أقلام وأراء

د. أسعد عبد الرحمن يكتب – تحولات السياسة التركية

بقلم  د. أسعد عبد الرحمن *- 6/11/2020

لأن تركيا تُعد من الفاعلين في منطقة الشرق الأوسط، فإن لسياساتها الخارجية تجاه الإقليم ودوله (ومنها الدول العربية)، تأثيراً على مجمل الأوضاع الإقليمية. وقبل مطلع الألفية الثانية، غلَب على السياسة الخارجية التركية التماهي مع السياسات الغربية تجاه الإقليم بهدف تسهيل انضمامها إلى نادي الاتحاد الأوروبي، مع إغفال منها للعمق العربي والإسلامي ولدورها الإقليمي. غير أن هذه السياسة شهدت منذ بداية حكم «حزب العدالة والتنمية» عام 2002 تحولات أعادت تعريف مبادئها الأساسية، حيث عملت على صياغة دور جديد لتركيا في الإقليم والعالم.

وفي المجمل، لا يوجد موقف سياسي أو أيديولوجي للعرب، وبالذات للمثقفين العرب، من أي دولة إلا بمقدار بعدها أو قربها من القضايا العربية، وفي الطليعة منها القضية الفلسطينية التي تحدد المواقف. وقد كان هناك إعجاب بالسياسة الخارجية التركية يوم أعلنت انتهاجها سياسة «صفر أعداء»، باعتبار أنه ليس مطلوباً من تركيا أن تقود الإقليم، العربي منه خاصة، وراءها أو تحمله على كتفيها.

لكن سرعان ما تغير الحال، وتحول تفاؤل المتفائلين بسياسة تركيا إلى تشاؤم كامل. ففي السياسة الداخلية التركية الجديدة، بانت بوضوح الرغبات الشخصية للقيادة، ممثلةً بشخص أردوغان، في التحول نحو نظام الحكم الفردي، حيث حدثت تغيرات داخلية في النظام نسفت السياسة الخارجية السابقة (صفر أعداء) وأدت إلى نشوء الزعامة الفردية ذات النزعة السلطانية! ورغم الرهان المسبق على «التجربة الديمقراطية التركية»، فإنها تحولت إلى واحدة من أكثر التجارب الاستبدادية قسوة في العالم الإسلامي. وكان البعض يراهن على أن تصبح تركيا شبيهة بمثال ماليزيا في الانفتاح السياسي والتحول الاقتصادي، فإذا بها تعود وتنجر إلى الصراع الداخلي للحزب الحاكم، حيث رأينا رفاق الأمس وقد أصبحوا خصوماً يتصارعون في ما بينهم. فعبد الله غول زعيم المجموعة التي تمرّدت على نجم الدين أربكان في المؤتمر العام لحزب «الفضيلة» عام 2000، ليصبح بعد ذلك من أهم مؤسّسي «حزب العدالة والتنمية» في العام التالي، عندما كان أردوغان في السجن.. أصبح الآن خصماً سياسياً لأردوغان. وكذلك الحال مع أحمد داود أوغلو الذي كان منظّر السياسة الخارجية «صفر أعداء» التي سرعان ما انقلبت إلى ضدها (صفر أصدقاء)، ثم أصبح رئيساً للوزراء بعد انتخاب أردوغان رئيساً للجمهورية في أغسطس 2014. وكل ذلك بعد أن أصبح أردوغان رئيساً للجمهورية وفق الدستور الجديد الذي منحه كل الصلاحيات ليصبح الحاكِم المُطلَق للبلاد، حيث سيطر شخصياً على الجيش والأمن والمخابرات والقضاء. وها هي تركيا اليوم تعيش مرحلة حكم الفرد، الأمر الذي ترك بصماته على مجمل السياستين الداخلية والخارجية.

وقد تلبّست السياسة الخارجية التركية بنزعة عثمانية متنامية تجلت من خلال تدخلاتها في الملفات الإقليمية الساخنة، وبالذات في اضطرابات «الربيع العربي»، وفي تعزيز علاقتها بتيار «الإسلام السياسي» الذي ركب موجة الاضطرابات، وفي إصرار أنقرة على تدخلاتها المتواصلة في كل من سوريا والعراق وليبيا، وعربدتها في شرقي المتوسط بحثاً عن البترول والغاز الطبيعي.

ورغم كل ذلك، فإن تركيا تواجه العديد من التحديات الأمنية، الداخلية والخارجية، خاصة بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في يوليو 2016 وما ترتب عليها من إساءات بالغة للمؤسسة العسكرية وصورتها المعنوية، في وقت يتنامى فيه النفوذ الروسي في محيطها، وتزيد إيران من أذرعها وعملائها في الشرق الأوسط، فضلاً عن التوتر المتزايد لعلاقة تركيا مع شركائها في «الناتو»، وعلى رأسهم اليونان وفرنسا. وفي ظل أوضاع كهذه، غلبت على الخطاب السياسي التركي سياسة ردود الأفعال العاطفية، عوضاً عن الحسابات السياسية الدقيقة والتعاطي الهادئ مع الأوضاع والمواقف، وهو طابع يتعمق ويتفاقم، ومعه تتسع خسائر تركيا يوماً بعد آخر. ومع تزايد المفارقات في السياسة الخارجية التركية، يبرز البون الواسع بين بدايات المواقف المعلنة ونهايات السياسة المتخبطة على أرض الواقع.

*كاتب وباحث سياسي .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى