أقلام وأراء

د. بسام الساكت يكتب – ما بين فايروس كورونا والأفلونزا

د. بسام الساكت – 2/4/2020

لا وقت لدينا الآن نصرفه، بعد أن نعمل العقل، ويمن الرب علينا بالنجاة من فيروس كورونا، إلا الحرص لأخذ العبر للنهوض وإدامة الحياة في بيوتنا أولا، ثم مجتمعنا، وجوارنا، وأبعد من ذلك. إن ما نحن فيه الآن «حرب الإنسان الكونية» مع فيروس كورونا. ولنتذكر أننا عبيد الله وخلفاؤه على الأرض وتزداد درجتنا رفعة عنده، إن أحسنا التقدير والفهم والتدبير. وتلك معادلة ليست سهلة، لكنها ممكنة.

لقد خاطب الخالق البشرية بلفظ سام، إذ صدق وقال: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله اتقاكم»، خاطبنا بصيغة التعميم وعدالة، فلم يذكرنا كعرب أو مسلمين أو فضل بعضنا وفق لونه أسود أو أبيض أو حجم ثروته أو خاطبنا، وفق موقعنا الجغرافي- في آسيا أو أفريقيا، خاطبنا بلفظ الإنسانية، وفي ذلك رفعة، لنا ودلالة هادفة. كما أكد سبحانه على فاعلية القلة منا دون الكثرة «كم فئة قليلة غلبت بإذن الله، والله مع الصابرين»، وكذلك – إن أكثر الناس لا يعلمون، إن أكثر الناس لا يعقلون، إن أكثر الناس لا يشكرون، وقليل من عبادي الشكور، إلخ. فالفئة الواعية العاقلة قلة تقود الأمة في زماني الرخاء والمحن. ودارسو علم الاجتماع والتاريخ يدركون، كما يؤمن المسلمون منا، بما جاء من حكم وشواهد ربانية في القرآن الكريم، وكتب الله المنزلة على المرسلين، حول بعض من عباده خصهم بنوعين من المعاملة: الجزاء وحسن الختام، لمن يحسن، ومعكوس ذلك لمن يسيء. وقال رسول الله محمد (ص) بحق التاجر: «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة». وقال بحق القاضي لما له فضل وكرامة عند الله: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور». وثلاثة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله، التاجر الأمين، والإمام المقتصد». وأترك للضالعين بالفقه أن يفسر لنا أبعاد القول الرباني التالي «وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا». وقد قيل تتبعا للتاريخ عبر الأجيال، إن المترفين والكبراء في المجتمعات السالفة كانوا يعاكسون ويؤذون الدعاة الى الله تعالى، وكانوا هم كذلك الرائدين لكل زائغ، من أيام سيدنا نوح وقوم عاد وثمود، وقارون، ومترفي قريش. «وضرب الله مثلا، قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون».

بعد هذه المقدمة، أقول إننا في الأردن ومنذ نشأته، وهو بلد محارب على جبهات الاقتصاد والأمن، صابر، وقد صحونا اليوم على انتشار وباء فيروس كورونا في الصين، فوجدنا أنفسنا في حرب دفاع عن أنفسنا، وفي ظرف فرض وسيفرض تغييرا إجباريا في حياتنا تقوده الفئة الواعية .لقد شاهدنا خطرا جامحا، يتصدى له أبناؤنا بشجاعة وإقدام، من الأطباء والممرضين والطواقم الصحية المساندة، ورجال الأمن والدرك وأبنائنا من القوات المسلحة. وبرز عمال البيئة والبلديات – عمال الوطن، يعملون بجد في ظرف الخطر القائم، يدفعهم جهادهم في حب الوطن والعباد، مضحين بأنفسهم، كما اصطف مع الحكومة، أو صمت مرغما، معارضوها تاركين الخلافات وأيديولوجيات الإصلاح، مقابل الأمن الصحي والبقاء، وشاهدنا كيف أن مالك المرسيدس ومن لا سيارة له متساويان، فكلاهما منصاعان لأوامر منع التجوال، وظهرت عند الناس أهمية القناعة بالأساسيات الحياتية من غذاء ودواء وأمن، متناسين لهو التكاثر، وغاب التباري بمظاهر الغنى والبذخ من لباس وحفلات الأعراس الداخلية والأخرى في الخارج، ومتابعة تبدلات الموضة، وطبقة حديثي النعمة (النوفوريش) والولائم الخاصة، أو الجماعية التظاهرية، وطلعات المطاعم الفخمة، وحشود جاهات وولائم الأعراس، ومواكب الصلحات العشائرية، جميعها صمتت أمام ضجيج حرب كورونا، وبهتت مشاهد المصفقين وحملة المباخر للمسؤول، مهما ثقلت أو خفت موازينه، وتلك منابت، ومن مظاهر مرض وإبتلاء المجتمعات عندنا بفيروس الأفلونزا (هو مصطلح من مقطعين Affluence وهو الرفاه، وVirus ، أي السلوك الاستعراضي الباذخ في الإنفاق المتباهي الناجم عن الترف)، وتوارى عن الساحة أغنياء الحروب ومسؤولي الصدفة والمترفين من متوارثي المناصب، ومالكي أموال السحت، واعداء النزاهة ومن والاهم «قفوهم إنهم مسؤولون»، فلم نر منهم مشاركة وتنافسا في الدفاع عن الأمة، إلا من عباد الله المصلحين. وبحمد الله فالأردن غنيٌ برجال ومؤسسات نقية في القطاع الخاص، وقد تنامت العودة للقيم السماوية وإلى ذكر سبيل الله. إننا بحاجة الى الصالحين والمصلحين والمزيد من القضاة العدول، ورجال الدين ذوي العلم، في دور العلم والعبادة، لإحياء وتجذير قيم السلوك السوي والعدالة والنظافة والطهارة بشتى معانيها في حياتنا.

“وفي خضم حرب كورونا القائمة، التهى العرب والمسلمون عن القدس والمقدسات وعن إخوتنا تحت الاحتلال، وعن عرب ومسلمين آخرين “.

وبين تلك المظاهر، تجد محزنا سماع أنباء وفاة لعزيز بدون مواكب للدفن، أو للعزاء، ومحزنٌ أن نرى صناعة التندر والفكاهة على الوضع، وفي غير موقعها، من قبل القلة، وترى محاولات الخروج على القانون ومنع التجوال من قلة بعضها متعلم، لكن تم كبحها بعصا القانون، تلك الهيبة التي نحن عطشى لها، وشاهدنا مبادرات مباركة تطوعية شبابية للعون للجيرة والمحتاجين للتزود بالطعام والدواء في الريف وبعض المدن، وعودة لحياة المنزل مع الوالدين وكبار السن، تلك التي بهتت، ومبادرات التدبير المنزلي للخبز وحسن إدارة المأكل والمشرب – آملين تجذر الابتعاد، ما أمكن، عن عادة تناول الوجبات السريعة المولدة لأمراض العصر من سمنة وأمراض القلب .

ويجب ألا نغفل في خضم هذه الأحوال عن الإعداد لمرحلة مقبلة قاسية بعد غروب حرب الفيروس، بإذن الله. فأمامنا تحدي النهوض والتكيف والاستمرارية ومواجهة تمويل عجوزات الدولة والأفراد المالية والاجتماعية، تلك المتوقع توسعها، وتحدي البطالة عند الشباب، خاصة بعد تدني إيرادات الدولة الضريبية وتصاعد الحاجة إلى الإنفاق على الدعم الأساسي، وتدني الاستثمار والتشغيل، فالحاجة إذن ماسة لخطة عاجلة قصيرة المدى بعيدة الرؤية للتكيف والنهوض، وحشد طواقم متخصصة لكل قطاع، وتفعيل العقل وحسن التدبير المالي الحكومي ورفع العصا على التهرب من المسؤولية الوطنية في دفع الضرائب، وإعادة هيكلة الضرائب المباشرة منها وغير المباشرة، بدون الميل الجامح على القطاع الخاص، فهو عصب الاقتصاد وفيه خير كثير، ومراجعة المديونية وعبئها الداخلي والخارجي، وجذب المعونة العربية العاجلة، وحشد الادخارات الوطنية لدى الأفراد والمصارف والدولة، وأبنائنا المغتربين، للتشغيل ومن خلال إصدار سندات حكومية وأوراق مالية مماثلة، مكفولة للتداول ترصد لمشاريع التكيف والنهوض، كما جرى في السبعينيات، وبعد احتلال الضفة الغربية للمملكة، والتهيؤ لوضع خطة محكمة لفتح أبواب سوق الأوراق المالية، التي أغلقت «كاملا» مؤخرا للمتعامل والمستثمر المحلي والمغتربين، بدون مبرر مقبول، في حين كان الأجدر إبقاء عمل سوق التداول والتسويات الإلكتروني عن بعد. ولابد الآن من جمع قيادات السوق من شركات خدمات ووساطة مالية خاصة، وتلك المملوكة للبنوك، لوضع خطوات عاجلة استعدادا لعودة السوق، ولعلاج تبعات الإغلاق، من عسر السيولة، وفتح مجال أكبر لتداول «أسهم الخزينة»، إنقاذا للشركات والمتعاملين والنهوض بالسوق .

إن وصف الحال الاجتماعي عندنا في الأردن، لا يختلف كثيرا عنه في بلدان شقيقة ومجاورة، فهم أيضا في تحد وبحاجة الى مراجعة لأحوالهم وتكيف وعلاج ونهوض. وفي خضم حرب كورونا القائمة، فقد التهى العرب والمسلمون عن القدس والمقدسات وعن إخوتنا تحت الاحتلال، وعن عرب ومسلمين آخرين، وانشغلوا بأمور السلامة، بدون سلم حقيقي وعدالة لإخوتنا في فلسطين والمنطقة، وأبعد من ذلك .إن أمتنا حية لا تهزمها نكبة أو نكبات. وإن للبيت رب ٌيحميه .

*وزير أردني سابق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى