خالد عكاشة: الخروج الأمريكى الأخير من سوريا

خالد عكاشة 21-4-2025: الخروج الأمريكى الأخير من سوريا
كعادة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب؛ مع بداية كل ولاية رئاسية له، لابد وأن يسعى لإخراج وسحب الجنود الأمريكيين من سوريا، لعدة اعتبارات لم تتغير عادة. أبرزها أن قرار إرسال تلك القوات إلى الشمال الشرقى السوري، صدر من الرئيس أوباما الذى لا يترك الرئيس ترامب فرصة، دون أن يكيل له الاتهام فيما يتعلق بقراراته، التى يرى أنها تمثل إضرارا بالمصالح الأمريكية. ولكى يضمن الرئيس ترامب أكبر مساحة ممكنة للترويج لوجهة نظره، يشفع ذلك بالحديث عن التكلفة المالية الباهظة التى تتكبدها الميزانية الأمريكية، ولا يقف عند تشككه بالآفاق الإستراتيجية المنتظرة، لوجود هذا العدد الكبير من القوات فى تلك البقعة من العالم، فى حين يمكن لحلفاء الولايات المتحدة بهذه المنطقة أن يقوموا بذات الأدوار ويحققوا نفس النتائج، بتكلفة أقل !
أثبت الرئيس ترامب فى كثير من المواقف، أنه عدو لدود للفكر الاستراتيجى المتعلق بالتخطيط متوسط وطويل المدى، وينحاز بشكل حاد إلى القرارات الآنية التى يرى أنها «ملهمة» عادة فى الخروج بحل غير متوقع، تقفز من قبعة الساحر فيبهر بها المراقبين. فيما ينصرف هو بـ«استمتاع» للسخرية من محدودية فكر الآخرين الذين عجزوا قبله، عن الإتيان بحلول خلاقة أمام عديد من مشكلات العالم المركبة، ويوعز ذلك فى غالب الأحيان إما إلى الغباء أو الضعف. هذا النمط ظهر جزئيا فى ولاية الرئيس ترامب الأولي، لكنه فى ولايته الثانية بدا وكأنه قادم ليحشد القوة الأمريكية العظمى بأذرعها المختلفة، كى يصنع زلزالا حقيقيا بدأت أصداؤه تتردد فى جنبات المشهد العالمى الذى لم يستقر بعد. لم تنج الحرب الإسرائيلية على غزة من هذا «التطبيق» الترامبى المدمر، لذلك خرجت الأفكار الخاصة بطرد الفلسطينيين من القطاع وتحويلها إلى مشروع عقارى كبير، وفى ذات السياق تطرح أسئلة غرائبية علنية من نوعية لماذا يريد الفلسطينيون الإقامة فى هذا المكان المدمر، أو لماذا تركت إسرائيل هذه المنطقة من الأصل رغم جودة موقعها وشاطئها الممتد ؟!
الوجود الأمريكى فى سوريا؛ بات اليوم محل بحث من إدارة الرئيس ترامب، خاصة بعد المتغيرات الجديدة وتولى الإدارة السورية الجديدة، فقد نقل مؤخرا عن مسئولين أمريكيين بصحيفة نيويورك تايمز أن الولايات المتحدة شرعت فى سحب مئات من قواتها الموجودة فى شمال شرقى سوريا، وهناك إشارة واضحة أن الجيش الأمريكى أغلق فعليا (3 قواعد عسكرية) تشغيلية من أصل 8 قواعد، كانت تعمل خلال السنوات الماضية تحت مظلة قوات «التحالف الدولى لمكافحة داعش». هذه الخطوة بحسب المسئولين الأمريكيين فى الإدارة، يخفض عمليا عدد القوات الأمريكية الموجودة على الأراضى السورية، إلى نحو (1400 جندي). عادة يبرز خلاف بين الإدارة السياسية وقيادات البنتاجون العسكريين حول أهمية وجدارة، الانتشار العسكرى الأمريكى فى مختلف الساحات ذات الارتباط بالمصالح الأمريكية، والتى تصنف من قبل البنتاجون وفى التقارير الاستخباراتية باعتبارها مناطق «صراع سائل»، أو بتصنيف أقل حدة كونها منطقة «عدم استقرار» قد تكون مرشحة لتجدد أسباب الاشتباك بين طرفين أو عدة أطراف، وبصورة حاسمة تظهر فى هذه التقارير ما يشير إلى عدم «الجدارة / القدرة» للسلطة المحلية على ضبط ومعالجة التحديات الأمنية، وفى بعض الحالات تتضمن تقارير التقييم العام نزوع السلطة المحلية إلى استخدام أساليب ووسائل، من شأنها أن تفاقم حالة الصراع أو التهديد التى تشهده المنطقة محل البحث، ويكون هناك عادة فى هذه النقطة تفصيل له علاقة بالتحفظات التقنية والمهنية أو من الناحية السياسية فى بعض الحالات.
هذه النوعية من تقارير التقييم الأمريكية المعمقة، تتشارك فيها الجهات العسكرية والاستخبارات ووزارة الخارجية، وتخضع فى كثير من الحالات إلى تدقيق ومراجعة من لجان الكونجرس المعنية.بالتأكيد مازالت تكتب وتحرر بالصورة المهنية التى اعتادت الكوادر العاملة عليها إنجازها، وهى تخرج فى صورتها النهائية ممثلة لرأى الكيان الذى يتبناها أو تشارك فيها، وفى الحالة السورية وغيرها هناك جزء من تلك التقارير يأخذ بعين الاعتبار، تقييم موقف ورأى حلفاء الولايات المتحدة من الخطوات الأمريكية المنتظرة. وبالنظر إلى أن إسرائيل لها وضعية خاصة جدا وسط هؤلاء الحلفاء، فلها دراية كاملة بتراتبية صناعة القرار الأمريكى وآلياته، بل ولديها تداخل مادى فى صناعة عديد من تلك القرارات على الأقل بشكل حاسم فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، لهذا ليس سرا ولا غريبا أنها بذلت جهودا كبيرة من أجل تعطيل تبلور قرار أمريكى بشأن قواتها الموجودة فى سوريا. فمن وجهة النظر الإسرائيلية وحماية لمصالحها بالمنطقة، يظل الوجود العسكرى الأمريكى فى هذه المنطقة الجغرافية بالغ الأهمية، فهو معزز استراتيجى كبير للقدرة الإسرائيلية، ليس فى سوريا فحسب انما يمتد ليشمل العراق ولبنان والأردن وقبلهما فى مواجهة إيران مباشرة، وبحساب التوازن أيضا ترى تل أبيب أن القوات والقواعد الأمريكية تسهم فى ترسيخ المعادلة لصالحها، فى حال كان الطرف الآخر تركيا أو روسيا وهذا أيضا اعتبار بالغ الأهمية بالنسبة إلى المجال الحيوى الإسرائيلي.
المعلن حتى الآن على الأقل؛ أن الجهود الإسرائيلية فشلت هذه المرة وأن ترتيبات أمريكية جديدة فيما يتعلق بوجدها العسكرى فى سوريا بات قيد التشكل، البنتاجون ربما بإيعاز رئاسى أعلن أن تحركات القوات الأمريكية فى سوريا والمناطق المختلفة من العالم، تظهر الطبيعة المرنة للتموضع الدفاعى العالمى للولايات المتحدة، لهذا تقوم الوزارة كل فترة بشكل روتينى بإعادة تخصيص القوات استنادا إلى الاحتياجات التشغيلية والاحتمالات الطارئة، وهذا يعكس قدرتها على الانتشار فى جميع أنحاء العالم بسرعة قصيرة لمواجهة التهديدات الأمنية المتطورة. الخطة الأمريكية الجديدة بحسب جدولها الزمني؛ ستبدأ فى غضون الشهرين المقبلين، وعلى المستوى الميدانى سيكون هناك تقليص متدرج للأعداد، يصاحبه تجميع المتبقين فى عدد قواعد عسكرية تشغيلية أقل. لم يصدر عن البنتاجون إى إشارة عن خروج نهائى أو كامل من سوريا، فسيظل ما يقارب (1000 جندي) أمريكى إلى مدى غير منظور، فأهمية هذا الموقع عسكريا واستخباراتيا للولايات المتحدة ذاتها ليس بأقل من الاهتمام الإسرائيلي، إن لم يكن يفوقه فى بعض المعادلات الأمريكية الخالصة.
*خالد عكاشة – المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية