#شوؤن دولية

دلالات الاختراق الصيني جنوبي المحيط الهادئ

الاختراق الصيني جنوبي المحيط الهادئ

السيد صدقي عابدين * ٤-٦-٢٠٢٢م

بينما العالم منشغل بما يجري في أوكرانيا، إذ بوكالات الأنباء تدفع بجزر سليمان إلى صف الأخبار المتقدمة. فما الذي حدث في تلك الدولة الجزرية الصغيرة المساحة قليلة السكان القابعة في أقصى الأرض حتى يحدث ذلك؟. الحدث الرئيسي الذي حرك سلسلة من التفاعلات تمثل في الإعلان الرسمي عن توقيع كل من الصين وجزر سليمان على اتفاق أمني. قبل التوقيع كانت هناك تسريبات حول هذا الاتفاق على مدار الأسابيع القليلة الماضية.

ردود فعل أمريكية واسترالية ونيوزيلندية بالأساس تنظر بريبة وشك في هذا الاتفاق. وفي الوقت نفسه تكثفت التحركات الأمريكية بخصوص إعادة افتتاح سفارة واشنطن في هونيارا عاصمة جزر سليمان. بطبيعة الحال تفاعلت كل من الصين وجزر سليمان مع ردود الفعل تلك. فما الذي طرحاه في هذا السياق؟ وإلى أين تسير الأمور في تلك المنطقة من العالم؟.

مغزى التوقيت

التوقيت الذي أعلن فيه عن الاتفاق الأمني بين الصين وجزر سليمان يحمل دلالات من بينها:

1- إن الاتفاق جاء في ذروة الانشغال العالمي بما يجري في أوكرانيا، وما يشهده العالم من عملية فرز وتصنيف أمريكية وغربية بالنسبة للدول ومواقفها مما يجري، مع ملاحظة التركيز الغربي على الصين، حيث تتوالى التحذيرات الموجهة لبكين من مساعدة روسيا في التغلب على أثر العقوبات أو تعويضها عن خسائرها في الحرب. الصين من جانبها لا تكتفي بتفنيد كل ما يطرح بخصوص سياستها حيال القضية الأوكرانية، وإنما تؤكد صحة موقفها، والأكثر من ذلك تتهم الولايات المتحدة وحلفائها بتحمل جزء كبير من المسئولية عما آلت إليه الأمور في أوكرانيا، ومن ثم سعيهم لتعقيدها بعد اندلاع الحرب وليس تهدئتها.

وهذا يعني أن الملف الأوكراني وتداعياته لم يشغل الصين عن باقي الملفات، وهو الأمر نفسه بالنسبة لواشنطن. واذا كانت الأخيرة تعمل جاهدة مع حلفائها في المنطقة سواء بشكل ثنائي أو جماعي في تحرك واضح الهدف منه الصين، فإنها تتعامل وحلفائها مع الهند بشكل مختلف تماماً على صعيد القضية الأوكرانية على الرغم من أن موقف نيودلهي قريب جداً من موقف بكين من هذه القضية. والهدف من ذلك أيضاً هو أن تكون الهند ضمن الجهود الأمريكية في تطويق الصين.

تلك طبيعة القوى العظمى والكبرى من حيث العمل على كل الملفات وفي كل المناطق في الوقت ذاته. إذ توجد استراتيجيات حاكمة، وضمن هذه الاستراتيجيات يمكن فهم الموقفين الأمريكي والصيني في الملف الأوكراني وفي غيره من الملفات بما في ذلك البيئة الأمنية في منطقة جنوبي المحيط الهادئ.

2- الاتفاق الأمني جاء في ظل سعي أمريكي تجاه جزر جنوبي المحيط الهادئ. تمثل في زيارة لوزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن في فبراير الماضي، وإعلان عن السعي لإعادة افتتاح السفارة الأمريكية في جزر سليمان، والتي أصبح التمثيل الدبلوماسي الأمريكي فيها غير مقيم منذ تم إغلاق السفارة الأمريكية هناك في العام 1993.

أن يأتي الاتفاق وواشنطن تقوم بتلك الخطوات فلذلك معانٍ كثيرة من بينها أن نفوذ واشنطن في تلك المنطقة لا يصل إلى حد منع تلك الدول الصغيرة والفقيرة من الإقدام على تحدي الإرادة الأمريكية. وما كان ذلك ليتم لولا أن هناك من يدعم هذه الدول ويجعلها قادرة على اتخاذ مثل هذه المواقف. كما أنه يمكن قراءة التحرك الأمريكي على أنه في إطار رد الفعل على ما تقوم به الصين. أي أن بكين باتت في بعض الملفات وفي بعض المناطق في موقف المبادر القوي.

3- أعلن عن الاتفاق بعد شهور قليلة من اضطرابات شهدتها جزر سليمان، استدعت معها مساعدة أمنية من دول مجاورة مثل استراليا ونيوزيلندا. إذ أرسلت الدولتان إلى جانب فيجي وغينيا الجديدة قوات للمساعدة في حفظ الأمن. واللافت أنه من بين ما قيل بشأن مضمون الاتفاق إمكانية إرسال الصين قوات من أجل حماية ما أطلق عليه النظام الاجتماعي في جزر سليمان. فهل يعني ذلك أن الأخيرة لم تعد تثق في المساعدات التقليدية التي كانت تأتيها من الدول المشار إليها أم أنها اعتبرت تلك المساعدة غير كافية، وأن هناك حاجة للبحث عن مصادر أخرى أكثر موثوقية ويمكنها تقديم ما يكفي عند الحاجة؟.

4- من الأمور اللافتة بالنسبة لدلالات التوقيت أنه لم تمر على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين وجزر سليمان سوى عامان وسبعة أشهر تحديداً. فقبل سبتمبر 2019 كانت جزر سليمان تعترف بتايوان كدولة، وتقيم معها علاقات دبلوماسية، وتتلقى منها مساعدات. وكانت جزر سليمان من بين المدافعين عن مطالب تايوان بالمشاركة في اجتماعات بعض المنظمات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية. أي أن جزر سليمان لم تكن حتى ذلك التاريخ تعترف بسياسة الصين الواحدة.

عندما اتخذت جزر سليمان القرار بقطع العلاقات مع تايوان والاعتراف بسياسة الصين الواحدة كان الرد التايواني المعتاد من حيث اعتبار ذلك جراء استخدام بكين أدواتها الاقتصادية مع الدول التي تقيم علاقات مع تايبيه من أجل إثنائها عن ذلك. بعيداً عن هذا الاتهام المتكرر، فقد سارت العلاقات بين الصين وجزر سليمان بسرعة نحو الوصول إلى مرحلة التوصل إلى اتفاق أمني، وإن كانت قد برزت بعض الاتهامات الداخلية لرئيس وزراء جزر سليمان ماناسيه سوجافاري بأنه قد استخدام الأموال الصينية لإقناع النواب المعارضين للاتفاق.

من الواضح أن العلاقات بين الجانبين قد شهدت حراكاً واسعاً بما يجعل جزر سليمان تضع ثقتها في بكين. وقد كان من بين ما وجه من انتقادات داخلية للحكومة الاسترالية على خلفية هذا الاتفاق أن الحكومة الحالية قد أهملت تلك المنطقة التي تقع فيها جزر سليمان والقريبة جداً من استراليا، وأن الحكومة لم تنصت إلى التحذيرات التي طرحت منذ شهر أغسطس من العام 2021 بخصوص المؤشرات المتنامية في العلاقات بين الصين وجزر سليمان، بما في ذلك فرص التوصل إلى اتفاق أمني.

الدلالات الاستراتيجية

لم تعد أبعاد التنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين خافية. فالأولى صنفت الثانية في وثائقها الأمنية الرسمية على أنها من بين المصادر التي تهدد مصالحها وأمنها القومي. والثانية تشكك في كل ما تطرحه واشنطن، وتؤكد أنها تعتمد نهج التنمية السلمية الذي يعود بالفائدة ليس فقط على الصين وإنما على باقي دول العالم بما في ذلك الولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه، تقول بكين إنه بينما تبحث واشنطن عن الهيمنة، والعودة إلى التصرف بعقلية الحرب الباردة، والاهتمام بمصالحها الأمنية فقط دون أي اعتبار لمصالح الآخرين، فإنها تطرح منظوراً شاملاً ومستداماً للأمن، وتؤكد في الوقت نفسه أنها لا تتدخل في الشئون الداخلية للدول كما تفعل واشنطن.

وإذا كانت إدارة دونالد ترامب قد أعلنتها حرباً تجارية مفتوحة مع الصين، فإن إدارة جو بايدن سارت على الخطى ذاتها التي وضعت حينما كان بايدن نائباً لأوباما، والذي اعتمد استراتيجية الانعطاف نحو آسيا، بما يعني تكثيف الوجود العسكري الأمريكي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. ووصلت الأمور في ظل الإدارة الحالية إلى تشكيل تجمعات ذات صبغة أمنية غير مسبوقة مثل “أكوس” و”كواد”. الأول يضم كلاً من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا، والثاني يضم الأولى والأخيرة إضافة إلى كل من الهند واليابان. كما أن بايدن قد عمل على إصلاح الهزة التي أحدثها ترامب في العلاقات مع الحلفاء، سواء في أورروبا أو في آسيا.

في ظل هكذا توجهات وإجراءات، لا يمكن تصور بقاء الصين صامتة استراتيجياً، أو اكتفائها بمجرد توجية الانتقادات لما تقوم به واشنطن وحلفائها، ومن ثم فمن المنطقي أن تعمل على إحداث اختراقات في ذلك الجدار الاستراتيجي الذي تحاول واشنطن بناءه حولها. ومن تلك الاختراقات ما حدث مؤخراً مع جزر سليمان. فعلى ضوء ما نشر حول مضمون الاتفاق الأمني، فإن بكين لن يكون بمقدورها فقط إرسال قوات لمعاونة سلطات جزر سليمان على حفظ الأمن، وإنما ستقوم تلك القوات بحماية المصالح الصينية الآخذة في التزايد في جزر سليمان. وقد كانت بعض تلك المصالح من بين ما تم استهدافه في الاحتجاجات الأخيرة في شهر فبراير الماضي. كما أنه سيكون بمقدور السفن الصينية التزود بالوقود والرسو في موانئ جزر سليمان. وهناك تشكيك في أن الأمر يقف عند مجرد وجود زيارات للقطع البحرية الحربية الصينية، وتأكيد على أن الأمر يرتبط بإنشاء قاعدة عسكرية صينية، وهذا ما تعتبره الدول المعنية مباشرة خطاً أحمر لا يمكن السكوت عليه.

طرفا الاتفاق ينفيان ما يقال حول هذه القضية تحديداً، وهناك تناغم في طرحهما من حيث اعتبار الأمر مرتبط بقرار سيادي من قبل الدولتين. وإذا كانت سلطات جزر سليمان تجادل بالقول إن لديها اتفاقاً أمنياً سابقاً مع استراليا، وأنه بالإمكان توقيع اتفاقات أمنية مع دول أخرى، وأنها تنطلق من مبدأ مصادقة الجميع وعدم معاداة أحد، فإن الصين قد اعتبرت أن ما يقال بخصوص القاعدة العسكرية “معلومات مضللة محضة ملفقة”. وطبعاً لم يفت الصين الإشارة إلى أن الولايات المتحدة تمتلك أكبر عدد من القواعد العسكرية في العالم، مطالبة واشنطن بتطبيق المنطق نفسه التي تتحدث عنه من حيث المخاوف بشأن القاعدة الصينية المزعومة على قواعدها “إذا اتبعنا هذا المنطق فإن ما يقرب من 800 قاعدة عسكرية في 80 دولة ومنطقة في جميع أنحاء العالم تديرها الولايات المتحدة لطالما كانت مصدر قلق كبير للعالم. فمتى تغلق الولايات المتحدة تلك القواعد؟”. ولم تقف التساؤلات الصينية عند هذا الحد وإنما امتدت لتشمل الصيغ الجديدة للتعاون التي تضم كلاً من الولايات المتحدة واستراليا الطرفين الأكثر اعتراضاً على الاتفاق الأمني بالقول: “متى ستدعو الولايات المتحدة واستراليا دول جزر جنوب الباسفيك والدول الإقليمية الأخرى لمراجعة تعاون (أوكوس)؟”.

وتضيف الصين بأن اتفاقها الأمني مع جزر سليمان لا يستهدف أطرافاً ثالثة، وليس الهدف منه “استبدال أي آلية أمنية قائمة ثنائية أو متعددة الأطراف”، وهذا خلاف المنطق الأمريكي الذي يريد أن يقصر التعاون الأمني لتلك الدول على واشنطن وحلفائها، واعتبار ما عدا ذلك من تعاون أمني بمثابة تهديد.

وهكذا بينما يتواصل السعي الأمريكي سواء من حيث الرؤية الاستراتيجية أو من حيث التطبيقات على الأرض بخصوص ما بات يعرف بمنطقة “الإندوباسفيك”، جاء هذا الاختراق الصيني في منطقة كان يعتقد أنها بعيدة عن النفوذ الصيني.

ماذا بعد الاتفاق؟

في فترة وجيزة حققت الصين سلسلة من النجاحات على صعيد علاقاتها بجزر سليمان، بدءاً من تحويلها عن الاعتراف بتايوان، وصولاً إلى هذا الاتفاق الأمني. لكن ما الذي يمكن أن يحدث بعد ذلك؟.

من الواضح أن الاتفاق يواجه ثلاثة تحديات رئيسية. أولها المعارضة الداخلية، وثانيها المعارضة الخارجية، وثالثها فرص الإبقاء عليه في حال تغير الحكومة في جزر سليمان. منذ تم الإعلان عما أطلق علية مسودة الاتفاق أواخر شهر مارس الماضي تعرضت الحكومة في جزر سليمان لضغوط كبيرة داخلياً وخارجياً، ومع ذلك مضت قدماً في توقيع الاتفاق. فهل ستمضي بالحماسة نفسها في تطبيق الاتفاق أم أن الضغوط يمكن أن تؤدي إلى بعض التأجيل؟. ربما يكون ذلك أحد الاحتمالات، لكن هناك احتمالاً آخر مفاده التعجيل بالتنفيذ مخافة التعرض لضغوط خارجية تصل إلى حد الإطاحة بالحكومة. وطبعاً الحجج ستكون كثيرة يمكن أن تستخدمها المعارضة الداخلية في ظل وجود مشاكل كثيرة من ناحية، والخبرة المتراكمة من الاحتجاجات من ناحية ثانية، وكذلك الدعم الخارجي الذي يمكن أن يكون غير محدود في هذه الحالة. لكن هل يمكن أن يصل الأمر إلى تدخل عسكري مباشر من قبل أطراف لا تريد للاتفاق الصيني أن ينفذ على أرض الواقع؟ وعندها هل ستقف الصين مكتوفة الأيدي؟.

ربما يكون هناك سيناريو ثالث أو شق من السيناريو الثاني مرتبط بما يمكن تسميته ترقية الاتفاق الأمني، بحيث تتطور مسألة زيارات السفن الصينية إلى بقاء متواصل في ظل الاتفاق على إنشاء قاعدة عسكرية بالفعل.

في الختام، لابد من الإشارة إلى أنه على الرغم  من الإعلان الرسمي عن توقيع الاتفاق، والتأكيد على أنه لا توجد بنود سرية إلا أن نص الاتفاق الرسمي لم يتح بعد. وهذا في حد ذاته يفتح الباب واسعاً أمام كل التأويلات. وربما تشهد الأيام القادمة إفراجاً عن نص الاتفاق وبنوده. وعندها قد تكون هناك جولة جديدة من المبارزات الدبلوماسية، والتي قد تزداد حدتها إذا ما أرفق ذلك بإجراءات تنفيذية على أرض الواقع.

* باحث في العلوم السياسية – متخصص في الشئون الآسيوية – مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية 

مركز الناطور للدراسات والأبحاث  Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى