#شوؤن عربية

د. إكرام محمد حامد: خريطة وتوازنات القوى الفاعلة في المشهد السوداني الداخلي وافاق تسوية الصراع

د. إكرام محمد حامد * 4-9-2023: خريطة وتوازنات القوى الفاعلة في المشهد السوداني الداخلي وافاق تسوية الصراع

د. اكرام محمد حامد

تُعد دولة السودان كغيرها من الدول النامية التي عانت، ومازالت تعاني حتى وقتنا الراهن من عدم اكتمال البناء الوطني، وعدم الاستقرار السياسي، والتدهور الاقتصادي. ولتوضيح خريطة توازنات القوى الفاعلة في المشهد السوداني الداخلي، لابد من فهم نشأة التركيبة السياسية الداخلية وتطوراتها في كل مرحلة زمنية؛ لأنها لا تزال تلازم المشهد السوداني وتسيطر على مجريات الأحداث فيه رغم التطور الذي صاحب ظهور قوى سياسية حديثة.

ومن الجدير بالذكر إن خريطة وتوازنات القوى الفاعلة في المشهد السوداني الداخلي تتأثر بسياسات العديد من القوى الإقليمية والدولية، وذلك خدمة لمصالحها واستراتيجيتها وأهدافها، في ظل التنافس بين تلك القوى على الموارد الكثيرة التي تحظي بها السودان، فضلًا عن مميزات موقعها الجيوستراتيجي، كدولة محورية لاستقرار القرن الأفريقي بل ووسط وشمال أفريقيا.

في سياق ما سبق تناقش هذه المقالة تطور خريطة القوى السياسية في السودان، وأبرز المحطات التي مرت بها، من أجل فهم أبرز القوى الراهنة المؤثرة في مشهد الصراع الدائر في السودان، وكشف الأوزان الحقيقية بينها، ثم محاولة فهم كيف يمكن أن تؤثر تطورات الحرب في صياغة معادلة وموازين القوى على الأرض على نحو يعيد ترتيب أوراق المشهد ويفرض رؤية الطرف المتقدم ميدانيًا على طاولة التفاوض، ثم مناقشة آفاق تسوية الصراع في ضوء المبادرات المطروحة لإنهاء الحرب، ومواقف القوى المؤثرة، وأطراف الصراع إزاءها، مع محاولة استشراف خريطة توازنات القوى الفاعلة في مرحلة ما بعد الحرب.

أولًا: تطور خريطة القوى السياسية

يمكن تناول تطورات الخارطة السياسية للتنظيمات والقوى السياسية الفاعلة في المشهد السياسي الداخلي في السودان على النحو التالي:

1 – قبل الاستعمار

انبثق عن مؤتمر الخريجين* ثلاثة تيارات رئيسية: أولهم، التيار الاستقلالي (السودان للسودانيين) ويمثله (حزب الأمة)، ثانيهم، التيار الاتحادي «وحدة وادي النيل» والذي يؤمن بالوحدة مع مصر، ويمثله (الحزب الوطني الاتحادي)، ثالثهم، الأحزاب العقائدية (الأيديولوجية)، وهي الإخوان المسلمين، والحزب الشيوعي، وحزب البعث العربي.

2 – بعد الاستقلال (1956 – 1964)

شملت القوى السياسية الفاعلة خلال هذه المرحلة الحزب الوطني الاتحادي، والذي انقسم لاحقًا إلى عدة أجنحة، وحزب الأمة.

3 – الفترة (1965 – 1969)

شهدت هذه المرحلة تبدل في موازين القوى السياسية؛ حيث تصدر حزب الأمة المشهد السياسي، وتراجع الحزب الاتحادي الديمقراطي (بسبب الانشقاقات) للمرتبة الثانية، كما عكسته  نتائج انتخابات عام 1965. كذلك ظهرت قوى فاعلة حديثة بعد ثورة 21 أكتوبر1964، تمثلت في الإخوان المسلمين الذين ظهروا تحت مسمى «جبهة الميثاق الإسلامي»، ثم حدث انشقاق حزب الأمة جناح الإمام الصادق المهدي، وجناح عمه الإمام الهادي، فضلًا عن تحالف جبهة الميثاق الإسلامي التي تدعو إلى الدستور الإسلامي لأول مرة في تاريخ السودان، مع الأحزاب والقوى التقليدية ضد أحزاب اليسار، وبناء على ذلك تم حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان عام 1967، وتزامن ذلك مع استمرار الحرب بالجنوب.

4 – الفترة (1969 – 1985)

وكرد فعل على حل الحزب الشيوعي، قام الحزب وبعض من القوميين العرب بتدبير انقلاب 25 مايو 1969 عبر جناحه العسكري داخل القوات المسلحة (كأول ظهور أيديولوجي بالجيش السوداني) واستمروا في تصدر المشهد السياسي السوداني حتى عام 1971؛ حيث تخلص منهم الرئيس جعفر نميري بعد انقلابهم عليه (انقلاب الرائد هاشم العطا في 19 يوليو 1971).

على صعيد آخر أنجزت حكومة نميري اتفاقية الوحدة الوطنية في عام 1972، التي أوقفت الحرب بالجنوب، وحققت استقرارًا سياسيًا مصحوبًا بتنمية اقتصادية كبرى في مختلف مناطق السودان، وقد استمر ذلك لمدة عشرة سنوات، أما على صعيد الأحزاب، فقد تحولت جميعها إلى جهة المعارضة، وقامت بمحاولات عديدة سلمية وعسكرية -سرية وعلنية- وكانت أخطرها المحاولة العسكرية للجبهة الوطنية المتحدة عام 1976، التي تكونت من تحالف يضم كل من: حزب الأمة بقيادة الصادق المهدي، والحزب الاتحادي بقيادة الشريف حسين الهندي، والحركة الإسلامية بقيادة دكتور حسن عبدالله الترابي، لإسقاط الحكومة بدعم خارجي خاصة من النظام الليبي، لكنها فشلت في العودة للمشهد السياسي.

وفي عام 1977 تمت المصالحة الوطنية بين حكومة نميري، وبعض فصائل الجبهة الوطنية المتحدة (حزب الأمة بقيادة الصادق المهدي)، بينما رفض الشريف حسين الهندي المصالحة، أما الحركة الإسلامية بقيادة دكتور حسن عبدالله الترابي فقد كانت الأكثر استفادة من المصالحة؛ حيث دخلت في حوارات مع حكومة نميري، وتمخض عنها إعلان تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية (المعروفة بقوانين سبتمبر 1983)، وجاء مشاركتها في حكومة نميري من أجل تحقيق هدف استراتيجي بعيد المدى يتمثل في تمكنها وتغلغلها في مفاصل الدولة سياسيًا، واقتصاديًا، واجتماعيًا، والدليل على ذلك ظهورها كقوى فاعلة وكطرف ثالث في المشهد السياسي بعد حزب الأمة، والحزب الاتحادي الديمقراطي في انتخابات عام 1986، بينما تصدر مشهد الخسارة الحزب الشيوعي.

في عام 1983 ألغت حكومة نميري تطبيق اتفاقية الوحدة الوطنية التي تمت في عام 1972، مما تسبب في تجدد الحرب بالجنوب، وظهور الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة دكتور «جون قرنق دي مابيور». وتزامن كل ذلك مع تدهور الوضع الاقتصادي بصورة كبيرة مع اشتداد قوة المعارضة، الأمر الذي قاد لانتفاضة 6 أبريل 1985، والتي انحازت فيها القوات المسلحة للثورة الشعبية، ثم جاءت حكومة الفترة الانتقالية بقيادة عبدالرحمن محمد حسن سوار الذهب، التي استمرت لعام واحد أنجزت فيه الانتخابات التي تصدرها حزب الأمة القومي، ثم الحزب الاتحادي الديمقراطي، في حين حلت ثالثًا الحركة الإسلامية. وقد اتسمت تلك الفترة بتعدد الحكومات الائتلافية والخلافات السياسية مع الوضع الاقتصادي المتدهور أصلًا والحرب الاستنزافية المتواصلة بضراوة بالجنوب.

5 – الفترة ( 1989 – 2019)

في 30 يونيو 1989 تمكنت الحركة الإسلامية بقيادة دكتور حسن عبدالله الترابي، من تدبير انقلاب عبر جناحها العسكري داخل القوات المسلحة، ومثل ذلك ثاني ظهور أيديولوجي بالجيش السوداني. وقد شهدت تلك الفترة عدة تغيرات وتبدلات في خريطة توازنات القوى السياسية؛ فبينما كانت تسيطر على المشهد السياسي الحركة الإسلامية (المؤتمر الوطني) في العشرة سنوات الأولى، فإن الأحزاب الأخرى اتجهت نحو المعارضة، مع استمرار الحرب بالجنوب. كذلك بدأت مفاوضات الحكومة السودانية والفصائل المنشقة من الحركة الشعبية لتحرير السودان، (فصيل دكتور لام أكول، فصيل دكتور رياك مشار، فصيل كاربينو كوانين) والتي تُوجت باتفاق سلام من الداخل عام 1997، وشاركوا بنسب متفاوتة في الحكومة.

6 – الفترة (1999 – 2005)

شهدت تلك الفترة العديد من التطورات المهمة، يأتي في مقدمتها انشقاق الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني)، وظهور المعارضة بصورة قوية ممثلة في التجمع الوطني الديمقراطي بالتحالف مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، كذلك شهدت تلك الفترة ظهور حركات دارفور المسلحة (حركة جيش تحرير السودان بقيادة عبدالواحد محمد نور، وحركة العدل والمساواة بقيادة دكتور خليل إبراهيم)، كذلك، بدأت مفاوضات الحكومة السودانية، والحركة الشعبية لتحرير السودان.

7 – الفترة (2005 – 2011)

شهدت هذه الفترة تكوين المعارضة لقوى الإجماع الوطني في سبتمبر 2009 الذي يتزعمه فاروق أبو عيسى، وهو تكتل الأحزاب المعارضة في السودان والذي يعارض توجهات النظام ويضم 17 حزبًا معارضًا. تم توقيع اتفاقية السلام الشامل بنيفاشا في عام 2005، وبموجبها تم تدشين شراكة بين حزب المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم)، والحركة الشعبية لتحرير السودان، بنسب وتوازنات لحكم الشمال والجنوب ومنح حكم ذاتي للجنوب، على أن يتم إجراء استفتاء بعد ست سنوات بهدف الاستمرار مع الشمال في ظل الدولة السودانية الموحدة أو الانفصال وتكوين دولة جديدة.

في عام 2006 انشقت حركة جيش تحرير السودان بقيادة عبدالواحد محمد نور، إلى حركة جيش تحرير السودان جناح مني أركو مناوي التي وقعت لاحقًا مع الحكومة اتفاق سلام بأبوجا، وعين على إثرها كبير مساعدي رئيس الجمهورية لكنه ما لبث أن تمرد مرة أخرى، وخرج من السلطة. واستمرت المعارضة، وشهدت انقسامات عديدة بين صفوفها. وفي عام 2010 شهدت البلاد انتخابات أسفرت عن فوز الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني) بالسلطة.

8 – الفترة (2011 – 2015)

تمثل أبرز حدث سياسي خلال تلك الفترة في إجراء استفتاء بناءًا على اتفاقية السلام عام 2005، والذي أسفر عن خيار انفصال الجنوب بنسبة كبيرة، وتكوين دولة جديدة. وقد ظل حزب المؤتمر الوطني متصدرًا المشهد السياسي والسلطة، أما قوى الإجماع الوطني فبقيت كمعارضة مدنية، وظهرت الجبهة الثورية 2011، والتي تتكون من الحركة الشعبية بقيادة مالك عقار، وحركة العدل والمساواة بقيادة دكتور جبريل إبراهيم، وبعض القوى المدنية.

فضلًا عما سبق، تم توقيع اتفاقية الدوحة للسلام عام 2011 بين الحكومة السودانية، وحركة التحرير والعدالة بقيادة دكتو التيجاني سيسي، والأستاذ بحر إدريس أبو قردة، والتي بموجبها حصلت الحركة على نسب مقدرة من السلطة في الخرطوم وولايات دارفور، وذلك قبل أن تنقسم وتتحول إلى حزبين: الأول، حمل اسم حزب التحرير والعدالة القومي بقيادة دكتور التيجاني سيسي، والثاني، اسم حزب التحرير والعدالة بقيادة الأستاذ بحر إدريس أبو قردة.

في شهر سبتمبر2013 نظمت القوى السياسية المعارضة احتجاجات شعبية في ولاية الخرطوم، وعددت أسباب تحركها لأسباب مباشرة، تمثلت في رفع الدعم عن المحروقات الذي اتخذته الحكومة طبقًا لمواصفات وإملاءات صندوق النقد الدولي، والتي أثرت بدورها في الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي المتدهور أصلًا لإسقاط الحكومة، فضلًا عن أسباب غير مباشرة، تمثلت في غياب المشاركة السياسية، وتقييد الحريات وغياب العدالة، وقد تميزت تلك الحركة الاحتجاجية بعدم وجود قيادة مركزية تنظيمية.

في 6 يناير2013 قامت الأحزاب والقوة السياسية المختلفة بتوقيع ميثاق الفجر الجديد، بمدينة كمبالا في أوغندا، والذي شارك فيه الجبهة الثورية ممثلة في الحركة الشعبية، وحركات دارفور، وقوى الإجماع الوطني «حركة حق والمؤتمر الشعبي والحزب الاتحادي وحزب الأمة القومي». ثم أعلن الرئيس عمر البشير -آنذاك- في يناير 2014 خطاب الوثبة في محاولة للحل السياسي دعا فيه الشعب السوداني إلى «وثبة وطنية شاملة»، وإجراء حوار وطني عريض لا يستثني أحدًا، حيث كان من أبرز الحضور من قادة المعارضة السيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي، ودكتور حسن الترابي رئيس المؤتمر الشعبي، ودكتور غازي صلاح الدين رئيس حركة الإصلاح الآن المنشقة عن المؤتمر الوطني.

وفي أغسطس 2014 تم إعلان باريس الذي جمع المعارضة السودانية لإسقاط الحكم في السودان. وقد وقعه الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي، ومالك عقار رئيس الجبهة الثورية السودانية، وكان الهدف منه توحيد قوى التغيير في السودان من أجل وقف الحرب، وبناء دولة المواطنة والديمقراطية.

في ديسمبر 2014 ظهرت قوى نداء السودان، وهي عبارة عن تحالف سياسي يضم قوى سياسية مدنية وقوى سياسية معارضة، بزعامة كل من: الصادق المهدي رئيس حزب الأمة، وقوى الإجماع الوطني، والحركة الشعبية (قطاع الشمال(، وحزب المؤتمر السوداني، والجبهة الثورية، وحزب البعث السوداني.

ثم أعلنت الحكومة في شهر أكتوبر2015، برنامج الحوار الوطني الشامل كحل سياسي ونقطة إصلاح شامل ومتقدم ومعترف بالآخرين (كل القوى السياسية والحركات المسلحة والإدارات الأهلية)، مع ضمانات لسلامة كل القوى المعارضة بالداخل والخارج للمشاركة. كذلك حدث توافق سياسى، وإجراء الانتخابات في عام 2015، والتي فاز فيها حزب المؤتمر الوطني، وتم بموجبها تشكيل حكومة سُميت بحكومة «القاعدة العريضة»، والتي استمرت حتى عام 2019 قبل سقوط نظام البشير.

ثانيًا: القوى السياسية وترتيبات المرحلة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر 2018

اندلع في شهر سبتمبر 2018 انفجارًا شعبيًا، واحتجاجات جماهيرية قوية في كل مدن السودان بتحريك من القوى السياسية المعارضة عبر واجهات سياسية ومسميات مختلفة وقيادات ميدانية ونقابية، أدارت ونظمت الاحتجاجات الجماهيرية تحت مُسمى «تجمع المهنيين» الذي قاد أول مظاهرة في 24 ديسمبر 2018، ثم تطور وأصبح «قوى الحرية والتغيير» في الأول من يناير2019، وهو عبارة عن تحالف سياسي عريض يجمع ما بين قوى سياسية مدنية – بما فيها بعض من أنصار الحكومة بمختلف تحالفاتها- ونقابات مهنية. وتشكلت قوى الحرية والتغيير من تجمع المهنيين، والتجمع الاتحادي المعارض، وقوى نداء السودان وحركات مسلحة، وأحزاب سياسية بقيادة حزب الأمة، وقوى الإجماع الوطني، وقوى اليسار متمثلة في الحزب الشيوعي بأجنحته المختلفة، والقوميين العرب، ناصريين وبعثيين، والقوى المدنية.

تدخلت اللجنة الأمنية التي تكونت من الأجهزة النظامية المختلفة (القوات المسلحة، وقوات الدعم السريع، وقوات الشرطة، والمخابرات العامة) وتم الانحياز للشعب، وإسقاط الحكومة في 11 أبريل 2019.
ومن الجدير بالملاحظة أن الفترة (2019-2022) شهدت عددًا من التطورات، جاء في مقدمتها تغيير أعضاء المجلس العسكري الانتقالي عدة مرات استجابة للاحتجاجات والمطالب الشعبية، ولتوازنات القوى العسكرية؛ حيث تم نقل القيادة للفريق أول

ركن عبدالفتاح البرهان لتشكيل المجلس العسكري الانتقالي. ويذكر أن الفترة من أبريل إلى أغسطس 2019 تولى خلالها المجلس العسكري الانتقالي السلطة منفردًا. وفيما يلي يمكن توضيح أبرز ترتيبات المرحلة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر2018.

1 – الوثيقة الدستورية أغسطس 2019

جرت مفاوضات مضنية وطويلة، ووساطات أجرتها دول ومنظمات إقليمية ودولية، بين المجلس العسكري الانتقالي، وقوى الحرية والتغيير، أسفرت عن توقيع الوثيقة الدستورية التأسيسية في 17/8/2019؛ لتكون المرجعية الدستورية والقانونية للفترة الانتقالية بالسودان؛ حيث نصت على صيغة لتقاسم السلطة المؤقتة بتشكيل المجلس السيادي بعضوية عسكرية ومدنية من عشرة أعضاء برئاسة الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، وخمسة من المكون العسكري، وخمسة من قوى الحرية والتغيير، بالإضافة إلى عضو مسيحي لترجيح الكفة في حالة حدوث خلاف؛ هي الأستاذة رجاء عبدالمسيح نيكولا.

إلى جانب ذلك تم الاتفاق على تشكيل حكومة مدنية لمدة 39 شهر، تتولى إدارة الفترة الانتقالية الأولى بقيادة دكتور عبدالله حمدوك (سميت بحكومة الكفاءات) مع احتفاظ القوات المسلحة بتعيين وزيري الدفاع والداخلية، واستبعاد قوى الجبهة الثورية، يتم الدعوة بعدها لانتخابات عامة، إلى جانب معالجة قضية السلام مع الحركات المسلحة خلال ستة أشهر من توقيعها، وقد قسمت الحكومة مهامها إلى برامج عمل وملفات، تمثلت في: ملف الإصلاح العسكري الأمني، وملف السلام، وملف إصلاح الخدمة المدنية الذي نتجت عنه لجنة إزالة نظام 30 يونيو 1989، وسعت تلك الحكومة لتحسين الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية.

2 – اتفاق سلام جوبا

جاء اتفاق السلام الذي وقعته الحكومة الانتقالية مع تنظيمات الجبهة الثورية التي تضم ١٤ حركة مسلحة وقوى مدنية، في بداية شهر أكتوبر2020، بعد أشهر طويلة من التفاوض مع تلك الحركات، برئاسة الفريق حميدتي، مع غياب أهم فصيلين للحركات المسلحة هما: الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال بقيادة عبدالعزيز الحلو، وحركة جيش تحرير السودان بقيادة عبدالواحد محمد نور، لفشل محاولات التفاوض معهم.

وضمت الاتفاقية 8 بروتوكولات متعلقة بإقليم دارفور، وواحدًا خاصًا بمنطقتي النيل الأزرق، وجنوب كردفان، إلى جانب بروتوكولات خاصة بشرق ووسط وشمال السودان، وأقرت الاتفاقية إشراك أطراف السلام من المعارضة المسلحة في جميع مستويات السلطة الانتقالية، ودمج قوات الحركات في الجيش السودانى، وفق بروتوكول الترتيبات الأمنية، إلى جانب تعويض ضحايا الحرب وإعادة توطين النازحين واللاجئين، وبموجب الاتفاق تمت إعادة تشكيل مجلس السيادة ومجلس الوزراء ليستوعب القادمين الجدد؛ حيث انضم إلى مجلس السيادة السوداني ثلاثة أعضاء جدد في مارس 2021، هم: مالك عقار إير، والدكتور الهادي إدريس يحيى، والطاهر أبو بكر حجر.

وقد نتج عن اتفاقية سلام جوبا تكوين حكومة دكتور عبدالله حمدوك الثانية؛ حيث تم تشکيل حکومة جديدة وفق نظام المحاصصة والذي منح الفصائل المسلحة خمسة حقائب وزارية من أصل خمس وعشرين حقيبة تضمنتها الوزارة الجديدة. وأسفر هذا التوزيع الجديد للمناصب الوزارية عن تولي دكتور جبريل إبراهيم قائد حرکة العدل والمساواة منصب وزير المالية والاقتصاد الوطني. وتم تعيين السيد منى أركو مناوي حاكم لإقليم دارفور؛ حيث احتفظ المكون العسكري بمسمياته في تشيكل مجلس السيادة، بينما تبدلت مسميات المكون المدني. وفي مارس 2021 أصدر رئيس مجلس السيادة السوداني مرسومًا دستوريًا بإنشاء نظام الحکم الإقليمي.

اتسمت هذه الحكومة بأنها حكومة محاصصات حزبية وحركات مسلحة، وشهدت تجاذبات ومناكفات كثيرة وصراع قوي بين قوى الحرية والتغيير مع مجموعات اتفاق سلام جوبا، بسبب خلاف على علو اتفاق سلام جوبا على الوثيقة الدستورية وفقًا لنص اتفاق سلام جوبا، ثم أدى ذلك الخلاف إلى تكوين قوى الحرية والتغيير (الكتلة الديمقراطية)، وسُمي الطرف الأخر قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي).

تحالفت قوى الحرية والتغيير (الكتلة الديمقراطية) ودعمت المكون العسكري بشقيه (القوات المسلحة وقوات الدعم السريع) وصولًا إلى الاعتصام أمام القصر الجمهوري والمطالبة بإسقاط الحكومة، مع ملاحظة انضمام أحزاب أخرى وجماهير الحكومة السابقة بمسمياتهم المختلفة؛ الطرق الصوفية، والإدارات الأهلية.

في 6 يوليو 2022 أصدر رئيس مجلس السيادة الانتقالي، مرسومًا دستوريًا بإعفاء خمسة من أعضاء مجلس السيادة المدنيين، من مناصبهم بالقصر الرئاسي، ولم يشمل قرار الإقالة أعضاء مجلس السيادة من منسوبي الحركات المسلحة. وذلك بعد قرار المؤسسة العسكرية بعدم المشاركة في المفاوضات التي تسيرها الآلية الثلاثية لدعم المرحلة الانتقالية في السودان، وذلك بغرض إتاحة الفرصة للقوى السياسية الوطنية.

تحت ذلك الضغط أعلن رئيس مجلس السيادة عن سلسلة من القرارات أبرزها حل مجلسي السيادة والوزراء وإعلان حالة الطوارئ، وتشکيل حکومة جديدة تقوم على الکفاءات، وإجراء الانتخابات العامة في يوليو 2023 مع إقرار التمسك باستمرار الوثيقة الدستورية واتفاق سلام جوبا كمرجعيات رئيسية، والتحفظ على رئيس الوزراء، مع احتفاظ القوى السياسية الموقعة على اتفاق سلام جوبا بمناصبها الوزارية.

ورغم أن قائد قوات الدعم السريع قد شارك بفعالية في قرارات 25 أكتوبر2021، إلا إنه تقارب بعد ذلك وتحالف مع قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، هذا مع استمرار الاحتجاجات في الشارع بين مؤيد ومعارض لتلك القرارات، وتوظيف الطرفين لتلك الاحتجاجات، كذلك شهد تجمع المهنيين انشقاقا، وفقد قوته وحيويته، مع استمرار مشكلة غلق مجلس نظارات البجا لإقليم شرق السودان بموانئه البحرية والجوية وطرقه القومية والدولية.

وفي ظل ذلك الوضع ظهرت الدعوات للحوار السياسي من جانب أطراف إقليمية ودولية، فكانت المفاوضات التي قادها المبعوث الأممي فولكر والآلية الثلاثية، التي شملت المجلس العسكري وبعض القوى الوطنية وقوى الحرية والتغيير (الكتلة الديمقراطية)، وقاطعتها قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، وفشلت نتائجها.

وفي 10 سبتمبر 2022 ظهر ما يعرف بوثيقة المحامين كنواة للدستور المقترح لكي يتم التوافق حولها، إلا أنه لم تشارك فيه معظم المكونات المدنية؛ حيث ازداد الصراع بين قوى الحرية والتغيير بجناحيها، حول تمسك قوى الحرية والتغيير (الكتلة الديمقراطية) بالوثيقة الدستورية، وتمسك قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) بوثيقة المحامين. ثم ظهرت مبادرة «نداء السودان» التي أطلقها الشيخ الطيب الجد التي تحظى بتأييد أنصار قرارات 25 أكتوبر2021، ورفض قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي).

في 10 نوفمبر2022 أعلنت الآلية الثلاثية الدولية (الأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي، والإيجاد)، عزمها إطلاق جولة جديدة من «المشاورات المباشرة، وغير المباشرة « بين المكونات السياسية والعسكرية السودانية. واختارت الآلية مسودة مقترح لجنة تسيير نقابة المحامين للتسوية، وحازت مضامينها بالقبول المبدئي من جانب المكون العسكري وقوى المجلس المركزي للحرية والتغيير، بينما رفض عدد من القوى المحلية الأخرى الاعتماد على المسودة كمرجعية تفاوضية وحيدة. انسحب المكون العسكري من «الآلية الثلاثية للحوار» من المشهد السياسي وتركه للقوى السياسية كافة، وشدد على ضرورة توحدها للوصول للحل الشامل.

وهنا جاء التدخل وظهور ما يعرف بالرباعية الدولية المكونة من: الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، والسعودية والإمارات، والإعلان عن حوار يجمع بين قوى الحرية والتغيير(الكتلة الديمقراطية)، و(المجلس المركزي)، بمنزل السفير السعودي بالخرطوم، وكانت أهم نتائجه عودة المؤسسة العسكرية للمشهد السياسي بناءًا على الموافقة على وثيقة المحامين. إلا أن قوى الحرية والتغيير (الكتلة الديمقراطية) رفضت وثيقة المحامين، كذلك رفض معظم الأحزاب السياسية الأخرى بما فيهم التيارات الإسلامية بمسمياتها المختلفة، وكل المعتصمين بالقصر قبل قرارات 25 أكتوبر.

ثالثًا: المشهد السياسي بعد الاتفاق الإطاري في 5 ديسمبر2022 وصولًا لاندلاع الحرب

جاء الاتفاق الإطاري برعاية الآلية الرباعية (بريطانيا، والولايات المتحدة، والإمارات، والسعودية) ودعمته الآلية الثلاثية (الأمم المتحدة، ومنظمة الإيجاد، والاتحاد الأفريقي)، ولقد حدد خمس قضايا يتم التوافق عليها لإبرام اتفاق نهائي بين الأطراف تشمل قضايا العدالة الانتقالية، وإصلاح المؤسسات العسكرية والأمنية، وقضية تفكيك نظام 30 يونيو 1989، وقضية شرق السودان، وقضية إعادة تقييم اتفاق جوبا للسلام، مع وجود بعض المسائل العالقة.

وقد انقسمت المواقف حول الاتفاق ما بين داعمين ورافضين؛ فبالنسبة للداعمين: المؤسسة العسكرية بشقيها القوات المسلحة، وقوات الدعم السريع، والأحزاب المكونة لقوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) بشكل منفرد وليست ككتلة موحدة، وبعض أعضاء من حزب المؤتمر الشعبي المعارض. أما الرافضين، فهم كل الأحزاب المكونة لقوى الحرية والتغيير (الكتلة الديمقراطية)، والحركات المسلحة غير الموقعة على اتفاقية سلام جوبا، والتيار الإسلامي العريض، والبعثيين والشيوعيين، وتجمع المهنيين، والقوى الوطنية الأخرى. فيما تحفظ حزب البعث العربي الاشتراكي.

ومن الجدير بالذكر أن قوات الدعم السريع وقيادتها كانوا من أكثر المتمسكين بشدة بالاتفاق الإطاري، ولكن جاء الخلاف في المدى الزمني لدمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة، وفي بعض الأمور الفنية الأخرى. ثم تطور الخلاف داخل المكون العسكري والذي أدى إلى اندلاع الحرب بين القوات المسلحة، وقوات الدعم السريع في 15 أبريل 2023.

وفيما يلي يمكن تناول تطورات الحرب على الصعيدين العسكري والسياسي.

1 – عسكريًا (انتقال ساحة المواجهة خارج الخرطوم)

تشتد المواجهة بين الجيش السوداني، والدعم السريع في مدن الخرطوم الثلاث، وفي مختلف المحاور، وذلك في إطار خطة للقوات المسلحة السودانية لتكثيف الضغط على قوات الدعم السريع، في ضوء أهمية مدينة أم درمان بوصفها القاعدة التي تلتقي فيها خطوط الإمداد والعتاد القادمة من دارفور وبعض دول الجوار، فضلًا عن أنها تحتضن قاعدة وادي سيدنا الجوية ومنطقتي وادي سيدنا العسكرية، ومنطقة أم درمان العسكرية بسلاح المهندسين والمدفعية والصواريخ أرض أرض التابعة للجيش.

وعلى الرغم من المبادرات المجتمعية لبسط الأمن، فقد كانت الجنينة -عاصمة ولاية غرب دارفور- مسرحًا للاشتباكات إلى جانب نيالا في جنوب دارفور، وزالنجي في وسط دارفور، وكتم، والفاشر في الشمال. مما جعل دارفور تتصدر المناطق التي تشهد تصاعدًا في أعداد القتلى والنازحين، خاصة إلى تشاد في ظل ظروف إنسانية صعبة.

وفي منطقة النيل الأزرق، وجنوب كردفان عادت الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبدالعزيز الحلو، للدخول على خط المواجهة مع القوات المسلحة والسيطرة على أربع مناطق بالولاية، رغم اتفاق وقف إطلاق النار الذي وقعته الحركة مع الحكومة السودانية منذ ثلاث سنوات.

ويبدو أن خطة القوات المسلحة في العاصمة الخرطوم، كانت عبارة عن معركة لاستنزاف وتدمير القدرات القتالية لقوات الدعم السريع بالتدريج، قد نجحت في ظل الفارق الكبير في تواجد قوات الدعم السريع بالخرطوم عند بداية الحرب في 15 أبريل 2023 (والذي يُقدر بأكثر من 50 ألف جندي من الدعم السريع مقابل 13 ألف جندي من القوات المسلحة)، بما يعيد صياغة المعادلة وموازين القوى على الأرض على نحوٍ يعيد ترتيب أوراق المشهد، ويفرض رؤية الطرف المتقدم ميدانيًا على طاولة التفاوض.

وفي ظل هذه الرؤية، تصاغ كافة التفاعلات السياسية والمجتمعية، فيما عملت قوات الدعم السريع على الاصطفاف القبلي والجهوي كأحد الأدوات التي توظفها ضد القوات المسلحة لإعادة صياغة المعادلة؛ مما يعني دخول القبائل على خط المواجهة. الأمر الذي قابلته القوات المسلحة بدعوة الشعب للانخراط في معسكرات التدريب دفاعًا عن كرامتهم وأعراضهم.

2 – سياسيًا (مواقف القوى السياسية)

يمكن تناول مواقف القوى السياسية بشأن تطورات الصراع الراهن فيما يلي:

أ- القوى السياسية الموقعة على الاتفاق الإطاري

 لم تدين تلك القوى كافة الانتهاكات التي قامت بها قوات الدعم السريع؛ حيث لزمت الصمت والاختفاء من المشهد تمامًا، كنوع من الاستهلاك السياسي، لكن سرعان ما بدأت تبحث عن دور في حل الأزمة وممارسة ضغوط على الخارج، وإشراك القوى المدنية في الحلول حتى لا يتم عسكرة المجال العام، خاصة مع الانتقادات التي تعرضت لها جراء صمتها، وعمل جزء منها كحواضن سياسية لقوات الدعم السريع.

وقد أجمعت تلك القوى على ضرورة الحل السياسي، والعودة للمسار الانتقالي المتعثر، من خلال مبادرات تعلن عنها الأحزاب والقوى المختلفة. وقد بدأ وفد من القوى السياسية والمدنية جولة إقليمية ضم كلًا من: نائب رئيس حزب المؤتمر السوداني خالد عمر يوسف، والقيادي في الحزب الاتحادي الديمقراطي -الأصل إبراهيم الميرغني، ورئيس الحركة الشعبية- التيار الثوري الديمقراطي ياسر عرمان، والقيادي في التجمع الاتحادي وعضو مجلس السيادة السابق محمد الفكي سليمان، ووزير العدل السابق نصر الدين عبدالباري، وعضو المجلس السيادي السابق محمد حسن التعايشي، ورئيس تجمع قوى تحرير السودان الطاهر حجر، ورئيس الجبهة الثورية الهادي إدريس، وممثل تجمع المهنيين طه إسحاق. وشملت هذه الجولة كلًا من: أوغندا، وتشاد، ومصر، وجنوب السودان، والسعودية.

ب- القوى السياسية غير الموقعة على الاتفاق الإطاري

فيما يخص إقليم دارفور، دعا حاكم الإقليم إلى تجميع المبادرات الوطنية في مبادرة واحدة تبدأ بوقف إطلاق النار وتشكيل حكومة تصريف أعمال، على أن تتزامن المفاوضات بين طرفي الصراع مع العملية السياسية الدستورية، وهو جزء من المواقف التي تتبناها القوى المدنية والمسلحة كافة لاستعادة الاستقرار في البلاد. وبالنسبة لموقف بقية حركات سلام جوبا، فقد لزمت حركتا العدل والمساواة (جبريل إبراهيم) الحياد حيال الصراع العسكري الدائر، واكتفى بعض القادة الميدانيين بحماية القرى.

أضف إلى ما سبق، هنالك العديد من الحركات التي لا تزال خارج إطار سلام جوبا، ولعل من أهم وأكبر الحركات المسلحة التي رفضت اتفاق سلام جوبا، حركة تحرير السودان (فصيل عبدالواحد نور)، ووصفته بأنه غير عادل. ويظل موقف الحركات من الانخراط في الصراع الدائر رهنًا للدوافع القبلية والمناطقية، فضلًا عن الظروف السياسية والعسكرية، خاصة بمن ستؤول إليه الغلبة، قبل الدخول في عملية سياسية، وهنالك من ينتظر الفرصة المناسبة لتحقيق المصالح، الأمر الذي يمكن أن يُفاقم من الصراعات المستقبلية في دارفور.

وفيما يخص رؤية تحالف سودان العدالة (تسع) برئاسة الدكتور بحر إدريس أبو قردة، تتمثل في ضرورة ووجوب الوقوف مع الجيش لمعالجة التحدي الوجودي للبلاد، في هذه المرحلة حفاظًا على كيان الدولة السودانية.

أما بالنسبة لموقف بقية القوى السياسية غير الموقعة على الاتفاق الإطاري؛ فقد عبرت قوى إعلان الحرية والتغيير (الكتلة الديمقراطية) التي تضم حركات مسلحة وقوى سياسية مدنية أخرى، بالإضافة إلى الحزب الشيوعي، ولجان المقاومة (ناشطون)، وتجمّع المهنيين السودانيين عن موقفها الرافض للحرب، ولكن سرعان ما تغير موفقها لصالح الجيش السوداني بعد ارتكاب قوات الدعم السريع العديد من الجرائم.

رابعًا: المبادرات الإقليمية والدولية وآفاق تسوية الصراع الراهن

 في ظل الأوضاع الإنسانية التي تتفاقم بصورة مخيفة، وفي ظل استمرار الصراع ومحدودية الاستجابة الإنسانية، تبلورت مواقف القوى الإقليمية والدولية من تسوية الصراع في شكل مبادرات مقترحة لتسوية الأزمة، يمكن توضيحها على النحو التالي:

1 – مبادرة جدة

تمثل مبادرة جدة أولى مبادرات العمل على وقف إطلاق النار وتيسير وصول المساعدات الإنسانية كخطوة نحو إطلاق عملية سياسية وتسوية شاملة؛ حيث انعقدت في جدة بالمملكة العربية السعودية منذ الأسبوع الثاني من الصراع، برعاية ووساطة كل من الرياض، وواشنطن.

ومن الجدير بالذكر إن المبادرة لم تنص من بين بنودها على وقف إطلاق النار؛ حيث تضمنت البنود التالية:

– العمل على تسهيل وصول المساعدات الإنسانية الطارئة.

– استعادة الخدمات الأساسية ووضع جدول زمني لمفاوضات موسعة للوصول لوقف دائم للأعمال العدائية.

– مراجعة إعلان التزام بحماية المدنيين وتيسير واحترام العمل الإنساني في السودان.

– مناقشة الإجراءات الأمنية التي يجب اتخاذها من أجل تسهيل وصول المساعدات الإنسانية العاجلة.

– استعادة الخدمات الضرورية بما يتفق وإعلان المبادئ.

ومن ثم لم تسفر تلك المبادرة عن كبح جماح الحرب الدائرة؛ لعدم وجود آليات لمراقبة التنفيذ. فحينما اقترحت الوساطة الأمريكية السعودية هدنة لوقف إطلاق النار ظلت تتجدد لكن كان الالتزام من طرف واحد، وهو الجيش، فيما استثمرت قوات الدعم السريع الهدن المتكررة في ارتكاب الانتهاكات ضد المدنيين والتوسع والانتشار، ولم تلتزم بوقف الانتهاكات التي تصنّف جرائم حرب، مثل احتلال المستشفيات، واختطاف الكوادر الطبية وقتلها، واحتلال منازل المواطنين وطردهم منها.

2 – مبادرة دول الإيجاد

تكونت لجنة رباعية من قادة كل من: كينيا، وإثيوبيا، وجنوب السودان، وجيبوتي، وترأسها الرئيس الكيني «وليم روتو»، وهدفت إلى متابعة وقف إطلاق النار، ووصول المساعدات الإنسانية، كما سعت إلى طرح مبادرة للتسوية السياسية تبدأ بعقد لقاء مباشر بين رئيس مجلس السيادة وقائد الدعم السريع، على أن تنطلق عملية سياسية شاملة بإشراك القوى المدنية، لكن ظهرت مخرجات اللجنة بتدويل الأزمة السودانية عبر تدشين تنظيم قوة تدخل إقليمية لمنع عسكرة الخرطوم وحماية المدنيين، والتعاون مع الولايات المتحدة، والمملكة العربية السعودية لترتيب لقاء يجمع بين كل من البرهان وحميدتي، من أجل تأمين وقف مستدام لإطلاق النار، وبدء عملية سياسية شاملة بهدف تمكين القوى السياسية المدنية (قوى الحرية والتغيير المركزي) من التأثير بشكل كبير خلال المفاوضات، كجزء من الجهود المبذولة لاستعادة مسار السودان إلى الديمقراطية.

وقد لاقت المبادرة تحفظًا من قبل الحكومة السودانية وقاطعتها بالغياب عن الاجتماعات، لعدم احترام رأيها الرافض لرئاسة رئيس كينيا للجنة، والذي تتهمه بعدم حياديته.

وقد تمثلت ملاحظات الحكومة السودانية، في النقاط التالية:

– لم يذكر بيان الإيجاد جرائم الدعم السريع في القتل والنهب والاغتصاب، وغضوا الطرف عن جحافل المرتزقة الذين ظلوا يتسللون من دول غرب أفريقيا.

– ساوى بيان الإيجاد بين الجيش الوطني، وقوات الدعم السريع كفئة تمردت عليه.

– لم يوضح بيان الإيجاد أن من نهب الدبلوماسيين ومقار بعثاتهم هم الجنجويد (الدعم السريع)، رغم علمهم ومعرفتهم بذلك.

– أشار بيان الإيجاد لغياب السودان، دون الإشارة لأسباب ذلك الغياب.

– لم يشجب بيان الإيجاد منع المنظمات الإنسانية وخروقات حقوق الإنسان.

– طالب بيان الإيجاد بإخلاء الخرطوم من سلاح جيش الدولة، وحظر الطيران، ولم يخاطب البيان السودان كدولة ذات سيادة.

– لم يتحدث عن انتخابات، ولا عن أهلية وتعريف من يصفهم بأصحاب المصلحة.

– الدعوة إلى تدخل دولي قوامه قوة شرق أفريقيا EASF، وهي القوة المسماة East Africa Stand by Force وتُعد واحدة من خمسة أفرع في القارة تتبع لمجلس الأمن والسلم الأفريقي. وبنص اتفاقية تشكيلها فإنها لا تستطيع أن تتدخل دون موافقة الدولة المعنية. ومن المعروف والثابت أن من ينتدب نفسه لحل مشكلة أو يتوسط لإنهاء الصراع يبتغي الإنصاف؛ حيث جاءت تصريحات رئيس كينيا، ورئيس وزراء أثيوبيا لتزيد الموقف تأزمًا. فقد صرح الرئيس الكيني وليام روتو أن :»الوضع في السودان يتطلب بشكل عاجل قيادة جديدة تكون قادرة على إخراجه من الكارثة الإنسانية». بينما صرح رئيس وزراء أثيوبيا أبي أحمد أن: «السودان يُعاني فراغًا في القيادة، ويجب ألّا نقف مكتوفي الأيدي، فالعواقب وخيمة عليه وعلى المنطقة»!!
وفيما يخص رؤية الدعم السريع، فقد لاقت المبادرة قبولًا من جانبها، وكذلك لاقت قبولًا من قوى الاتفاق الإطاري.

3 – مبعوث مجلس السيادة السوداني

منذ تعيينه نائبًا لرئيس مجلس السيادة السوداني، أجرى مالك عقار عددًا من الجولات الخارجية بدأها بدول الجوار بداية من جنوب السودان وكينيا ومصر وإثيوبيا، وأخيرًا أجرى زيارة إلى روسيا، وجنوب أفريقيا بهدف شرح تطورات الوضع في السودان.

4 – جولات مستشار الدعم السريع

أجرى يوسف عزت مستشار قائد الدعم السريع حميدتي تحركات خارجية بدأها من المملكة العربية السعودية، ثم توجه إلى دول الجوار الأفريقي شملت كل من: جنوب السودان، وأوغندا، وإثيوبيا، بالإضافة إلى إجراء جولة أوروبية في 27 مايو 2023 في محاولة لحشد الدعم والتأييد لرؤية الدعم السريع.

5 – قمة دول جوار السودان بالقاهرة

بعد تضارب المصالح وصراع الإرادات التي ظهرت بها المبادرات، إذ لكل منها رؤيتها وأهدافها الخاصة، وبعد فشل المساعي الدبلوماسية الإقليمية والدولية الهادفة إلى تحقيق وقف دائم لإطلاق النار، سعت مصر إلى طرح مبادرة جديدة لصياغة رؤية مشتركة لدول الجوار المُباشر للسودان. فمنذ بداية الأزمة بذلت مصر جهودًا كبيرة لأجل استقرار السودان، من منطلق أن أمن مصر هو أمن السودان، واتخاذ خطوات لحل الأزمة وحقن دماء الشعب السوداني كما سبق وأن استضافت القاهرة ورش عمل للقوى المدنية والأحزاب السودانية، بحثًا عن حلول لتعقيدات المرحلة الأخيرة من العملية السياسية بعد توقيع الاتفاق الإطاري السياسي.

جاء انعقاد قمة دول جوار السودان بدعوة من السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي، رئيس جمهورية مصر العربية، وبمشاركة رؤساء دول وحكومات جمهورية أفريقيا الوسطي، وتشاد، وإريتريا، وإثيوبيا، وليبيا، وجنوب السودان، في قمة لدول جوار السودان انعقدت بالقاهرة يوم 13 يوليو 2023، بحضور رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، وأمين عام جامعة الدول العربية، لبحث كيفية معالجة الأزمة السودانية؛ حيث توافق المشاركون على ما يلي:

– الإعراب عن القلق العميق إزاء استمرار العمليات العسكرية والتدهور الحاد للوضع الأمني والإنساني في السودان، ومناشدة الأطراف المتحاربة على وقف التصعيد والالتزام بالوقف الفوري والمستدام لإطلاق النار لإنهاء الحرب، وتجنب إزهاق أرواح المدنيين الأبرياء من أبناء الشعب السوداني وإتلاف الممتلكات.

– التأكيد على الاحترام الكامل لسيادة ووحدة السودان وسلامة أراضيه، وعدم التدخل في شئونه الداخلية، والتعامل مع النزاع القائم باعتباره شأنًا داخليًا، والتشديد على أهمية عدم تدخل أي أطراف خارجية في الأزمة بما يعيق جهود احتوائها، ويطيل من أمدها.

– التأكيد على أهمية الحفاظ على الدولة السودانية ومقدراتها ومؤسساتها، ومنع تفككها أو تشرذمها وانتشار عوامل الفوضى بما في ذلك الإرهاب والجريمة المنظمة في محيطها، وهو الأمر الذي سيكون له تداعيات بالغة الخطورة على أمن واستقرار دول الجوار، والمنطقة ككل.

– أهمية التعامل مع الأزمة الراهنة وتبعاتها الإنسانية بشكل جاد وشامل يأخذ في الاعتبار أن استمرار الأزمة سيترتب عليه زيادة النازحين وتدفق المزيد من الفارين من الصراع إلى دول الجوار، الأمر الذي سيمثل ضغطًا إضافيًا على مواردها يتجاوز قدرتها على الاستيعاب، وهو ما يقتضي ضرورة تحمل المجتمع الدولي والدول المانحة لمسئوليتهما في تخصيص مبالغ مناسبة من التعهدات التي تم الإعلان عنها في المؤتمر الإغاثي لدعم السودان، والذي عقد يوم 19 يونيو 2023 بحضور دول الجوار.

– الإعراب عن القلق البالغ إزاء تدهور الأوضاع الإنسانية في السودان، وإدانة الاعتداءات المتكررة على المدنيين والمرافق الصحية والخدمية، ومناشدة كافة أطراف المجتمع الدولي لبذل قصارى الجهد؛ لتوفير المساعدات الإغاثية العاجلة لمعالجة النقص الحاد في الأغذية والأدوية ومستلزمات الرعاية الصحية، بما يخفف من وطأة التداعيات الخطيرة للأزمة على المدنيين الأبرياء.

– الاتفاق على تسهيل نفاذ المساعدات الإنسانية المقدمة للسودان عبر أراضي دول الجوار، وذلك بالتنسيق مع الوكالات والمنظمات الدولية المعنية، وتشجيع العبور الآمن للمساعدات لإيصالها للمناطق الأكثر احتياجًا داخل السودان، ودعوة مختلف الأطراف السودانية لتوفير الحماية اللازمة لموظفي الإغاثة الدولية.

– التأكيد على أهمية الحل السياسي لوقف الصراع الدائر، وإطلاق حوار جامع للأطراف السودانية يهدف لبدء عملية سياسية شاملة تلبي طموحات، وتطلعات الشعب السوداني في الأمن والرخاء والاستقرار.

– الاتفاق على تشكيل آلية وزارية بشأن الأزمة السودانية على مستوى وزراء خارجية دول الجوار، تعقد اجتماعها الأول في جمهورية تشاد، لاتخاذ ما يلي:

أ- وضع خطة عمل تنفيذية تتضمن وضع حلول عملية وقابلة للتنفيذ لوقف الاقتتال والتوصل إلى حل شامل للأزمة السودانية عبر التواصل المباشر مع الأطراف السودانية المختلفة، في تكاملية مع الآليات القائمة، بما فيها الإيجاد والاتحاد الأفريقي.

ب- تكليف آلية الاتصال ببحث الإجراءات التنفيذية المطلوبة لمعالجة تداعيات الأزمة السودانية على مستقبل استقرار السودان ووحدته وسلامة أراضيه، والحفاظ على مؤسساته الوطنية ومنعها من الانهيار، ووضع الضمانات التي تكفل الحد من الآثار السلبية للأزمة على دول الجوار، ودراسة آلية إيصال المساعدات الإنسانية والاغاثية إلى الشعب السوداني.

ج- تعرض الآلية نتائج اجتماعاتها وما توصلت إليه من توصيات على القمة القادمة لدول جوار السودان.

وفيما يخص ردود الأفعال حول قمة القاهرة، يمكن توضيحها فيما يلي:

أ- موقف الحكومة السودانية

رحب مجلس السيادة السوداني، بمخرجات القمة، وأكد أن «حكومة السودان حريصة على العمل مع كل الأطراف الساعية لوقف الحرب وعودة الأمن والطمأنينة». ونقل المجلس عن الحكومة تأكيدها أن»القوات المسلحة السودانية مستعدة لوقف العمليات العسكرية فورًا إذا التزمت المليشيا المتمردة (الدعم السريع) بالتوقف عن مهاجمة المساكن والأحياء والأعيان المدنية والمرافق الحكومية وقطع الطرق وأعمال النهب». لكنه اشترط أن يقترن ذلك «مع الالتزام ببدء حوار سياسي فور توقف الحرب يفضي إلى تشكيل حكومة مدنية تقود البلاد خلال فترة انتقالية تنتهي بانتخابات يشارك فيها جميع السودانيين».

ب- موقف قوات الدعم السريع

رحبت قوات الدعم السريع، بمخرجات قمة دول جوار السودان ودعت إلى تكامل الجهود الدولية والإقليمية بتوحيد المبادرات المطروحة لتسهيل وتسريع الوصول للحل الشامل. وأكدت استعدادها التام للعمل مع جميع الفاعلين في الداخل والخارج من أجل التوصل إلى حل جذري للأزمة السودانية.

يمكن استخلاص أهم ما يميز مخرجات هذه القمة على النحو التالي:

أ- حضور كل رؤساء دول جوار السودان للقاهرة، في حين أن قمة إيجاد لم يحضرها إلّا وليام روتو رئيس كينيا، وأبي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي.

ب- إنشاءها آلية للتواصل الفعال مع الأطراف المتحاربة لتسهيل المفاوضات وبناء الثقة، بالتعاون مع أصحاب المصلحة الإقليميين والدوليين، وهو ما افتقدته المبادرات السابقة.

ج- النص الصريح على احترام مؤسسات الدولة السودانية، التي تعني ممارسة الجيش السوداني مهامه المؤسسية دون تدخل من أحد، وهو ما ظهر في وجود مالك عقار ووفد الحكومة السودانية.

د-  لم تطرق لأي جلوس وتفاوض مع قوات الدعم السريع، ولا حتى ذكر أي هدنة.

هـ- وضع إطار للمفاوضات تشارك فيه جميع القوى السياسية في السودان.

و- الموقف المبدئي للرئيس الإريتري أسياس أفورقي، الذي رفض التدخل الخارجي في شؤون السودان وتعامل أطراف داخلية مع الخارج، مؤكدًا قدرة السودانيين على حُسن التعامل مع مشكلاتهم، مما شكل ضربة قوية لدعاة التدخل الخارجي.

وتماشيًا مع حساسية السودانيين ضد التدخل الخارجي، جاء نص البيان على اعتبار أن ما يجري في السودان “شأن داخلي والحفاظ على وحدته وسيادته وسلامة أراضيه”، مما يعني قطع الطريق على القوى التي تعوّل على التدخل الخارجي تمامًا.
خامسًا: مستقبل خريطة توازنات القوى الفاعلة في مرحلة ما بعد الحرب
يبدو أن السودان مقبل على استحقاقات سياسية وأمنية واجتماعية مهمة سوف تتحدد مساراتها ونتائجها بناءً على ما سوف تتجه إليه التفاعلات بين المكونات المختلفة العسكرية والمدنية. وفيما يلي يمكن استشراف مستقبل خريطة توازنات القوة الفاعلة.

1 – القوى السياسية (مجموعة الاتفاق الإطاري)

كانت هذه القوى تخطط لتكوين حكومة منفى في الخارج عبر مجموعة الإيجاد، وذلك في إشارة لعدم الاعتراف بالحكومة الموجودة، وبدليل حضور مكونات آخر حكومة بمن فيهم عبدالله حمدوك في قمة الإيجاد، لكن بسبب تفوق العمل العسكري في أرض المعركة ودخول دول مؤثرة كمصر أفشل ذلك المخطط الإقليمي لحد ما وتقلص وأصبح غير مؤثر خارجيًا، ويمكن القول إن تلك القوى السياسية لن تؤثر مستقبلًا للأسباب التالية:

– مشاركتها في مخطط الحرب، والتضليل الذي قامت به بإدعائها أنها داعمة للانتقال الديمقراطي.

– لم تكن لها قواعد تجعلها تذهب مع الانتخابات لذلك تتحالف حينًا مع الجيش، وحينًا آخر مع الدعم السريع (ليس لديها شرعية).

– لم تدين الانتهاكات الواسعة التي حدثت في الحرب ضد معظم الشعب السوداني، بسبب الأجندة السرية مع الدعم السريع؛ لذلك فقدت التعاطف مع الشعب.

2 – القوى السياسية (غير الموقعة على الاتفاق الإطاري)

هي القوى التي تم إقصائها وتدعم القوات المسلحة وانخرطت في تحالفات واجتماعات، وتلاحمت مع الدعم الشعبي، والتي قد تشكل تحالفًا فيما بينها لاحقًا وتبرز كقوة كبرى في الوزن السياسي.

3 – القوى الشبابية المختلفة

حدث بينها تقارب لحد كبير بسبب الانتهاكات التي حدثت للشعب السوداني من قبل قوات الدعم السريع، وبسبب تعاطف العقل الجمعي السوداني، ومن المتوقع حدوث تقارب بينها، وبين القوى السياسية التي تم إقصاءها.

4 – القوى العسكرية

وهي المتمثلة في القوات المسلحة، ومن المتوقع أن يكون لها دور في المستقبل في رسم خريطة توازنات القوى السياسية إلى حين تكوين حكومة مدنية عبر الانتخابات، وذلك بالسند الشعبي لرسم مسار انتقالي، وتأسيس فترة انتقالية، وبناء دولة قوية، عبر إجراء حوار بين مختلف المكونات السياسية بعيدًا عن توظيف استمرار الحرب بدعم خارجي، لقد عززت الحرب من قدرة الجيش السوداني، وأوضحت عدم طرح موضوع هيكلة القوات المسلحة على الأقل قريبًا، ففي تاريخ السودان حدثت محاولات عديدة من القوى السياسية لاستغلال القوات المسلحة سياسيًا ابتداء من حزب الأمة، والشيوعيين، والقوميون العرب، والإسلاميين، ومجموعات الحرية والتغيير(قحت المركزي)، ولكن فشل الجميع في تحقيق أهدافهم؛ لأن المؤسسة العسكرية أكثر تنظيمًا وتماسكًا وإيمانًا ببنيتها العسكرية من أية بنية فكرية أو أيديولوجية أخرى.

ويبدو أن (الكيمياء العسكرية) إذا جاز التعبير أكثر عمقًا وتماسكًا من أي عناصر أخرى تدخل في تكوين نفسية ووعي الفرد العسكري، لذلك مهما اجتهدت المكونات السياسية لن تنجح في السيطرة على الجيش، قد تجد لها بعض العناصر، ولكن لن تستطيع إخضاع مؤسسة الجيش لصالحها. ومن ثم إن القوات المسلحة السودانية تُعد الجهة الوحيدة التي تستطيع أن تضمن الحفاظ على كيان الدولة السودانية، ووحدتها، وتماسكها سواء بالحرب أو بالتفاوض أو الاثنين معًا.

إن جميع التحالفات بين القوى السياسية والعسكرية المختلفة، كانت ذات طابع ظرفي تكتيكي، وليست استراتيجية بعيدة المدى. وأن التوازنات الداخلية بين شرکاء الحکم في السودان منذ الاستقلال مثلت امتدادًا للصراعات التي ارتهنت بتوجهات القوى الخارجية، والتي قد تشهد تغيرات جوهرية في المستقبل استجابة لمتغيرات داخلية أو إقليمية، ودولية متعددة، ومن الجدير بالذكر إن تمادي قوات الدعم السريع في جرائمها ضد كل السودانيين بدون تمييز أدى إلى حدوث تغيّر كبير في الرأي العام لصالح الجيش، وضد القوى السياسية التي كانت تهيمن على الساحة، وأن تلك القوى فقدت التواصل مع الشارع الذي شاهد وتجرع بتلك الجرائم. في حين زادت شعبية القوى السياسية الأخرى التي اصطفت ودعمت القوات المسلحة بما فيهم أنصار النظام السابق (الإسلاميين) في إظهار قدرتهم على التصدي مع الجيش لقوات الدعم السريع.

ومن الجدير بالذكر إن للفاعل السياسي الدولي تأثير بالغ على مجريات الأحداث في الساحة السياسية الداخلية من خلال التأثير على أطراف العملية السياسية، وذلك لتأثير السودان المحوري في أمن شمال وشرق وغرب القارة الأفريقية؛ فعدم توافر الأمن بالسودان يعني اختلال منظومة الأمن الإنساني في بقاع واسعة من القارة الأفريقية تتجاوز الرقعة الجغرافية للسودان، خاصة دول الجوار ذات الوضع الهش.

ويمكن القول إن الحل يجب أن ينطلق من الواقع السوداني، وأن يكون محل توافق، ويؤسس لمرحلة سياسية جديدة يعرف فيها كل طرف أنه لن يحكم منفردًا السودان، وأن البلاد لا يمكن أن تعيد تكرار نفس الحالة السابقة التي عرفتها طوال المرحلة الانتقالية الأولى. كما أن الضمان الأكبر للاستقرار وكشف الأوزان الحقيقية لخريطة توازنات القوى الفاعلة في المشهد السوداني، يتمثل في الوصول لانتخابات ديمقراطية نزيهة، لا مجال فيها للشرعية الثورية.

ختامًا، رغم قتامة المشهد الراهن للصراع في السودان، إلا أن الأمل مازال معقودًا بأن تعيد الأزمة السودانية الراهنة، تشكيل المشهد السياسي، وتسهم في تغيير المجريات التنظيمية المستقبلية في الساحة السياسية، بتشكيل تحالفات وقوى جديدة فاعلة تتسم بطابع جديد يهتم بتعظيم المصالح الوطنية واضمحلال الولاء الحزبي الضيق، وبالتأكيد يحتاج ذلك لقيادات كارزمية فاعلة تحدث نهضة ما بعد الأزمة.

ويمكن القول إن مآلات الأزمة الراهنة تدور في فلك سيناريوهين رئيسيين: السيناريو الأول، (المأمول حدوثه)، ويتمثل في أن تحقق القوات المسلحة نصرًا عسكريًا، وتأمين العاصمة الخرطوم بصورة كاملة، خاصة بعد الدعم الشعبي لها، ورؤيته بأن الحرب القائمة ليست في الواقع حربًا بين القوات المسلحة، وقوات الدعم السريع، بل هي حرب من قوات الدعم السريع ضد الشعب السوداني والمواطنين العزّل، وخروج قوات الدعم السريع إلى ولايات دارفور لتجميع قواتها وترتيب أوضاعها للعودة مرة أخرى، أما السيناريو الثاني، (الأسوأ)، فيتمثل في تطبيق النموذج الليبي في دارفور، بأن تقوم قوات الدعم السريع بتدشين حكومة في ولاية غرب دارفور التي احتلتها، وقتلت وشردت سكانها وقتلت واليها، ولكن يحتمل أن يصطدم ذلك النموذج بملاحقة القوات المسلحة، وبردة فعل سكان الولاية المشردين واللاجئين في تشاد، وبداية حرب أهلية بعد اصطفاف قبائل دارفور بين الدفاع عن ديارهم لمحاربة قوات الدعم السريع، وبين دعم القبائل المؤيدة، والمتحالفين مع قوات الدعم السريع.

 

*استاذ العلوم السياسية بكلية العلوم السياسية والدراسات الاستراتيجية – جامعة الزعيم الأزهري بالسودان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى