#شؤون فلسطينية

خالد عطية وغانية ملحيس: الفعل المقاوم والفاعل التنظيمي: قراءة نقدية في وثيقة “روايتنا… طوفان الأقصى” وبنية الحامل السياسي الفلسطيني

خالد عطية وغانية ملحيس 29-12-2025: الفعل المقاوم والفاعل التنظيمي: قراءة نقدية في وثيقة “روايتنا… طوفان الأقصى” وبنية الحامل السياسي الفلسطيني

ملخص تنفيذي

يقدّم هذا المقال قراءة نقدية لوثيقة «روايتنا… طوفان الأقصى»، مميزا بين الفعل المقاوم كحق تحرري وضرورة وجودية، والفاعل التنظيمي بوصفه إطارا محدد المسؤولية قابلا للنقد والمساءلة. ويؤكد المقال على أهمية بناء حامل سياسي وطني جامع قادر على تحويل الشرعية الشعبية إلى مؤسسات مسؤولة، تضمن ممارسة السياسة بمساءلة وتمثيل فعلي. الهدف هو فتح نقاش وطني شامل يربط بين المقاومة والمجتمع والمؤسسات، ويمنع اختزال المشروع التحرري الفلسطيني في إطار تنظيمي ضيق.

أهم النقاط:

  1. الحوار الجمعي شرط البقاء: التفكير الجماعي يوسع أفق القرار الوطني ويحول المقاومة من أداة تنظيمية ضيقة إلى فعل مجتمعي شامل.
  2. القراءة النقدية للوثيقة:
  • الوثيقة جريئة في تعريف الاستعمار الاستيطاني، لكنها تميل إلى خطاب التبرير عند الحديث عن الذات الفلسطينية.
  • غياب مراجعة نقدية للتجارب السابقة والانقسام الفلسطيني يجعل إدارة الصراع غير واضحة ومفتوحة على التأويل.

3- التمييز بين المقاومة والتنظيم: المقاومة حق جماعي للتحرر، بينما التنظيم إطار تاريخي محدود يمكن نقده وإعادة بنائه.

  1. الحاجة لعقد وطني وحامل سياسي: ضرورة وجود إطار مؤسساتي ينظم العلاقة بين المجتمع والمقاومة ويحوّل الشرعية الرمزية إلى شرعية قابلة للإدارة والمساءلة.
  2. الشرعية والتمثيل السياسي: المقاومة تحتاج إلى آليات واضحة للتمثيل السياسي وليس مجرد شرعية أخلاقية أو رمزية.
  3. اللغة الرمزية والسياسة الواقعية: الرمزية تدعم الصمود لكنها لا تعوّض عن التخطيط المؤسسي، واللغة السياسية يجب أن تفتح النقاش حول الدولة، التعددية، وآليات اتخاذ القرار.
  4.  الأخلاق والسياسة: قيم الكرامة والعدالة والحرية تدعم السياسة لكنها لا تنظمها. والفصل بين الأخلاق والسياسة ضروري لضمان ممارسة مؤسسية مسؤولة.

الرسالة الأساسية:

تمييز المقاومة عن التنظيم وبناء حامل سياسي وطني جامع هو الطريق لضمان استمرار مشروع التحرر الفلسطيني بعيدا عن الاختزال التنظيمي والاحتكار. السؤال المركزي: كيف يمكن تحويل الشرعية الرمزية إلى مؤسسات قادرة على اتخاذ القرار باسم المجتمع؟

المقال الكامل 

الفعل المقاوم والفاعل التنظيمي: قراءة نقدية في وثيقة “روايتنا… طوفان الأقصى” وبنية الحامل السياسي الفلسطيني

أهمية الحوار الجمعي:

يقدَّم هذا المقال إلى الرأي العام الفلسطيني بوصفه ثمرة اشتباكٍ فكريّ حيّ وحوار نقدي متواصل بين خالد عطية وغانية ملحيس، اشتباك لم يسع إلى توحيد العبارات بقدر ما سعى إلى توسيع أفق التفكير وإغناء المقاربة. لقد جاء هذا الجهد المشترك إيمانا بأن التفكير الجمعي ليس ترفا، ولا مجرّد تبادل للنصوص، بل هو شرط من شروط البقاء وإعادة بناء قدرتنا الوطنية على الفعل في لحظة تاريخية فارقة.

إن الأفكار لا تنمو في العزلة، بل في اللقاء والاختلاف والحوار. لذلك فإننا نتوجه بهذا المقال إلى شعبنا الفلسطيني بكل أطيافه، مؤكدين أن تلاقي الرؤى وتفاعل التجارب بين المفكرين والفاعلين السياسيين والمجتمعيين هو السبيل لمنع احتكار الحقيقة من جهة، ومنع الصمت القسري من جهة أخرى. فحين نفكر معا، نحمي المقاومة من اختزالها في تنظيم، ونرد لها معناها الأعمق بوصفها فعل مجتمع يسعى إلى الحرية، ونحوّل الشرعية الشعبية إلى مشروع سياسي منظم يقوم على التمثيل والمساءلة والرقابة.

لقد علمتنا التجربة الفلسطينية أن الكلفة الكبرى كانت دائما ثمرة القرارات المنفردة وغياب النقاش العام. لذلك يأتي هذا المقال دعوة مفتوحة إلى الحوار، لا وصاية فيه ولا ادعاء امتلاك الحقيقة، بل محاولة لإعادة وضع الأسئلة في فضائها الوطني المشترك، حيث يشارك الشعب في التفكير بقدر مشاركته في التضحية. إن هدفنا هو الإسهام المتواضع في بناء تفكير وطني جماعي، يربط بين المقاومة والمجتمع والمؤسسات، ويفتح الطريق نحو حامل سياسي جامع قادرعلى تحويل الشرعية الشعبية إلى قوة منظمة، وعلى حماية مشروع التحرر من الاختزال والاحتكار معا.

قراءة الوثيقة: السياق التاريخي والمعنى السياسي

وانطلاقا من هذا الأفق الحواري الجمعي، تأتي القراءة التالية للوثيقة موضوع النقاش في محاولة نقد بنّاء، لا بقصد الاتهام ولا التبرير، بل بقصد الفهم وإعادة طرح الأسئلة الكبرى في مكانها الطبيعي داخل المجال العام الفلسطيني.

من الصعب التعامل مع وثيقة «روايتنا… طوفان الأقصى» بوصفها بيانا دعائيا أو نصا تعبويا عابرا. إنها وثيقة تصدر في لحظة تاريخية ينكشف فيها المشروع الاستعماري الاستيطاني بوصفه منظومة اقتلاع وإبادة لا تعايش معها ولا تسوية، لحظة تتداعى فيها الحدود التقليدية بين الحرب والسياسة، وتنتقل الأسئلة الكبرى من مستوى الوصف إلى مستوى إعادة تعريف الشرعية والمعنى والقرار والكلفة في الحقل السياسي الفلسطيني كله.

في هذا السياق، تصبح المقاومة فعل بقاء لا رفاهية فيه ولا خيارا هامشيا، غير أن البقاء نفسه لا يعفي السياسة من شروطها: سياسة تحتاج إلى حامل، وإلى تحديد واضح لمن يملك القرار، ومن يتحمل مسؤوليته، ومن يدفع أثمانه.

الجرأة في التسمية والحدود المفهومية

تحسب للوثيقة جرأتها في تسمية ما يجري دون مواربة. فهي لا تتحدث عن “نزاع قابل للإدارة”، بل تعيد تعريف الواقع بوصفه استعمارا استيطانيا إحلاليا يعمل على إزاحة الشعب ماديا ورمزيا. هذا الحسم المفاهيمي لا يُعد تفصيلا لغويا؛ إنه إعادة تثبيت للقضية داخل أفق التحرر الوطني لا داخل سوق التسويات القانونية.

غير أن هذا الوضوح يتراجع حين تنتقل الوثيقة من تعريف العدو إلى تعريف الذات، فالنص يقترب عند هذه النقطة من خطاب التبرير أكثر من كونه خطاب تأسيس. اللغة تدافع عن القرار ولا تفتح آليات إنتاجه للمساءلة العامة، وتتحول الوثيقة إلى شرعنة لاحقة لفعل اتُّخذ مسبقا بدل أن تكون إطارا لإعادة التفكير في كيفية اتخاذ القرار نفسه. وهكذا يظل الحسم النظري في تعريف الاستعمار قائما، فيما تظل مفاهيم الشرعية والتمثيل والسيادة والسياسة في حالة سيولة تتداخل فيها الحركة، والسلطة، والمقاومة والإدارة، والشرعية الرمزية، والشرعية المؤسسية دون قرار نهائي.

السياق التاريخي ومراجعة التجارب السابقة

تضع الوثيقة نفسها بوعي داخل السياق التاريخي الممتد من النكبة إلى الحرب الراهنة. إنها تقرأ تراكم العنف الاستعماري، وصعود الفاشية الدينية الاستيطانية داخل المجتمع الإسرائيلي، وتربط الانفجار الحالي بهذا المسار.  لكنها تكتفي في الغالب بسرد الوقائع ولا تذهب إلى مراجعة نقدية بنيوية للتجارب الفلسطينية السابقة، ولا تفكك الانقسام كبنية منتجة لا كحادثة عابرة، ولا تحاسب الدور الفلسطيني في إنتاج الشروط التي انتهت إليها الساحة. خطاب تحميل الاحتلال المسؤولية حاضر بقوة وبحق، لكن خطاب مساءلة الذات لا يصل إلى العمق نفسه. الصراع يُعرّف تحرريا على نحو واضح، لكن إدارة هذا الصراع – بما تتطلبه من جهاز تمثيل ومساءلة وآليات اتخاذ قرار – تبقى في المنطقة الرمادية التي تغطيها اللغة أكثر مما تكشفها.

ويبرز هنا بوضوح أن الإشارة إلى غياب الحامل السياسي، رغم دقتها التحليلية، تظل ناقصة ما لم تُستكمل بتحديد إيجابي لماهية هذا الحامل الممكن. فالحامل السياسي المقصود لا يُختزل في تنظيم بديل، ولا في إعادة إنتاج نخبة قيادية جديدة، بل يُفهم بوصفه بنية تمثيلية وطنية جامعة، تُعاد صياغتها على أساس عقد سياسي واضح يربط بين المجتمع والمقاومة والمؤسسات.

 هذا الحامل لا يُؤسَّس عبر الإجماع الخطابي أو الشرعية الرمزية وحدها، بل عبر آليات محددة: تمثيل تعددي، مساءلة دورية، توزيع واضح للصلاحيات، وفصل وظيفي بين إدارة الشأن المدني وقيادة الفعل المقاوم، بما يمنع تحويل المقاومة إلى أداة حكم، أو تحويل الحكم إلى قيد على المقاومة.

الفصل بين المقاومة والتنظيم والعقد الوطني

وهنا ينهض السؤال المفصلي الذي يعيد ترتيب القراءة النقدية للوثيقة: كيف نفصل بين الفعل المقاوم بوصفه حقا تحرريا وضرورة وجودية للشعب، وبين الفاعل التنظيمي الذي يدّعي تمثيله أو قيادته؟

إن هذا الفصل ليس تمرينا لغويا ولا محاولة التفاف، بل هو مدخل نظري وسياسي يتيح نقد التنظيمات وآليات اتخاذ القرار دون الانزلاق إلى تجريم المقاومة نفسها أو نزع شرعيتها. فالمقاومة تُفهم هنا باعتبارها فعل مجتمع يسعى للبقاء والتحرر، بينما التنظيم هو إطار بشري تاريخي محدد بظروفه ومصالحه وحدوده وقابليته للمساءلة والاحتواء وإعادة البناء.

غير أن هذا الفصل لا يكتمل من دون استكماله بمفهوم ثالث غائب في الوثيقة: العقد السياسي الناظم للمقاومة. فالمقاومة، بوصفها حقا تاريخيا وجماعيا، لا يمكن أن تُدار بمنطق التفويض المفتوح أو الضرورة الدائمة، بل تحتاج إلى عقد وطني يحدد من يقرر، وبأي آلية، وتحت أي رقابة، ولأي أفق استراتيجي.

غياب هذا العقد هو ما يجعل المقاومة عرضة للتحول من أداة تحرر إلى عبء سياسي، لا بسبب طبيعتها، بل بسبب غياب الإطار الذي ينظم علاقتها بالمجتمع ويحوّل التضحيات إلى مكاسب سياسية قابلة للتراكم.

إن القراءة التي تعتمد هذا الفصل تسمح بتأكيد حقيقتين في آن واحد:

  1. أن الفعل المقاوم ليس ملكا لتنظيم بعينه ولا حكرا عليه
  2. وأن التنظيمات المسلحة والسياسية، أيا كانت، ليست فوق النقد ولا خارج منطق المساءلة العامة

بهذا المعنى، لا يعود النقد موجها إلى المقاومة كحق، بل إلى الفاعل التنظيمي الذي يحتكر القرار ويختزل الشرعية في بنيته الداخلية. وهنا تتضح أهمية التأسيس لحامل سياسي وطني جامع لا يقوم على الاستبدال التنظيمي، بل على إعادة تعريف العلاقة بين المجتمع، والمقاومة، والسياسة، والمؤسسات.

الشرعية والتمثيل السياسي

في قلب الوثيقة تقف مسألة الشرعية. الشعب يظهر موحدا، صامدا، ملتحما بالمقاومة، لكنه يُقدَّم في الغالب بوصفه كتلة أخلاقية ملحمية أكثر منه جماعة سياسية متعدّدة الفاعلين والخيارات. تُستمد الشرعية من الدم والتضحية والصمود، غير أن السؤال المؤجل يظل هو نفسه: كيف تتحول الشرعية إلى تمثيل سياسي؟ من يوقع باسمه؟ من يقرر الحرب والسلم؟ من يحدد حدود الكلفة والزمن؟ الوثيقة تتحدث باسم الشعب لكنها لا تقترح آليات لتمثيله، ولا تعيد تعريف وظيفة المؤسسات القائمة، ولا ترسم تصورا لإعادة بناء الإطار الوطني الجامع بما يعيد توزيع السلطة والقرار. وهكذا تتبلور المعادلة الأخطر: شرعية مرتفعة بلا حامل سياسي جامع، ومقاومة تُنسب إلى الشعب لكنها تُدار فعليا بقرار تنظيمي مغلق.

الذروة الرمزية واللغة السياسية

إن تحويل غزة إلى ذروة رمزية للمقاومة يعيد الاعتبار للتضحية والصمود، لكنه يحمل خطرا كامنا يتمثل في تعليق السياسة عند الذروة بدل تحويلها إلى نقطة انطلاق. فالذروات لا تُدار، بل يُبنى عليها. ومن دون تصور مرحلي واضح لما بعد الذروة – سياسيا ومؤسسيا واجتماعيا – تتحول الرمزية من رافعة تحرر إلى أفق مغلق يعيد إنتاج الاستثناء الدائم. المطلوب ليس خفض منسوب الرمزية، بل إخضاعها لمسار سياسي تراكمي يمنع تحويل الاستثناء التاريخي إلى قاعدة حكم.

اللغة السياسية في الوثيقة هادئة ومحسوبة، واعية لساحة الاشتباك الدولي، لكنها مُفلترة على نحو يقصي قضايا مركزية مثل شكل الدولة وطبيعتها، وإدارة التعددية الفلسطينية، وشروط بناء الدولة التحررية التعددية. إن فتح هذا النقاش لا يعني فرض نموذج مسبق، بل الاعتراف بأن الدولة ليست تفصيلا تقنيا مؤجلا، بل جزء من تعريف معنى التحرر نفسه.

ولا يقف الأمر عند حدود وثيقة بعينها. فمراجعة وثائق الحركات الكبرى – من ميثاق التأسيس إلى وثائق المراجعة اللاحقة – تكشف مسارا يشبه ما عرفته قوى فلسطينية سابقة: انتقال بين اللغة الأيديولوجية والبراغماتية، وتوسّع في الخطاب دون اكتمال مواز في البناء المؤسسي. هذا التشابه لا يُقرأ بوصفه تكرارا للنصوص فقط، بل بوصفه تكرارا لبنية الفعل التنظيمي ذاتها: تنظيم قويّ وشرعية مرتفعة، ومجتمع حاضر بقوة في الخطاب وضعيف الحضور في آليات القرار.

لا تقف الوثيقة عند حدود تحديد الموقف السياسي، بل تصوغ خطابها بلغة محسوبة بعناية. اللغة السياسية فيها هادئة ومدروسة، تتجنب التصعيد اللفظي والمصطلحات التي قد تُستثمر دوليا لتجريمها، وتتحرك ضمن حيز مفاهيمي يحرص على ضبط المفردة وتخفيف حدّتها دون التنازل عن مضمونها. هذا الانضباط اللغوي يعكس وعيا بساحة الاشتباك الدولية وبموازين القوى، لكنه في الوقت ذاته يشي بقدر من “الفلترة السياسية” التي تُقصي بعض المصطلحات وتُغيّب بعض الحقول الدلالية عن قصد. فاللغة هنا ليست فقط وسيلة للتوصيل، بل أداة لإدارة الصورة والاتهام والشرعية على السواء.

وما لا تقوله اللغة يكاد يكون بقدر ما تقوله. فالتفصيل في شكل المقاومة المقبلة غائب، كما تغيب الإجابة على كيفية إدارة التعددية الفلسطينية، وتتحول قضايا كبرى مثل حق العودة وإنهاء نظام التمييز العنصري داخل فلسطين التاريخية إلى عناوين عامة، يتم تجاوزها أحيانا، لا إلى برامج سياسية واضحة. كذلك لا يجري الحسم في سؤال الدولة النهائية وطبيعتها: دولة وطنية تعددية لجميع مواطنيها، أم كيان انتقالي، أم صيغة مفتوحة على التأويل. إن إسقاط هذه القضايا لا يبدو زلة أو سهوا، بل خيارا سياسيا يقصد ترك الأفق مفتوحًا وإبقاء مساحة الحركة واسعة دون التزام محدد.

الأخلاق والسياسة

في مستوى العلاقة بين الأخلاق والسياسة، لا تنزلق الوثيقة إلى استبدال السياسة بالأخلاق، لكنها تميل إلى تليين السياسة بخطاب أخلاقي إنساني عام. تُستحضر قيم الكرامة والعدالة والحرية وحقوق الضحايا بوصفها سندا معنويا وخطابيا للفعل السياسي والعسكري، لكن هذا الاستحضار لا يتحول دائما إلى قواعد عملية لإدارة القرار والمساءلة والكلفة. الأخلاق هنا تُسنِد السياسة لكنها لا تُنظمها، وتضبط نبرة الخطاب لكنها لا ترسم حدود الممارسة المؤسسية. وهنا يبرز التوتر بين ملحمية الأخلاق وصرامة السياسة.

لكن التحدي الأكبر لا يكمن في اللغة وحدها، بل فيمن يحمل المشروع السياسي. فالفصل بين الفعل المقاوم والفاعل التنظيمي يقود مباشرة إلى السؤال عن الحامل السياسي المنشود: هل يبقى أسير التنظيمات والفصائل القائمة، أم يتجاوزها إلى إطار وطنيّ جامع يُعاد تأسيسه على قاعدة التمثيل والمساءلة؟ إن الخطر ليس في قوة التنظيمات والفصائل فقط، بل في ضعف البنية الوطنية الجامعة التي تستطيع تحويل الشرعية الرمزية إلى شرعية مؤسسية قادرة على اتخاذ القرار باسم المجتمع لا بالنيابة عنه.

الوظائف المتعددة للوثيقة

وظيفيا، تحاول الوثيقة أن تمسك بعدة أدوار في آن واحد: أداة تعبئة داخلية، وسردية موجهة للخارج، وتبرير أخلاقي للفعل، وتفكيك لسردية العدو. غير أنها حين تُختبر كبرنامج سياسي قابل للتحول إلى سياسات عامة، تبقى أقرب إلى نصّ إعلان منها إلى خطة عمل. فهي لا توفر آليات واضحة لإدارة المرحلة التالية، ولا تقدم تصورا مؤسسيا لربط المقاومة بالبنية السياسية، ولا تُبيّن كيف تنتقل الشرعية الرمزية إلى مؤسسات تمثيلية خاضعة للمساءلة. بل تميل في مواضع كثيرة إلى تحويل “الواقعية” إلى أداة تبرير، وإلى استخدام اللغة الملحمية لإغلاق الأسئلة بدل فتحها.

في المحصلة، لا تنتمي الوثيقة إلى منطق الامتثال الذي ساد مرحلة أوسلو، لكنها لا تصل أيضا إلى مستوى وثيقة تحرر مكتملة الأركان. إنها نصّ انتقالي بامتياز، يمسك بخطاب التحرر ويترك السياسة مفتوحة بلا تعريف حاسم، يلمح إلى الدولة ولا يتورط في تسميتها صراحة، يرفع من شأن الشرعية ولا يبني بنيتها المؤسسية الحاملة.

الرسالة الأساسية

السؤال المؤجل في الوثيقة هو السؤال المركزي في الواقع:

هل سيعاد فتح أفق التحرر بوصفه مشروعا سياسيا منظما يقوم على التمثيل والمساءلة، أم سيُثبَّت وعي ملحمي عال السقف بلا حامل سياسي جامع؟

وهل ستبقى الفواعل المقاومة في موقع القداسة غير القابلة للمساءلة، أم ستدخل في إطار وطنيّ مؤسسي يخضع للرقابة ويعبّر عن المجتمع لا عنها فقط؟

إن الإجابة تمرّ عبر خطوة أولى واضحة: تمييز المقاومة كحق تاريخي ومشروع تحرري عن التنظيمات القائمة كفاعلين تاريخيين محدودين قابلين للنقد والمساءلة وإعادة البناء. ومن هذا التمييز تنفتح إمكانية إعادة تأسيس الإطار الوطني الجامع، وربط المقاومة بإستراتيجية وطنية مُعلنة لا بقرار تنظيمي مغلق، وتحويل الشرعية الرمزية إلى شرعية مؤسسية قادرة على حمل مشروع التحرر إلى أفقه الممكن.

لا تهدف هذه القراءة إلى إغلاق النقاش، بل إلى فتحه على أساس وطني أوسع، يميّز بين المقاومة كحق، والتنظيم كفاعل أيا تكون هويته، والسياسة كعقد جامع. فالنقد هنا ليس نقيضا للوحدة، بل شرطها، وليس تهديدا للمقاومة، بل حماية لها من الاختزال والاحتكار، ومن تحويل الشرعية الرمزية إلى بديل دائم عن السياسة نفسها.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى