ترجمات أجنبية

خافيير سولانا يكتب – انتخاب التعددية في أميركا

خافيير سولانا *  ــ 26/10/2020

عندما أصبح دونالد ترامب المرشح لمنصب الرئاسة عن الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة العام 2016، توقع كثيرون أن يخفف من حِـدة خطابه التحريضي أثناء الحملة الانتخابية ضد هيلاري كلينتون من أجل اجتذاب الناخبين المعتدلين. وبعد انتخاب ترامب دون أن يُـبـدي مثقال ذرة من ضبط النفس المأمول، قال كثيرون إن الرئاسة والجمهوريين في الكونجرس سيحملونه على تبني لهجة أكثر وقارا.

اليوم، بتنا نعلم كم كانت تلك التوقعات ساذجة. فلم يخفف ترامب من حدة طباعه بمجرد توليه منصبه، بل صار أكثر تهورا وميلا إلى التهييج والتحريض. أكبر مصدر للقلق الآن ليس أسلوب ترامب الذي لم يتغير، بل حقيقة مفادها أن الحزب الجمهوري وحكومة الولايات المتحدة أفرغا ذاتيهما في قالب على شاكلة ترامب. الواقع أن قِـلة من الجمهوريين يجرؤون على معارضته أو مراجعته، وداخل الإدارة أحاط ترامب نفسه ببطانة من الإمَّـعات، وأبعد أو هَـمَّـشَ القلائل الذين عارضوا أفكاره الأكثر سَـخَـفا ومنافاة للعقل. ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، يجدر بنا أن نتذكر الطرق العديدة التي تخلى بها ترمب والحزب الجمهوري تماما عن أي حس بمسؤولية الولايات المتحدة تجاه بقية العالم.

بادئ ذي بدء، لجأ ترامب بانتظام إلى النزعة القومية، وهو ما انعكس في شعارات فجة مثل “أميركا أولا” و”لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى”. وقد لَـعَـنَ كل محاولة لتعزيز التعاون العالمي باسم مفهوم السيادة الوطنية الذي عفا عليه الزمن. وفي مواجهة الجائحة الحالية، تبنى ترامب ما يسمى “قومية اللقاح”، رافضا المشاركة في مبادرة COVAX، التي تدعمها منظمة الصحة العالمية وتسعى إلى ضمان التوزيع العادل لأي لقاح لمرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد 19).

مرة تلو الأخرى، ازدرى ترامب الحلول المتعددة الأطراف لصالح الاتفاقيات الثنائية والعمل الأحادي. كما شككت إدارته في العديد من التزامات أميركا الدولية، بل وتخلت عن بعضها، وأبرزها اتفاقية باريس للمناخ لعام 2015 والاتفاق النووي مع إيران (وفرضت في الحالة الأخيرة عقوبات ثانوية ظالمة على دول ثالثة). أسس ترمب سياسته الخارجية في الأساس على المفاجآت الدرامية، مثل اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني في يناير/كانون الثاني 2020 والاعتراف في وقت سابق بالقدس عاصمة لإسرائيل.

أوضح ترامب أنه ينظر إلى العلاقات الدولية على أنها مباراة محصلتها صِـفر. وهذا الموقف هو الأساس الذي قامت عليه سياساته المتعلقة بالتعريفات الجمركية، وعلى وجه التحديد “حربه التجارية” مع الصين. في العام 2018 نشر على موقع تويتر تغريدة قال فيها: “عندما تخسر دولة (الولايات المتحدة) عدة مليارات من الدولارات في التجارة مع كل دولة تتعاملمعها تقريبا، تصبح الحروب التجارية ملائمة، والفوز بها سهلا”. علاوة على ذلك، يتوقع ترمب الاستفادة بشكل شخصي من دبلوماسية الولايات المتحدة، كما أظهرت فضيحة أوكرانيا التي أدت إلى توجيه الاتهام إليه أمام مجلس النواب الأميركي في ديسمبر/كانون الأول الماضي.

أخيرا، أظهر ترامب جانبا غير ليبرالي، فازدرى الضوابط والتوازنات المؤسسية وحـط من قدر المنافذ الإعلامية الأميركية لنشرها “أخبار كاذبة” (كان ذلك أشبه بمن يلقي حجرا من داخل بيته الزجاجي). على المستوى الدولي، دعم ترامب سلسلة من القادة غير الليبراليين، الذي يهتمون مثله ببقائهم السياسي أكثر من اهتمامهم بالصحة الديمقراطية في بلدانهم. ولا يستخدم هؤلاء القادة مصطلح حقوق الإنسان إلا عندما يستحضرونه على نحو انتقائي لأسباب تتعلق بمصالحهم الذاتية.

في ظل ولاية ترامب المضطربة، تخلت الولايات المتحدة صراحة عن الوصاية على “النظام الليبرالي”. لكن لا ينبغي لنا أن نخدع أنفسنا بالاعتقاد أن فوز منافسه الديمقراطي يعني عودة فورية إلى عالم الأمس. فعلى الرغم من كل الاختلافات الجذرية بين المرشحين، لا يخلو برنامجاهما الانتخابيان من بعض العناصر المشتركة.

على سبيل المثال، يدعو بايدن إلى إعطاء معاملة تفضيلية للمنتجات الأميركية ودعم الصناعات المحلية. ذهب الحزب الديمقراطي أيضا إلى تشديد موقفه تجاه الصين (وإن كان أقل عدوانية من ترامب في التعامل مع هذه القضية)، كما يؤكد الحزب على رجاحة الاعتماد على الحلفاء. أيا كان الفائز في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني، فسوف تظل المعركة الصينية الأميركية للفوز بالتفوق التكنولوجي ــ بما في ذلك في مجال الذكاء الاصطناعي ــ شرسة.

في كل الأحوال، من الخطأ إضفاء الطابع المثالي على الماضي والتطلع إلى إعادة إنتاجه. الواقع أن الفترة التي تولت فيها أميركا الأمور باعتبارها قوة عالمية رائدة لم تخل من سقطات ونقاط مضيئة، وكانت المشاكل البنيوية التي تعاني منها البلاد قائمة قبل فترة طويلة من تولي ترمب منصبه (الواقع أن بعض هذه المشاكل تساعد في تفسير انتخابه في عام 2016). ويصدق القول ذاته على التوترات العديدة التي تبتلي النظام الدولي حاليا.

لذا، يتعين علينا أن ننحي الحنين إلى الماضي جانبا ونركز اهتمامنا على مواجهة عالم الغد. لقد أظهرت جائحة كوفيد-19 بشكل صارخ أن التعاون المتعدد الأطراف ليس خيارا، بل هو التزام، لكننا رغم ذلك نسمح بانحدار العديد من المنظمات الدولية أمام أعيننا. فها هي ذي مؤسسة بالغة الأهمية مثل منظمة الصحة العالمية تعاني حاليا من نقص مقلق في الموارد، وخاصة منذ سحب ترمب التمويل الأميركي. من ناحية أخرى، تظل هيئة تسوية المنازعات التابعة لمنظمة التجارة العالمية مشلولة لأن ترامب يرفض السماح بتعيين قضاة جدد في هيئتها الاستئنافية.

تماما كما يحتاج العالم إلى إصلاح هذه المؤسسات بهدف تكييفها مع البيئات التي سيتعين عليها الإبحار عبرها، فإنه يحتاج أيضا إلى ضوابط تنظيمية عالمية جديدة في مواجهة التحديات التي يفرضها الذكاء الاصطناعي وغير ذلك من التكنولوجيات الناشئة. وبطبيعة الحال، يتعين علينا أن نواصل التقدم بثبات على مسار مكافحة تغير المناخ. أعلنت الصين مؤخرا اعتزامها تحقيق هدف الحياد الكربوني بحلول عام 2060، في حين جعلت المفوضية الأوروبية برئاسة أورسولا فون دير لاين الصفقة الأوروبية الخضراء واحدة من أولوياتها الرئيسة. وهذا هو الخيط الذي يتعين علينا أن نتبعه.

الحق أن الكثير من مصالح أميركا والعالم معلق على الثالث من تشرين الثاني (نوفمبر). ورغم أن إدارة بايدن المحتملة لن تحل كل المشاكل التي قد ترثها، فإنها ستسمح للولايات المتحدة بتجديد التزاماتها التي هجرتها، والتعامل مع حلفائها الغربيين كشركاء وأصدقاء حقيقيين، وإعادة اكتشاف سياسة خارجية أقل ميلودرامية وأكثر عقلانية. من ناحية أخرى، ستؤدي إعادة انتخاب ترمب إلى تعميق الاتجاهات الموصوفة هنا، وتوسيع هوة الخلاف بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بل وربما حتى إلحاق ضرر لا يمكن إصلاحه بالتعاون الدولي.

أيا كانت نتيجة الانتخابات الأميركية، سيكون لزاما على العالم أن يتعامل مع واقع بسيط وغير قابل للتغيير: لا تستطيع أي دولة، مهما بلغت من أهمية، أن تواجه بمفردها التحديات العالمية التي تهددنا جميعا.

*خافيير سولانا الممثل الأعلى الأسبق للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي، وأمين عام منظمة حلف شمال الأطلسي ووزير خارجية إسبانيا سابقا. ويشغل حاليا منصب رئيس EsadeGeo ــ مركز الاقتصاد العالمي والدراسات الجيوسياسية، وهو زميل متميز لدى مؤسسة بروكنجز.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى