أقلام وأراء

د. إبراهيم نوار: غزة: على قدر التضحيات يجب أن يكون النصر السياسي

د. إبراهيم نوار 8-10-2025: غزة: على قدر التضحيات يجب أن يكون النصر السياسي

العقلية التي ترى الانتصار بمقياس كمية الدمار، هي عقلية بربرية دموية متوحشة، لأن انتصار الإرادة، هو الفوز الحقيقي المستدام في أي صراع مهما كان الثمن. نعم دفع الفلسطينيون ثمنا فادحا لصمودهم، لكن هذا الصمود هزم منطق «سلام القوة» ومرّغ غرورها في الوحل. لقد أرادت القيادة الإسرائيلية بعد إعلان خطة ترامب أن تكون «الرئيس التنفيذي»، الذي يديرها ويضع شروطها العملية، وفقا لما جاء في بيان مكتب نتنياهو بقبول الخطة «طبقا للمبادئ التي وضعتها إسرائيل».

وقالت اسرائيل إن الخطة يجب قبولها كما هي، من دون طلب أي تعديل، بمنطق take it or leave it، ففرض الفلسطينيون مبدأ التفاوض حول الترتيبات. وتضمنت الخطة طلب تسليم المحتجزين جميعا دفعة واحدة، فرد الفلسطينيون بطرح مبدأ التبادل التدريجي، مع ربطه تكتيكيا بجدول زمني للانسحاب «بما يسهل تجميع وتأمين وتسليم المحتجزين» وما قالت عنه حماس «توفير الظروف الميدانية لعملية التبادل». موسى ابو مرزوق أكد أن تسليم جميع المحتجزين خلال 72 ساعة غير واقعي بالمرة. وقبلت المقاومة مبدأ حصر السلاح بيد الدولة، ووافقت على تسليمه الى إدارة فلسطينية.

وأرادت إسرائيل أن تتم المفاوضات تحت النار؛ فرد الفلسطينيون بأن تكون المفاوضات في بيئة آمنة. هذه المواقف خلقت ما يمكن أن نسميه «مأزق نتنياهو» الذي أصبح محشورا بين قبول ترامب المضي قدما مع حماس، «لأنها تريد السلام»، ورفض شركاء نتنياهو في الائتلاف وجود حماس بأي شكل من الأشكال. ويعكس موقف ترامب حاجة عملية، لأنه لا وجود لمفاوضات من دون وجود حماس، وهو وجود لازم لإنهاء الحرب وإقامة السلام. ما يعني أن مطلب نتنياهو واليمين الديني الصهيوني المتطرف المتعطش للدماء يخرج عن حدود المعقول في إدارة خطة ترامب بأكملها. نتنياهو إذن أصبح محروما من القدرة على إعلان هزيمة حماس نهائيا، لأن حماس ستظل قائمة تتنفس طالما استمرت المفاوضات، وأنها ستتحول على الأرجح إلى تنظيم سياسي فلسطيني في مرحلة ما بعد الحرب، ومن المرجح أنها ستختار اسما آخر لنفسها. نتنياهو الذي زعم في اليوم التالي لإعلان الخطة أن الموقف العالمي انقلب لمصلحته، شهد بعينيه حقيقة الطوفان المؤيد للحق الفلسطيني خلال عطلة نهاية الأسبوع الأخير، وانقلب هو على بطنه قبل أن يدعي أنه قلب الطاولة على حماس.

ومن الواضح أن ترامب يرى تنفيذ جوانب خطته وفقا لبوصلة أوسع من تلك التي يرى بها نتنياهو. ترامب قال: «الأمر لا يتعلق بغزة فحسب، بل يتعلق بالسلام الذي طال انتظاره في الشرق الأوسط»، هكذا كتب ترامب على موقع «تروث سوشيال» المملوك له. بوصلة ترامب هنا أوسع من بوصلة نتنياهو، الذي جعل إنهاء وجود حماس تماما، المعيار الأول لتقييم الخطة. ويعلم ترامب تماما، بمنطق براغماتي، أنه لا نهاية عسكرية للحرب على عكس ما يعتقد نتنياهو.

السؤال الكبير الذي يطرح نفسه بحثا عن إجابة هو: هل الوضع الحالي مجرد هدنة مؤقتة أم سلام دائم؟ الحقيقة أن الوضع يبدو أكثر تعقيدا من ذلك، ولا يحتمل إجابات خطية بأحد اللونين الأبيض أو الأسود. في الحياة العملية، خصوصا في السياسة، يكون مجرى الأمور غالبا في «المسار الرمادي»، ما يستلزم صيغا ذكية تتضمن مواءمات في معظم الأحوال، ومن ثم فإن الوضع الراهن في قطاع غزة، لا يزال يحتمل مزيجا من الأعمال العدائية وحالات الهدوء، فلا هو وضع هدنة، ولا هو وضع سلام. ونظرا لأن ترتيب الأولويات يختلف على الجانب الإسرائيلي عنه في الجانب الفلسطيني، فإن نتنياهو قال مساء السبت الماضي إنه يأمل أن تنتهي المرحلة الأولى، ويعود جميع المحتجزين إلى ذويهم خلال أيام قليلة، متعهدا بمواصلة القتال إذا لم يتم تسليم سلاح حماس ونزع سلاح غزة تماما. هذه وجهة نظر اليمين الديني الصهيوني المتطرف بقيادة ثلاثي مصاصي الدماء الإسرائيليين نتنياهو – بن غفير – سموتريتش، وليست وجهة نظر إسرائيل كلها، فهناك من يعلم أن وقف الحرب هو الطريق إلى تحقيق هدف ثنائي: إطلاق المحتجزين وإحلال السلام. ومن ثم فإن فرحة إطلاق سراح المحتجزين ترتبط عضويا مع صيحة الدعوة لوقف الحرب.

هناك جدل في إسرائيل بلا شك، ومن الضروري أن تكون الدبلوماسية الفلسطينية والعربية والدولية، أحد محركات هذا الجدل في اتجاه تعديل توجهات الرأي العام الإسرائيلي إلى السلام وليس تكريس الميل إلى الحرب، هذا يتطلب براعة دبلوماسية استثنائية لضمان استمرار العملية السلمية والحد من احتمالات انقلاب نتنياهو عليها؛ فهو فعلا يحاول تجهيز المسرح السياسي والعسكري لذلك. وتتضمن مكونات المهارة الدبلوماسية، أولا، التنسيق عن قرب مع ترامب وإدارته وتكثيف العمل من خلال قنوات الاتصال القائمة، من أجل تحييد أثر الخطاب الإسرائيلي المضلل، والأخطاء التي قد تقع فيها حماس خلال فترة المفاوضات، أو الأحداث العارضة التي قد تحاول إسرائيل استخدامها، أو حتى «هندستها» بواسطة «الشين بيت» و»الموساد» لتخريب الوضع الحالي تخريبا تاما، بمجرد أن تنتهي عملية تبادل الأسرى والمحتجزين. وليس من المستبعد استئناف العمليات العسكرية ضد الشعب الفلسطيني خصوصا شمال محور نيتساريم، حيث تسعى إسرائيل لإقامة مستوطنات هناك. وتتضمن مكونات المهارة الدبلوماسية ثانيا، تكثيف التعاون العربي عن قرب، بما يحقق هدفين في وقت واحد، الأول هو زيادة الثقة والمصداقية في دور الوسطاء مع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، والثاني هو تقديم موقف عربي – فلسطيني ناضج سياسيا وموحد، يصعب اللعب عليه، أو تقسيمه بواسطة أطراف أخرى. ولا شك أن هذا الموقف يحتاج إلى صياغته بعناية ودقة، وأن تسود روحه وتنتشر في الخطاب السياسي العربي والفلسطيني. كما تتضمن مكونات المهارة الدبلوماسية ثالثا ضرورة التواصل مع الرأي العام الإسرائيلي الرافض لاستمرار الحرب. ونظرا لأنه من الصعب الحديث عن تحقيق ذلك بسرعة في الوقت الحاضر، فإن التواصل يمكن ترتيبه من خلال منصات وسيطة ومنظمات يهودية ليبرالية مناصرة للسلام، وكذلك بالتعاون مع أحزاب وتنظيمات الإسرائيليين العرب. من الضروري يقينا تعزيز خطاب التعايش، ومحو صورة الفلسطيني «الإرهابي» التي تحاول أجهزة الدعاية الصهيونية ترسيخها في الأذهان.

مهمتان عاجلتان: الأولى هي تأمين مرور أكبر قدر ممكن من المساعدات الإنسانية، ووضع معايير لاستدامتها مهما كانت الصعوبات، التي يمكن ان تنشأ خلال المفاوضات. والحقيقة أن مصر تقوم بدور ضخم في تجهيز مواقع الإيواء المؤقت، لتكون إنسانية بقدر الإمكان حتى تبدأ عمليات الإعمار ويعود ساكنو الخيام إلى بيوتهم بعد إعادة بناء الأحياء السكنية. ويبدو لي أن خطة الإيواء المؤقت الإنساني التي يتم تنفيذها غير منفصلة عن خطة إعادة البناء التي تتبناها مصر، ما يعني أن هناك رؤية لليوم التالي، وليست مجرد إجراءات طوارئ منقطعة الصلة بالتخطيط لمرحلة ما بعد الحرب.

المهمة الثانية، إعادة ترتيب البيت الفلسطيني سياسيا من الداخل، مع أولوية العمل على بلورة مشروع فلسطيني واضح ومتفق عليه لمرحلة ما بعد الحرب، في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهناك نقاط اتفاق قوية يمكن تطويرها، مثل أن يحكم الفلسطينيون أنفسهم بكوادر تكنوقراطية حتى يتم تعديل الدستور وإجراء انتخابات، وأن يكون السلاح حصريا بيد الدولة الفلسطينية، وأن تبدأ عملية بناء الدولة من لحظة إنهاء الاحتلال. هذه رؤوس جسور سياسية محورية يمكن البدء منها، مع ضرورة تجنب فتح صفحة تسوية حسابات عن الممارسات السابقة، أو صفحة مبارزة أيديولوجية، أو الانجرار إلى القاع السياسي بالبحث عن تحقيق مصالح اقتصادية ضيقة. ويقع موضوع تسليم سلاح حماس ونزع سلاح غزة في موقع القلب من أي خطة لمستقبل غزة بعد الحرب، وأي خطة لإعادة الإعمار، وأي ترتيبات لتحقيق الأمن. من الصحيح تماما أن أمن غزة لن يتحقق في إطار خطة ترامب، إلا إذا تم الاتفاق على وقف العمليات العسكرية تماما، وسترفض أي قوة فلسطينية – عربية – دولية لحفظ الأمن دخول غزة طالما أن حماس تحتفظ بسلاحها، لأن أي خلاف صغير بشأن تطبيق الخطة يمكن أن يتحول إلى حرب داخلية في القطاع، كذلك فإنه من الصحيح تماما أن عملية إعادة بناء غزة لا يمكن أن تبدأ بينما حماس هي التي تدير، أو هي التي تملك القدرة على تهديد الإدارة المؤقتة، أو التحكم في عملية الإعمار. ولهذا فإنه يجب تشكيل فريق عمل فلسطيني – عربي يعمل حصريا على وضع رؤية استراتيجية لمسألة الأسلحة في غزة، لأن النجاح في ذلك يعني قطع أكثر من نصف الطريق إلى إعادة ترتيب البيت الفلسطيني.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى