أقلام وأراء

د. إبراهيم نوار: إسرائيل تضع الأمن القومي العربي على المحك

د. إبراهيم نوار 17-9-2025: إسرائيل تضع الأمن القومي العربي على المحك

يعبر انتقال نتنياهو إلى حلم إسرائيل الكبرى، عن تحول جوهري في تاريخ الدولة الصهيونية من مرحلة إقامة الدولة على جزء من أرض فلسطين التاريخية، إلى توسيع نطاقها الجغرافي ليشمل أجزاء من دول أخرى من أطراف الفرات إلى دلتا النيل. هذا الانتقال يشمل ضمنا ابتلاع أرض فلسطين التاريخية، والضفة الشرقية لنهر الأردن والأراضي الخصبة في شرق البحر المتوسط. وربما لا يحتاج نتنياهو إلى احتلال هذه الأراضي كلها عسكريا، ولكن يكفيه أن يؤدي الترهيب باستخدام القوة إلى تحقيق النتائج المطلوبة من دون استخدامها.

الحصن الحصين الذي يمنع حتى الآن إقامة إسرائيل الكبرى، هو مقاومة الشعب الفلسطيني، لذلك فإن إسقاط هذا الحصن، هو مسألة حياة أو موت بالنسبة للمشروع الصهيوني الديني البربري، الذي لا يقبل التعايش، ويعتبر أن وجود الشعب الفلسطيني هو نفي لوجوده، ولذلك فإن الحكومات العربية التي تعمل ضمنا داخل مشروع تجزئة القضية الفلسطينية، أو تحويلها إلى قضية إنسانية تشارك عن عمد أو عن جهل في مساعدة نتنياهو لتحقيق انتقال المشروع الصهيوني عبر نهر الأردن إلى الفرات، وعبر غزة إلى شبه جزيرة سيناء ودلتا نهر النيل.

هذا الانتقال التاريخي للمشروع الصهيوني يترافق مع تبني مبادئ استراتيجية جديدة، تزيح أية اعتبارات قد تعيق تحقيقه، أو تبطئ التقدم فيه، خصوصا بعد أن أدرك نتنياهو أنه أمام فرصة تاريخية قد لا تتكرر، وأن عليه ألا يدعها تفوت من دون تعظيم العائد منها. وحسب قوله هو في خطاب ألقاه في عسقلان قبل زيارته الأخيرة إلى واشنطن في يوليو الماضي: “فرصنا هائلة، ولن نُضيّعها.. سواءً لهزيمة أعدائنا أو لضمان مستقبلنا اقتصاديا ووطنيا ودوليا وفي مجال الطاقة”. نتنياهو لم يترك مجالا للشك بأنه يستهدف كل من يعتبرهم أعداء إسرائيل في أي مكان.

ورغم اتساع نطاق الاحتجاجات بواسطة أسر المحتجزين والجنود الرافضين للخدمة العسكرية في غزة، فقد ذهبت استراتيجية نتنياهو، إلى توسيع نطاق الهجمات وليس العكس، وبإضافة قوة زخم الحركة العالمية للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وتزايد عدد الدول المؤيدة لإعلان قيام دولة فلسطينية كاملة العضوية في الأمم المتحدة، كان نتنياهو أمام خيارين، إما العدول عن تحقيق كل أهداف الحرب كما حددها في البداية، أو توسيع نطاق الهجوم والمضي فيه إلى أبعد مدى، مع تجاهل كل المخاوف أو النتائج السلبية التي يمكن أن تترتب على ذلك. وتضمن خيار توسيع نطاق الحرب إعادة تحديد إطار إستراتيجيتها، وقد تولى مئير بن شبات رئيس مجلس الأمن القومي، رئيس جهاز الشاباك سابقا مسؤولية وضع إطار جديد يحول دون التخبط بين استراتيجية التهدئة حتى تمر العاصفة، واستراتيجية التصعيد مهما كانت النتائج. وجدير بالذكر أن بن شبات يرأس حاليا معهد مسجاف للأمن القومي والاستراتيجية الصهيونية، وهو المعهد الذي وضع المخطط الأول لتهجير الفلسطينيين من غزة إلى وطن بديل، بعد أشهر قليلة من بدء الحرب في أكتوبر عام 2023. وهو أيضا أول من صاغ فكرة الحرب على 7 جبهات. وصاحب فكرة اغتيال قيادات حماس في الخارج. وتقوم الاستراتيجية الجديدة التي وضعها بين شبات على ثلاثة مبادئ رئيسية:

المبدأ الأول: لا خطوط حمر على الإطلاق ضد من تعتبرهم إسرائيل أعداءها، مهما كانت النتائج. وطبقا له فإن تجارب إسرائيل السابقة تثبت أن العمليات العسكرية تُساعد على رسم الخطوط الحمر، وتُشكّل في حد ذاتها رافعةً للتقدم نحو تحقيق الترتيبات السياسية. واستخلص بن شبات من ذلك نتيجة مفادها أن “الأمن من دون ترتيبات سياسية هو أفضل من ترتيبات سياسية بلا أمن”. وقال في أوائل الشهر الحالي: “يجب استحضار هذه الدروس، لاسيما قبل شهر سياسي حافل بالمبادرات والأفكار”.

المبدأ الثاني: حرية العمل العسكري، برا وبحرا وجوا، من دون قيود على الإطلاق مع التعاون التام مع القيادة العسكرية الأمريكية الوسطى في الشرق الأوسط. وقد جرى لقاء في إسرائيل قبل العملية العسكرية في الدوحة بيومين بين رئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي إيال زامير، وقائد القيادة الوسطى الأمريكية الجديد الأدميرال براد كوبر، لمناقشة عدد من المسائل التكتيكية الخاصة بالوضع العسكري في الشرق الأوسط، وعلى وجه الخصوص في العراق وسوريا وجنوب لبنان، والوضع في حرب الإبادة في غزة.

المبدأ الثالث: هو أن اعتبارات الأمن العسكري لها الأولوية القصوى على الاعتبارات والترتيبات السياسية مهما كانت، وأنها هي الأساس، علما بأن الحقائق الأمنية الجديدة، التي تتطلع إسرائيل الى إقامتها على الأرض لم تكتمل بعد، بل إنها لا تزال في طور التشكل كما قال بن شبات، ما يعني أننا أمام موجة عسكرية مستمرة، إلى ما وراء غزة، وإلى ما وراء نهر الأردن، وإلى ما وراء الجولان.

وقد أوضح بن شبات مبادئ الاستراتيجية الجديدة في مقال أخير قائلا، إنه يجب على إسرائيل ألا تقايض مكاسب ملموسة بوعود سياسية فارغة (31 أغسطس)، وأضاف في مقاله، “لقد أقامت إنجازات إسرائيل المذهلة واقعا جديدا، لكنه لا يزال قيد التكوين. إن مناقشة الحاجة إلى “عمل سياسي” يُكمّل “العمل العسكري” أمر سابق لأوانه، إن محاولة اختصار الطريق من خلال ترتيبات مشكوك فيها، أو اتفاقيات سابقة لأوانها قد تكون مكلفة للغاية”. وكان بن شبات أول من دعا إلى استهداف قيادات حماس في الخارج وتصفيتهم (6 يوليو). واعتبر أن تركهم على قيد الحياة (10 من الشهر الحالي) قد “أثار شكوكاً لدى بعض الأطراف حول تهديدات إسرائيل بشن حرب شاملة على حماس، وأعطى انطباعاً بأن البقاء في تركيا، أو قطر يضمن لهم الحصانة منها”. هذه الاستراتيجية التي تمثل جسر التقاء يربط بين الوضع العسكري الحالي والمستهدف، التي صاغها بن شبات بعناية، هي التي مهدت الطريق للعملية العسكرية الإسرائيلية ـ الأمريكية، التي استهدفت قيادة حماس في قطر، والتي لن تكون الأخيرة، حسب المعنى الذي انطوت عليه تصريحات نتنياهو التالية للضربة. إن ما تسعى إليه استراتيجية نتنياهو السياسية حاليا، هي أن تتصرف الحكومات العربية، وفقا لما تريده اسرائيل تماما، وأن يقرأ الحكام العرب سياسة إسرائيل عن بعد، وأن يعملوا طبقا لها. فإذا لم يحدث ذلك، فإن صواريخ إسرائيل وطائراتها والحماية الأمريكية لها، بل التنسيق معها هي جميعا حاضرة في شن هجمات على العواصم العربية وغيرها، إذا قررت إسرائيل ذلك. هذا يعني عمليا سقوط استراتيجية الأمن القومي العربي، بالتحالف مع الولايات المتحدة، لأن سياسة امريكا في الشرق الأوسط تتبع المصالح الإسرائيلية. ويردد نتنياهو صراحة أن يد اسرائيل طويلة، وتستطيع الوصول إلى أي مكان تريد الوصول إليه.

وقد كتب بن شبات بعد الضربة العسكرية الأخيرة في الدوحة، أن المجهول الأكبر الآن هو تأثير تلك الضربة على وضع الرهائن وفرص استئناف المفاوضات. وقال: “ظاهريا، يبدو أن لحماس مصلحة أساسية في الحفاظ على حياة الرهائن، فهم الضمانة الوحيدة لبقاء المقاومة”، ومع ذلك، “يصعب التنبؤ بردود الفعل الانفعالية لخاطفي الرهائن والخطوط الحمر التي رسموها لأنفسهم”. وبالعودة إلى انتقال إسرائيل لمرحلة جديدة سعيا الى إقامة “إسرائيل الكبرى”، فإن نتنياهو لن يعنيه أبدا مصير المحتجزين، ولا بيانات الاحتجاج، وإنما سيمضي قدما طالما أنه لا يدفع أي ثمن مقابل اعتداءاته، بل على العكس فإنه يأمل أن يستمر في الحكم من بوابة نجاحه في إقامة واقع جديد يلهب مشاعر المتطرفين الصهاينة أصحاب المشروع البربري، الذي بدأ تطبيقه منذ تشكيل الحكومة الحالية في أواخر عام 2022 وليس في أكتوبر 2023.

نتنياهو أعلن صراحة ودون مواربة أنه يريد تغيير وجه الشرق الأوسط. بينما قواته أقامت 8 قواعد ارتكاز عسكري في جنوب سوريا، و5 في جنوب لبنان، وتنفذ خطة لفصل الضفة الغربية تماما عن الأردن، وتقسيمها رأسيا إلى شمال وجنوب معزولين، وتمضي قدما في حرب الإبادة في غزة، مستهدفة دفع طوفان التهجير عبر الحدود المصرية إلى سيناء.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى