د. أنور محمود زناتي: قمم تندّد… وأوروبا تقاطع: بين بلاغة الدوحة وواقعية باريس

د. أنور محمود زناتي 17-9-2025: قمم تندّد… وأوروبا تقاطع: بين بلاغة الدوحة وواقعية باريس
في قرنٍ يشهد توترًا إقليمياً حادًا وتصاعدًا في العنف أمام أعين المجتمع الدولي، تتكرر ظاهرة التباين بين بيانات القمم الرسمية وإجراءات الدول الفعلية. تسعى هذه المقارنة إلى قراءة قمة الدوحة الطارئة (15 سبتمبر 2025) وقراراتها الشكلية، مقابل المواقف والإجراءات الحقيقية التي اتخذتها دول غربية وأوروبية لفهم أين يتقاطع الخط الرمزي مع منطق المصلحة العملية.
الخطاب الرسمي والقرارات الشكلية
تميَّزت بيانات قمة الدوحة بتأكيدات قوية لرفض الاعتداء وإدانة واسعة، وبدعوات إلى «خطوات ملموسة» وإعادة النظر في علاقات البعض مع إسرائيل، مع تشديد على التضامن مع قطر وحقوق الفلسطينيين. مع ذلك، نصّ البيان الختامي على مواقف عامة — تنديد، تحذير من مخاطر التطبيع إذا استمرت السياسات الإسرائيلية، ودعوات لحماية الأمن القومي العربي — دون إعلان عقوبات آنية أو مقاطعات اقتصادية شاملة.
القمم العربية تاريخيًا تصدر بيانات لافتة وكلمات حادة في حالات الطوارئ. لكن تحويل الخطاب إلى إجراءات ملموسة (مقاطعة تجارية، انهيار اتفاقيات أمنية، قطع علاقات دبلوماسية كاملة) يواجه عقبات كبيرة: الانقسام الداخلي بين دول الخليج والمشرق، رهانات الأمن الإقليمي والعلاقات مع الولايات المتحدة، والاعتمادية الاقتصادية والتجارية بين بعض الدول وإسرائيل أو شركائها الغربيين. النتيجة: قوة كلامية، وضعف في خطوات تنفيذية فورية.
ماذا فعلت دول غربية بالفعل؟
من يقرأ البيان الختامي لقمة الدوحة الطارئة يظن لأول وهلة أن العرب على وشك أن يقلبوا الطاولة على إسرائيل، إذ جاءت الكلمات عالية النبرة، صاخبة بالتنديد، محملة بعبارات الغضب، ومشحونة بوعود «إعادة النظر» و«اتخاذ خطوات ملموسة». لكن حين يفتش المتابع عن هذه الخطوات على أرض الواقع، لا يجد سوى أوراق مصاغة بعناية دبلوماسية، تتردد بين العبارات المعتادة: الإدانة، القلق البالغ، التهديد الضمني، والتحذير من مخاطر التطبيع إذا استمرت السياسات الإسرائيلية. كل هذا يظل في دائرة الرمز والبيان، يحقق وظيفة معنوية ويؤدي واجب التضامن السياسي، لكنه لا ينتقل إلى مصاف القرارات الفعلية التي تُحسَب في ميزان العلاقات الدولية.
على النقيض من ذلك، تتعامل بعض الدول الأوروبية مع المسألة بصورة أكثر مباشرة وملموسة. إسبانيا مثلاً لم تكتفِ ببيان إدانة، بل أعلنت اليوم عن إلغاء صفقة سلاح مع إسرائيل إلى نحو مليار يورو، في خطوة وصفتها صحف مدريد بأنها ضربة اقتصادية وسياسية موجعة لصناعة السلاح الإسرائيلية. وهنا يظهر الفارق بين من يكتفي بالشجب، ومن يذهب إلى إجراءات تُسجّل في دفاتر التجارة والبنوك وأسواق السلاح. هذه ليست لغة الخطابة، بل لغة الحسابات والأرقام، لغة يعرفها صانع القرار الإسرائيلي جيداً لأنها تؤثر في جيبه ومصانعه وعلاقاته المستقبلية.
والأمثلة لا تتوقف عند إسبانيا، ففرنسا نفسها، برغم تذبذب مواقفها، دخلت في جدل داخلي واسع حول جدوى استمرار التعاون العسكري والعلمي مع إسرائيل، بينما خرجت جامعات ومؤسسات بحثية أوروبية تعلن تعليق شراكات أو تجميد مشاريع مشتركة مع نظيراتها الإسرائيلية. هذه الإجراءات قد تبدو جزئية أو محدودة، لكنها في النهاية تحوّل الغضب الأخلاقي إلى واقع مؤثر: حرمان من أسواق، تعطيل لتبادل علمي، أو على الأقل خلق عزلة تدريجية تجعل إسرائيل في موقف دفاعي لا رمزي بل عملي.
هنا تكمن المفارقة الساخرة: العرب يجتمعون في قاعات فخمة، يقرأون بيانات طويلة تتسابق فيها العبارات على حمل الأوزان الثقيلة من الغضب، ثم يخرجون وقد أنجزوا «واجب الخطاب». أما في الغرب، حيث تُدار السياسات عبر برلمانات وضغوط مجتمعية وإعلام صاخب، فإن البيانات لا تكفي، بل تُترجم إلى قرارات تنفيذية — ولو كانت تدريجية — كوقف صفقة، أو تعليق تعاون، أو مراجعة اتفاقية. الفارق ليس في درجة الحب لفلسطين أو العداء لإسرائيل، بل في كيفية تحويل الكلمات إلى آليات عمل.
قمة الدوحة، في نهاية المطاف، سجلت موقفاً رمزياً لا غنى عنه، لكنها لم تتجاوز المربع القديم: التنديد بلا عقوبة، التحذير بلا إجراء، والوعد بلا جدول زمني. بينما أوروبا، تحت ضغط الشارع والبرلمان والقانون، تعرف أن عليها أن تدفع ثمناً سياسياً، فتفضل أن يكون هذا الثمن في صورة قرارات قابلة للقياس. وبين خطاب يطرب الآذان ولا يؤلم الخصم، وخطوة اقتصادية تغيّر المعادلات على الأرض، يبقى الفرق واضحاً بين بلاغة الدوحة وواقعية مدريد وباريس.
توصيات عملية (لصانعي القرار والمجتمع المدني العربي)
إذا أرادت القمم العربية أن تتجاوز مرحلة الرمزية وتدخل ميدان الفعل، فلا بد أن تتحول بياناتها إلى آليات متابعة عملية. فبعد انتهاء الخطابات والبيانات الختامية، من الممكن إنشاء لجان سياسية تتولى دراسة سبل التنفيذ: مراجعة الاتفاقيات القائمة، فرض قيود تجارية محددة، أو إطلاق حملات دبلوماسية منسقة. وبدلاً من الاكتفاء بالخطاب الجماعي، يمكن توظيف الأدوات القانونية والبرلمانية في كل دولة عربية للضغط على الحكومات كي تطرح مراجعات رسمية للاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل. وإلى جانب ذلك، يبقى التعاون مع منظمات المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية العالمية خيارًا مهمًا، إذ يمكن من خلال هذه القنوات الاستفادة من توصيات تقنية وقانونية، مثل المطالبة بتعليق اتفاقيات التبادل التجاري أو إعادة النظر في شروط التعاون البحثي، بما يجعل الموقف العربي أكثر صلابة وأقل عرضة للتبدد بعد انتهاء أضواء القمم.
أمنت قمة الدوحة وحدة رمزية مهمة وأدانت الانتهاك، ولكن التاريخ يُظهر أن القوة الحقيقية للتأثير تُقاس بمدى تحويل الخطاب إلى إجراءات ملموسة — وهي سمة تبرز، بالحالات، في سياسات دول غربية عندما تتاح لها آليات مؤسساتية للترجمة. لذا فإن المسافة بين «الكلمة» و«الفعل» لا تنحصر في شجاعة الخطاب، بل في القدرة على البناء المؤسسي والسياسي لتحويله إلى حصار دبلوماسي، تجاري أو قانوني قابل للتنفيذ.