي التي أنهت العصر السوفيتي، ولا تريد أن ترى أن هذه المبادرات كانت ممكنة، وأن الاتحاد السوفيتي قبلها لأن هناك ٣٠٠ ألف عسكري من الناتو يدافعون عن الحدود الألمانية الغربية، ولأن الناتو تعامل بحسم وحزم مع نشر الاتحاد السوفيتي صواريخ متوسطة المدى، ولأن الناتو تحدث عن إطلاق برنامج حرب الكواكب.ويشدد الوزير ويقول: كان من المستحيل أن ينجح براندت و(المستشار) كول لو لم يكن الرئيس ريجان موجودًا هو والبابا يوحنا بولس الثاني (بابا الكنيسة الكاثوليكية، بولندي، ولعب دورًا محوريًا في حشد همم المعارضات والشعوب الشرق أوروبية) والزعيم العمالي البولندي ليشك فاونسا مؤسس وزعيم حركة تضامن العمالية التي أضعفت النظام الشيوعي في بولندا إضعافًا أدى إلى انتهائه، ولعب نضالها دورًا هامًا في ابتعاد اليسار الأوروبي الغربي عن الاتحاد السوفيتي. يقصد سيكورسكي أن المواجهة، عسكرية كانت أم سياسية أم فكرية، لعبت دورًا أكثر حسمًا من المهادنة والتعاون، وأن هذا التعاون لم يكن ممكنًا لو لم يكن هناك تهديد يدفع السوفيت إلى قبوله. ويعود ويقول مرات: “نسيتم أن الانفتاح على روسيا يجب أن يصاحبه حزم وصرامة. في السبعينيات والثمانينيات انفتحتم على روسيا دون حزم ولكن الولايات المتحدة عوضت هذا، بعد انتهاء الحرب الباردة كانت مقاربتكم قائمة على عشرات الجزرات واختفاء تام للعصا”، وأقول إنني سمعت فعلًا في أواخر العقد الأول للألفية مسئولًا أوروبيًا كبيرًا (يمثل الاتحاد) يقول متباهيًا في محاضرة في باريس إن الاتحاد ابتكر طريقة جديدة للتفاوض لا تلجأ أبدًا للعصا وهي تقديم جزرة مع تجهيز جزرات أخرى أكبر حجمًا وأكثر أهمية إن لم تقنع الأولى الطرف الآخر، وما أذهلني يومها هو إعجاب جمهور الخبراء الحاضر بهذا الكلام التافه.ويشكك سيكورسكي في مقولة أخرى يتمسك بها الكثير من الألمان، وهي أن الاتحاد السوفيتي سمح بتوحيد الألمانيتين، وأن ألمانيا مدينة لموسكو إلى أبد الآبدين، ويقول إن جورباتشوف لم يسمح بالتوحيد لطيبة قلبه، بل لأن انهيار النظام الشمولي أجبره على سحب قواته من أوروبا. في هذه النقطة يبدو الوزير متجاوزًا، كان هناك إجماع في الدوائر الغربية أن جورباتشوف كان يستطيع اللجوء إلى خيار عسكري إما لمنع تحرر أوروبا الشرقية أو تأجيله أو لرفع كلفته ولم يفعل.ويشير سيكورسكي إلى عقدة الذنب الألمانية بسبب الحرب العالمية الثانية، ويقول إن الألمان يتذكرون جرائمهم ضد اليهود وغيرهم ولكنهم يتصورون أن أغلب ضحايا غزوهم للاتحاد السوفيتي سنة ٤١ كانوا من الروس، في حين أن أغلب المذابح جرت في أراضٍ بولندية وأوكرانية وبيلاروسية، ولذلك من العجيب أن يحس الألمان بعقدة ذنب تجاه الروس في حين أنهم ينسون تمامًا ما فعلوه في الشعوب الثلاثة المذكورة. ويقول: يبدو أنكم نسيتم أن أغلب ضحايا غزو أجدادكم لم يكونوا من الروس، ولذلك إن كنتم مصرين على التكفير عن ذنوب أجدادكم فعليكم أن توجهوا مشاعركم ودعمكم وتضامنكم لأهم الضحايا (أي الأوكرانيين والبيلاروس والبولنديين).

من الماضي القريب إلى الحاضر والمستقبل

 

يُذكّر الوزيرُ الألمانَ برفضهم سماع تحذيرات بولندا وغيرها الواضحة المكررة علنًا وفي الكواليس. قيام روسيا بيع الغاز بسعر رخيص لم يكن مشروعًا تجاريًا بل مشروعًا سياسيًا جيوسياسيًا، وليس للألمان أي عذر لأن الاتفاق على نورد ستريم ٢ تم بعد قيام روسيا بضم القرم والتدخل في الدونباس، أي بعد أن أثبت التاريخ والأحداث سذاجة التصورات الألمانية. ويقول إنه كان واضحًا منذ عهد المستشار السابق شرودر أن روسيا تبني شبكات أنابيب أكبر بكثير من اللازم لتسليم الغاز، وكان يعني هذا أنها تحتفظ بخيار تغيير مسار الغاز لمعاقبة دول أو غيرها، أي لتحتفظ بخيار التوظيف السياسي للغاز. وبعدها يتناول ما تم العرض له في التحليل السابق، أي ما حدث في العقد الأول من الألفية، من تطور التعاون بين روسيا والدول الغربية ودول أوروبا الشرقية، ويُشير إلى قيام روسيا بتقديم تسهيلات كبيرة للعمليات الغربية في أفغانستان، وتبادل الزيارات بين قيادات الدول الروسية والغربية وأعضاء المجالس المحلية (لدراسة التجارب في التنمية واللا مركزية) وزعماء الكنائس، ووصل الأمر إلى درجة بحث إمكانية القيام بتدريبات مشتركة بين قوات الناتو والجيش الروسي، ولكنه يضيف أن بولندا واصلت رغم هذا بناء قواتها وزيادة ميزانية الدفاع تحسبًا لاحتمال انقلاب السياسة الخارجية الروسية، في حين أن ألمانيا أصرت على تخفيض حاد في الإنفاق الدفاعي وفي تسليح قواتها. وقال إن بولندا ألحت بشدة ليقوم الناتو بتحضير خطط للدفاع عن دول البلطيق وعن بولندا، وكثفت بولندا من شرائها لأسلحة وشبكات صواريخ أمريكية الصنع لحث أمريكا على الاهتمام بالدفاع عن أوروبا الشرقية.ويتحدث باستفاضة عن تجاربه كوزير خارجية أو وزير دفاع بولندي مع المسئولين والصحفيين والخبراء الألمان، وعجزهم عن فهم أي شيء يخصّ الأمن والدفاع، ورفضهم قبول فكرة أن هناك تهديدًا روسيًا، وهذا لم يتغير بعد ضم روسيا القرم بالقوة وتدخلها في الدونباس سنة ٢٠١٤، ولذلك كانوا يرفضون التعامل مع بولندا على أنها “دولة جبهة” لأنهم أصروا على كون روسيا لا تمثل تهديدًا، وكانوا يعتبرون البولنديين دعاة حرب مزعجين مهووسين. ويقول إن السياسيين والإعلام الألمانيين لم يعتبروا قيام روسيا بنشر صواريخ إسكندر قادرة على حمل رءوس نووية في كالينينجراد، وقادرة على ضرب برلين، خبرًا يستحق النشر أو التعليق أو الاهتمام! ويضيف أن استطلاعات الرأي، في هذه الفترة، كانت تظهر أن ثلث الألمان يريدون تحالفًا ألمانيًا روسيًا ضد الولايات المتحدة!ثم يلخص ويقول: التاريخ أثبت أننا كنا على حق وأنكم كنتم مخطئين، لا نريد اعتذارًا عن ثلاثين سنة من المواعظ الأبوية في الأخلاق، ولكننا نطالبكم الآن بالاستماع إلى ما نقوله. إننا نأمل أن هذه الحرب ستكون آخر الحروب الاستعمارية لروسيا، نقول لا تنسوا أن أغلب سكان الدونباس والقرم وافقوا على استقلال أوكرانيا سنة ٩١. ثم ينتقد ويفند الخطاب الروسي عن أوكرانيا ويصفه بالخطاب الاستعماري الاستعلائي بامتياز. يرى الروس في الأوكرانيين جمعًا من الفلاحين العاجزين عن حكم أنفسهم، ويتكلمون بلهجة مضحكة، ويتجرءون ويطمعون في الاستقلال، وبعد ذلك ندخل في مرحلة الغضب الروسي ورغبة الروس في تلقين هذا الجمع من الفلاحين الطامع في الاستقلال دون وجه حق درسًا قاسيًا، ويتنبأ بأنه في وقت ما ستقول روسيا، شأنها شأن أي دولة استعمارية، عندما يفوق عدد القتلى من الجانبين حدود المحتمل: ” أنتم حقراء لا تستحقون اهتمامنا بكم وجهودنا، تريدون الاستقلال ها هو ومع السلامة”. اعترض بعض الحضور على هذا التنبؤ “المتفائل”، وتساءلوا عن احتمالات التصعيد النووي.ويشدد الوزير على ضرورة إلحاق هزيمة كبيرة بروسيا لأن التاريخ -وفقًا له- يثبت أنها لن تقوم بإصلاحات داخلية، ولن تكتفي بأراضيها ما لم يفقد النظام كل شرعية بعد قيام دولة أصغر من روسيا بإذلالها عسكريًا (يتحدث عن هزيمة اليابان لروسيا سنة ١٩٠٥ الذي تسبب في مظاهرات كبرى دفعت النظام القيصري إلى تبني إصلاحات محدودة لم تكتب لها الحياة).

مقترحات لألمانيا

 

ينصح سيكورسكي الألمان بصرف النظر عن مشروع إصلاح الاتحاد الأوروبي من خلال تعديل نظام التصويت تعديلاً بمفاده تتنازل الدول عن حق الفيتو، وتحصل كل دولة على نسبة من الأصوات تتفق ووزنها السكاني. يقول سيكورسكي إنه شخصيًا موافق على الفكرة الحاكمة للتعديل المقترح، ولكنه يقر بأن أغلب الدول ترفضه لأن هذا المشروع سيؤدي إلى قدرة ألمانيا وفرنسا، إن صوتا معًا وإن نجحا في الحصول على تأييد دولة أو دولتين من الدول الصغيرة، على فرض رأيهما وسياساتهما على باقي أعضاء الاتحاد، وهذا ما ترفضه الدول الأخرى في حد ذاته، وهناك سبب إضافي قوي للرفض هو أداء الدولتين (ألمانيا وفرنسا) البالغ السوء الجامع بين سوء التقدير وعدم التوفيق، وعدم احترام المعاهدات الأوروبية، ولا سيما معاهدة لشبونة. الدولتان أخفقتا في عدد من المناسبات، منها أزمة القرم والدونباس سنة ٢٠١٤، فهما قامتا بالتفاوض مع روسيا وأوكرانيا، مدعيتين أنهما تمثلان الاتحاد الأوروبي، في حين أنهما لم تحصلا على أي تفويض ولم تطالبا أصلًا بهذا التفويض. تصرفتا منفردتين رغم أن المعاهدات تنص على سياسة خارجية وأمن ودفاع جماعية، والأكثر مرارة أنهما توصلتا إلى صيغة مرفوضة ورفضها الطرفان هي صيغة مينسك، وتجاهلتا رأي الدولة الوحيدة في الاتحاد التي لها حدود مع الطرفين وهي بولندا، كما تجاهلتا آراء جمهوريات البلطيق رغم المخاطر الواضحة التي تهددها، وفشلت سياسة الدولتين فشلًا ذريعًا ولم تحقق أيًا من الأهداف المعلنة، وكانت النتيجة الوحيدة هي سطوع مؤقت لنجم الرئيس البيلاروسي الذي استضاف المفاوضات الرباعية.ويقول إن المشكلة ليست في شخصيات المسئولين أيامها، بل المشكلة بنيوية وهي أن فرنسا وألمانيا تتمتعان لأول مرة في تاريخهما بجوار مكون فقط من دول صديقة، وفقدت الدولتان عادة التفكير الاستراتيجي في جوار قوي ومعادٍ وعدواني. وأثبت أداء الدولتين أنهما ترفضان وتعجزان عن تفهم هواجس دول هوامش الاتحاد، أي الدول التي لها حدود مع عدو، وهذا العجز يعني أنهما غير مؤهلتين لقيادة سياسات الاتحاد الخارجية والدفاعية، وفشلهما في هذا الملف يعني أنه لا يوجد أي سبب للثقة في حكمهما على الأمور. ويخلص قائلًا: التعديل في التصويت المطلوب سيفهم من الدول الأخرى كالآتي. المطلوب منا التنازل عن حقنا في الفيتو والثقة في حكمة الدولتين رغم فشلهما المتكرر (في فهم حقيقة التهديد الروسي). وطبعًا لن يمر التعديل. عليكم السعي أولًا إلى استرداد ثقة الدول الأخرى في قدرتكم على مراعاة مصالح وهواجس الآخرين قبل أن نفكر في الموافقة على التعديل.ومن ناحية أخرى، يُشدد سيكورسكي على ضرورة تفادي إعادة بناء وتسليح الجيش الألماني في إطار وطني ألماني، لأنه يرصد قلق حلفاء ألمانيا من ظهور جيش ألماني قوي، قال السيد كاتشنكي رئيس الحزب الحاكم في بولندا أن ألمانيا ستستخدم جيشها لا ضد روسيا بل ضد بولندا، وعلق الوزير قائلًا: طبعًا هذا الكلام مبالغ فيه جدًا وغير عاقل، ولكنني أرى أنه إنذار. يوجد في أوروبا كثير من الساسة الانتهازيين سيتبنون خطابًا شبيهًا، ولا تستهينوا بخوف الأوروبيين عندما يشاهدونكم تنهضون وتتعاملون مع المشاكل بطريقة منهجية تميز عامة أداءكم. وأضاف أحد الدبلوماسيين الألمان الذين علقوا على المحاضرة أنه لاحظ في باريس وفي مجلس الشيوخ قلق المسئولين الفرنسيين من احتمال ظهور جيش ألماني قوي. ويستشهد الوزير بمقولة لكيسنجر قال فيها إن حجم ألمانيا التي تمثل ٢٥٪ من اقتصاد أوروبا ضخم جدًا بالنسبة للقارة العجوز وصغير جدًا بالنسبة للعالم، واستشهد بمقولة أخرى لأب الاستقلال البولندي المشير بيسودسكي الذي عبر عن مخاوفه قائلا إن روسيا أشد خطرًا على بولندا من ألمانيا، لأنه من السهل بناء تحالفات ضد ألمانيا إن زادت مطامعها.وطالب سيكورسكي ألمانيا بعدم خوض معركة للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن لأن سياسة الألمان كانت تسعى إلى حصول الاتحاد الأوروبي على مقعد دائم في مجلس الأمن، بجوار أو مكان فرنسا. ويرى سيكورسكي أن تغيير الهدف الآن سيعد مؤشرًا على نوايا ألمانيا المستقبلية، وعلى أنها لم تعد متمسكة بتحويل الاتحاد الأوروبي إلى قوة عظمى بل صارت تسعى إلى أن تكون ألمانيا هي القوة العظمى الأوروبية.ثم يتطرق إلى الدور المستقبلي لبولندا، ويقول إنه يتمنى أن يقدر الأوروبيون المجهود العملاق الذي قامت به بولندا في التصدي للعدوان الروسي. مئات الآلاف من العائلات البولندية استضافت الملايين من اللاجئين الأوكرانيين في بيوتهم، وقدمت وارسو الدعم المالي ومدت أوكرانيا بالأسلحة. وتقوم بزيادة كبيرة لإنفاقها العسكري ليصل إلى ٣٪ من الناتج القومي الإجمالي. ولم يقل ما هو معلوم من أن بولندا في طريقها ليصبح جيشها من أقوى جيوش الناتو ولتكون صناعتها العسكرية لاعبًا هامًا.ويقول إن بولندا لن تكون في أمان ما لم تكن أوكرانيا في أمان، حرة موحدة وأوروبية (أي عضوة في الاتحاد)، وأضاف أن أكبر خدمة لم تقدمها بولندا بعد لأوكرانيا هي تصفية وحل مشكلات وارسو مع الاتحاد الأوروبي، والتزامها بسيادة القانون وبأحكام المحكمة الأوروبية العليا وإصلاح ما فسد في علاقتها مع المؤسسات الأوروبية. هذا طبعًا نقد لنهج الحكم البولندي الحالي، ويقول إن أوكرانيا تحتاج إلى بولندا، دولة نجحت في الانتقال الديمقراطي وفي التغيير لتصبح أيقونة للتحول الناجح ومثالًا تحتذي به أوكرانيا وهي في طريقها إلى الانضمام للاتحاد، دولة لها قدرة على التأثير داخل المؤسسات الأوروبية وتنتصر لجارتها، دولة عادت إلى منهج التقارب مع اليورو. وقال في موضع آخر إنه يجب أن تدرك القيادة الحالية لبولندا أنها لا تستطيع أن تتعارك على جبهتين، جبهة مع روسيا وجبهة مع ألمانيا.ويتساءل عن آفاق التعاون بين ألمانيا وبولندا رغم المشاعر المعادية لألمانيا في الإعلام البولندي، ويقول إن الدولتين تحتاجان إلى دفاع مشترك في ظل وضع قامت فيه روسيا بنشر صواريخ إسكندر قادرة على حمل رءوس نووية، وهي صواريخ تهدد بدرجة متساوية وارسو وبرلين. ويقول إن منظومة دفاع جوي مشتركة تضم أجهزة إنذار مبكر وأجهزة تتبع وصواريخ ستكون أكثر فاعلية من وضع تطور فيه كل بلد لوحدها منظومتها الخاصة. ويقول إنه في ظل الخطر الروسي يجب أن تكون بولندا على رأس اتحاد الدفاع الأوروبي، وأن تقوم أوروبا بتقوية دفاعاتها لأنه لا أحد يستطيع أن يضمن أن المرة المقبلة ستشهد الساحة قيام الولايات المتحدة بالدفاع عن القارة في وجه العدوان الروسي بالقوة التي شهدناها هذه المرة. قد يحكم أمريكا رئيس له توجهات مختلفة، وقد تكون الولايات المتحدة منخرطة في حرب في آسيا. ويخاطب الألمان قائلًا إن عبء الدفاع عن الجبهة الشرقية للاتحاد عبء تتحمله حاليًا دول أفقر من ألمانيا، وإن هذا الوضع يجب ألا يستمر، أمضيتم عقودًا كراكب لا يدفع التذكرة تاركين فاتورة الأمن للأمريكيين، يستحيل أن تستمروا بعد ذلك كراكب لا يدفع التذكرة وتتركوا الفاتورة لأوروبا الوسطى والشرقية. الرئيس بوتين يهدد كل دول القارة، وعلى كل دول القارة المشاركة في الدفاع الكل وفقًا لناتجه القومي الإجمالي.وقال: “إننا” (بولندا، الدول الأوروبية) نحتاج إلى تشكيل وحدات تضم أساسًا متطوعين أوروبيين يمول الاتحاد مرتباتهم، وتأتمر هذه الوحدات من مجلس الاتحاد الأوروبي للشئون الخارجية. ويزعم سيكورسكي أن هذه الصيغة من شأنها ردع روسيا والرئيس بوتين وتفادي احتمال قيام كل الجيوش الأوروبية بردع بعضها بعضًا. ولا يخفي أن الحل المقترح غير واقعي على الإطلاق، واعترض عليه بعض الحاضرين، فالمؤسسات الوطنية العسكرية شديدة التمسك بالصيغة الوطنية للجيوش، وطبعًا يتجاهل هذا الاقتراح عدة مشاكل، منها هل تضمن فرنسا سلامة وأمن الدول الأخرى بالسلاح النووي؟ هل قرار الحرب محتاج إلى إجماع في المجلس الأوروبي؟ لماذا يكون القرار في يد المجلس وليس في يد البرلمان؟ كيف نتفادى صداعًا بيروقراطيًا مدمرًا؟ كيف نتفق على نوعية التسليح هل هو فرنسي أم أمريكي أم ألماني؟ من يحدد شكل تنظيم هذه الوحدات وعقيدتها القتالية؟ويقترح أن تعمل بولندا وألمانيا معًا لمساعدة أوكرانيا في سعيها إلى التحول إلى دولة قادرة على الانضمام إلى الاتحاد، وتستطيع بولندا أن تقدم النصح لكييف من واقع تجربتها في رحلة الانضمام إلى الاتحاد وما تستلزمه، وتستطيع ألمانيا أن تلعب دورًا لتطمين بعض الدول المتوجسة من فاتورة إعادة بناء أوكرانيا والإصلاحات الضرورية للانضمام، ويقول إن ارتفاع تكلفة انضمام أوكرانيا ستعوضه مزايا أوكرانيا المتعددة، أراضٍ زراعية خصبة، جيش من أقوى الجيوش، مولدات كهرباء لا تلوث الهواء. ويقول إن بولندا ترحب بعضوية أوكرانيا رغم أن هذه العضوية ستفقد بعض الأقاليم البولندية الحق في الدعم المالي الذي يقدمه الاتحاد للمناطق الأكثر فقرًا لأن أوكرانيا ستكون أفقر، وتشترك ألمانيا وبولندا في رغبتهما في محاربة الفساد في أوكرانيا منعًا لتبديد الدعم الأوروبي. ثم يتعرض لملفات الطاقة ويشكر ساخرًا الرئيس بوتين الذي أزال بأفعاله أهم خلاف بين بولندا وألمانيا وهو ملف نورد ستريم، ويقول إن الألمان يكتشفون أخيرًا أن هدف المشروع كان سياسيًا، وأنه وفر أيضًا آلية لشراء بعض الذمم وأنهم لا يرون الآن إلا قمة الجليد. ويقترح عدة آليات لتقوية التعاون في مجال الطاقة، ويدعو إلى مراجعة وتعديل الموقف الأوروبي من الطاقة النووية.ويلاحظ أن دبلوماسية إيطالية حضرت اللقاء قالت إن التاريخ يقول إن هناك أزمات حادة أضعفت الوحدة الأوروبية، وحثت كل الأعضاء -الكل على حدة- على سلوك انفرادي يحقق مصلحته الذاتية، وأزمات قوت من الروابط ومن الوحدة. وقالت الدبلوماسية إنه من المبكر تحديد اتجاه الريح حاليًا، هناك مؤشرات قوية على توثيق الأواصر وأخرى لا تقل قوة تنم عن التشرذم والتفكك وإحياء التيارات الشعبوية الرافضة للوحدة. وفيما يتعلق بسياسات الدفاع نلاحظ نفس الاتجاهات المتناقضة (ولا سيما في العلاقات بين ألمانيا وفرنسا).وينهي الوزير السابق خطابه مشددًا على أوجه الشبه بين ألمانيا وبولندا، أغلب السكان ينتمون إلى الطبقات الوسطى، اهتمام الشعبين بالصناعة وبالتكنولوجيا، والدولتان لشعوب قديمة ولكنها حديثة النشأة، والاثنان خسرا فعلًا الحرب العالمية الثانية وإن عدت بولندا في صفوف المنتصرين، والدولتان اعتبرتا انهيار الاتحاد السوفيتي تحريرًا لها، والدولتان لم تتمتعا بسيادة كاملة على أراضيها قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، ويحذر من خطابات إحياء الضغائن بين الشعبين، ويقول شاهدنا هذا الفيلم قبل ذلك ونعرف نهايته الحزينة المؤسفة، آن الأوان لفيلم بنهاية حديثة. أوروبا (يقصد الوحدة الأوروبية) هي الحل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى