#شؤون اقليمية

دوافع العملية العسكرية التركية في شمال شرق سوريا

عبد اللطيف حجازي 

أعلن الرئيس التركي “أردوغان”، الأربعاء 9 أكتوبر 2019، عبر حسابه في تويتر، بدء الجيش التركي بالتعاون مع “الجيش الوطني السوري” (فصائل معارضة تتلقى دعمًا من تركيا) عملية “نبع السلام” العسكرية في شمال سوريا، لتطهيرها من تنظيمي “وحدات حماية الشعب الكردية” و”داعش”، وإنشاء منطقة آمنة لعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم. وأضاف “أردوغان”: “هدفنا هو القضاء على الممر الإرهابي المُراد إنشاؤه قرب حدودنا الجنوبية، وإحلال السلام في تلك المناطق”.

وانطلقت هذه العملية بعد أن حصلت أنقرة على ضوء أخضر من الرئيس الأمريكي “ترامب”، الذي قرر عقب مكالمة هاتفية مع نظيره التركي “أردوغان”، في 6 أكتوبر، سحب القوات الأمريكية المنتشرة قرب الحدود التركية لإتاحة الفرصة لتركيا تنفيذ عمليتها العسكرية، لتنسحب القوات الأمريكية من مدينتي “رأس العين” و”تل أبيض” الواقعتين بالقرب من الحدود التركية، شمال شرق سوريا.

ويمكن تناول طبيعة العملية العسكرية التركية في شرق نهر الفرات، وأهداف تركيا منها، وموقف الولايات المتحدة الداعم الرئيسي للأكراد، والقوى الأوروبية، على نحو ما سيلي تفصيله.

عملية “نبع السلام”:

بدأت العملية العسكرية التركية، عصر يوم الأربعاء 9 أكتوبر، بتوجيه الجيش التركي ضربات جوية مدعومة بنيران المدفعية ومدافع الهاوتزر لبلدتي “رأس العين” و”تل أبيض”، شمال شرق سوريا، الواقعتين بالقرب من الحدود التركية، وبلدة عين عيسى بريف الرقة الشمالي. وفي مساء اليوم ذاته أعلنت وزارة الدفاع التركية، أن وحدات من القوات الخاصة التركية ومسلحين من “الجيش الوطني السوري” (مدعوم من تركيا) بدؤوا هجومًا بريًّا شرق نهر الفرات، فيما ذكرت وسائل إعلام تركية أن الجنود دخلوا سوريا من أربعة محاور؛ اثنين قريبين من بلدة تل أبيض، والآخرين على مقربة من رأس العين شرقًا.

وتعد عملية “نبع السلام” الثالثة لتركيا في شمال سوريا، حيث كانت الأولى في أغسطس 2016 باسم “درع الفرات” ضد تنظيم “داعش” لإخراجه من مدن جرابلس والباب وأعزاز ومنع القوات الكردية من السيطرة عليها، والثانية في يناير 2018 باسم “غصن الزيتون” ضد “وحدات حماية الشعب” الكردية في مدينة عفرين والتي انتهت بسيطرة القوات التركية والفصائل المدعومة من أنقرة على المدينة. غير أن العملية العسكرية المرتقبة تختلف عن سابقتيها، حيث تعتزم تركيا إبعاد المقاتلين الأكراد عن المنطقة الحدودية الشمالية الشرقية، والتي تمتد لمسافة 480 كم من غرب نهر الفرات إلى الحدود العراقية في الشرق وبعمق 32 كم لإقامة “منطقة آمنة”، وهذه المساحة واسعة جدًّا وتفوق من حيث الحجم مساحة المناطق التي توغلت فيها تركيا سابقًا أضعاف المرات، ما يثير التساؤلات حول مدى قدرة الجيش التركي والفصائل السورية المتحالفة معه على التقدم في هذه المنطقة وتمشيطها وتأمينها فيما بعد.

دوافع وأهداف تركيا:

1- فرض إنشاء “منطقة آمنة” في شمال سوريا، بعد فشل الاتفاق مع الولايات المتحدة بشأن المنطقة الآمنة، حيث كانت أنقرة وواشنطن قد اتفقتا، في 7 أغسطس 2019، على إنشاء “مركز عمليات مشتركة” في ولاية “شانلي أورفة”، جنوب تركيا، لتنسيق وإدارة إنشاء المنطقة الآمنة شمال سوريا. وبدأ الجيشان التركي والأمريكي في تسيير دوريات مشتركة في شمال سوريا، غير أن وزير الخارجية التركي اتهم الولايات المتحدة، في 10 سبتمبر 2019، بتعطيل تنفيذ الاتفاق معلنًا استعداد أنقرة للتحرك على نحو منفرد إذا اقتضى الأمر، وأعلن الرئيس التركي أن بلاده لديها خطط بديلة وهي مستعدة لتنفيذها ما لم يتم إقامة المنطقة الآمنة بحلول نهاية سبتمبر، وهو التهديد الذي نفذه “أردوغان” بإعلانه في 5 أكتوبر 2019 انتهاء كافة الاستعدادات لبدء عملية عسكرية تركية في شرق الفرات.

ويرجع فشل الاتفاق إلى اختلاف تصور الدولتين للمنطقة الآمنة، فتركيا ترغب في أن تشمل المنطقة الآمنة المساحة الجغرافية الواقعة شمال الطريق الدولي M4، لتضم مدن وبلدات محافظات حلب والرقة والحسكة، بعمق 32 كم، مع تواجد قوات برية تركية في هذه المنطقة وإخلائها تمامًا من المقاتلين الأكراد وإعطائها حق إدارتها. في المقابل، عرضت واشنطن على تركيا إقامة مناطق آمنة في بعض المناطق المنفصلة عن بعضها بعضًا وبعمق 5-15 كم، مع لعب مقاتلي “قوات سوريا الديمقراطية”، التي يهيمن عليها المقاتلون الأكراد، دورًا في تأمينها على أن تسحب أسلحتها الثقيلة من الشريط الحدودي بين سوريا وتركيا لمسافة 20 كم، وهو ما رفضته أنقرة.

2- إبعاد تهديدات المقاتلين الأكراد عن الحدود التركية، حيث تصنف تركيا “وحدات حماية الشعب” الكردية، التي تشكل العمود الفقري لـ”قوات سوريا الديمقراطية” المدعومة أمريكيًّا، تنظيمًا إرهابيًّا باعتباره الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، الذي يخوض مواجهات ضد الدولة التركية منذ الثمانينيات بهدف إقامة منطقة حكم ذاتي في المناطق ذات الغالبية الكردية بجنوب شرق تركيا.

3- منع إقامة منطقة حكم ذاتي للأكراد في شمال سوريا، ما قد يشجع أكراد الداخل التركي على انتهاج الأمر ذاته، وما يمثله ذلك من تهديد مباشر لتماسك الدولة التركية، حيث تُسيطر “قوات سوريا الديمقراطية”، التي تتشكل غالبيتها من المقاتلين الأكراد، على 28.8% من مساحة سوريا، بإجمالي 53 ألفًا و396 كم مربعًا من مناطق شمال وشرق سوريا، وتشمل تلك المناطق مدينة منبج وريفها في غرب نهر الفرات، وكامل منطقة شرق الفرات باستثناء عدة مناطق تسيطر عليها قوات النظام السوري وحلفاؤها قبالة مدينة دير الزور. وقد أعلن الأكراد النظام الفيدرالي في هذه المناطق في مارس 2016، وتم إجراء انتخابات المجالس البلدية في سبتمبر 2017.

4- إعادة توطين اللاجئين السوريين في شمال سوريا، وهو أحد الأهداف التي يشدد عليها “أردوغان” الذي قال، في 18 سبتمبر 2019، إنه “إذا تم تحويل المنطقة الواقعة شرق نهر الفرات إلى منطقة آمنة، فسيكون من الممكن بناءً على حجم المنطقة الآمنة، توطين ما يصل إلى ثلاثة ملايين لاجئ ما زالوا يعيشون في بلدنا أو في أوروبا”، ودعا أردوغان أوروبا إلى تقديم المزيد من الدعم لتحقيق هذه الخطة.

وأصبح هذا الهدف يمثل أولوية كبيرة لأردوغان في الفترة الأخيرة مع الأزمة الاقتصادية التي تشهدها تركيا، حيث تستضيف تركيا نحو 3.6 ملايين لاجئ سوري، يشكلون ضغطًا على سوق العمل التركية والخدمات المقدمة للمواطنين الأتراك، ما أدى لتزايد رفض الأتراك لوجود اللاجئين السوريين، وحدثت صدامات بينهم في بعض المناطق، خاصة في مدينة إسطنبول، بل وعمدت أحزاب المعارضة التركية لتوظيف هذا الملف في الانتخابات المحلية الأخيرة، التي أُجريت في مارس 2019، في مواجهة حزب العدالة والتنمية، ما أدى لخسارته عددًا من البلديات الرئيسية على رأسها إسطنبول، وهو ما أدركه “أردوغان” ليتخلى عن سياسة الباب المفتوح تجاه اللاجئين، معلنًا في يوليو 2019 اتخاذ إجراءات جديدة تجاه السوريين في تركيا، تشمل التشجيع على العودة وترحيل مرتكبي الجرائم واقتطاع ضرائب نظير العلاج الطبي الذي يتلقونه. فيما أعلن وزير الداخلية التركي “سليمان صويلو”، وقف تسجيل السوريين في مدينة إسطنبول، وترحيل كل من لا يملك وثائق إقامة.

ضوء أخضر أمريكي: 

أعلن البيت الأبيض، الاثنين 7 أكتوبر، في بيان: “أن الرئيس الأمريكي ترامب تحدث مع نظيره التركي أردوغان عبر الهاتف، وتركيا سوف تنفذ قريبًا عمليتها التي خططت لها منذ مدة طويلة في شمال سوريا”، وأضاف البيان أن “القوات الأمريكية لن تدعم أو تشارك في تلك العملية، ولن تتواجد في تلك المنطقة، وتركيا ستكون مسئولة عن جميع مقاتلي داعش المحتجزين في المنطقة”. في غضون ذلك، أخلت القوات الأمريكية قاعدة “تل أرقم” في مدينة رأس العين، كما سحبت عتادها بالكامل من نقطة عسكرية أخرى في مدينة “تل أبيض”، بالقرب من الحدود التركية، شمال شرق سوريا. 

وبرر الرئيس “ترامب” قراره بالقول: “حان الوقت لتخرج الولايات المتحدة من الحروب السخيفة التي لا نهاية لها في سوريا”، وتابع: “سيتعين على تركيا وأوروبا وسوريا وإيران والعراق وروسيا والأكراد تقدير الوضع”. ووسط انتقادات من زعماء الحزبين الديمقراطي والجمهوري ومن الكونجرس لقرار سحب القوات الأمريكية، قال “ترامب” عبر حسابه على تويتر الثلاثاء 8 أكتوبر، إن بلاده لم تتخلّ مطلقًا عن الأكراد، مهددًا بتدمير اقتصاد تركيا إذا أقدمت على تصرف “غير ضروري”، غير أنه وصف في الوقت ذاته تركيا بالشريك التجاري الهام والعضو المعتبر بحلف الناتو، معلنًا أنه سيستضيف نظيره التركي “أردوغان” في البيت الأبيض يوم 13 نوفمبر المقبل. فيما قال “أردوغان” إنه سيبحث مع “ترامب” خطط إقامة “منطقة آمنة”.

وفور بدء تركيا عمليتها العسكرية، أكد “ترامب” أن الولايات المتحدة لا تدعم هذا الهجوم، وأنه أبلغ تركيا بأن هذه العملية “فكرة سيئة”، وأن تركيا تعهدت بحماية المدنيين والأقليات الدينية. فيما قال وزير خارجيته “مايك بومبيو”، إن الولايات المتحدة لم تُعطِ الضوء الأخضر لتركيا كي تغزو سوريا. لكنه أضاف أن أنقرة لديها “مخاوف أمنية مشروعة”.

مواقف مختلفة:

نددت عدد من القوى الأوروبية بالعملية العسكرية التركية في شمال سوريا، وطالبت بوقفها، وعلى رأسها فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وهولندا، معتبرة أنها ستقوض جهود مكافحة تنظيم “داعش”. فيما أعلن الاتحاد الأوروبي، في بيان مشترك لأعضائه، رفض خطط تركيا إقامة منطقة آمنة للاجئين في شمال سوريا، وأن الاتحاد الأوروبي لن يمنح أي مساعدات لإقامتها، داعيًا أنقرة لوقف الهجوم. وتقدمت بريطانيا وفرنسا وألمانيا بمقترح لعقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي لبحث الهجوم التركي على شمال سوريا، ووافق المجلس على عقد الاجتماع يوم الخميس 10 أكتوبر 2019.

وفي الصدد ذاته، أدانت مصر ودولة الإمارات والسعودية الهجوم التركي ووصفته بالعدوان، ودعت مصر لعقد اجتماع طارئ لجامعة الدول العربية لبحث الهجوم، وندد الرئيس العراقي “برهم صالح” بالهجوم التركي، معتبرًا أنه سيساعد الإرهابيين على إعادة تنظيم صفوفهم، فيما اعتبرت الكويت العملية العسكرية تهديدًا مباشرًا للأمن والاستقرار في المنطقة وتقويضًا لفرص الحل السياسي.

في المقابل، قال المتحدث باسم الرئاسة الروسية “ديميتري بيسكوف”، إن “موسكو تدرك وتتفهم إجراءات تركيا لضمان أمنها”، لكنه شدد على ضرورة التزام تركيا بوحدة سوريا الترابية والسياسية. وطالب الرئيس “بوتين” خلال اتصال هاتفي بنظيره “أردوغان” بأن يقيم الأوضاع بـ”حذر” كي لا تتضرر الجهود التي توصلت لها كل من أنقرة وطهران وموسكو في مبادرة أستانة لحل الأزمة السورية.

وفي الختام، من المرجح تركيز الجيش التركي والفصائل السورية الموالية لتركيا هجماتها في بداية العملية العسكرية على منطقة محددة لإخراج القوات الكردية منها، يُرجّح أن يكون القطاع الحدودي بين مدينتي رأس العين وتل أبيض اللتين يفصلهما نحو 100 كم، وهما البلدتان اللتان انسحبت منهما القوات الأمريكية، وتوغلت فيهما القوات التركية مساء يوم الأربعاء، وذلك حتى لا تتورط القوات التركية في مواجهة مفتوحة مع المقاتلين الأكراد على طول الحدود التركية-السورية شاسعة المساحة، فضلًا عن صعوبة تمشيطها وتأمينها فيما بعد. كما أنه من المرجح أن تسعى تركيا خلال الفترة المقبلة لمواجهة الرفض الأوروبي للعملية العسكرية بتوظيف ورقة اللاجئين والهجرة غير الشرعية في وجه القوى الأوروبية، والسعي للحصول على دعمها لإقامة المنطقة الآمنة لإعادة توطين اللاجئين فيها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى