أقلام وأراء

حسن نافعة يكتب – في نتائج الانتخابات الإسرائيلية

حسن نافعة *- 3/4/2021

لم تنجح الانتخابات التشريعية الإسرائيلية التي جرت أخيرا، وهي الرابعة في أقل من عامين، في إيجاد مخرج للأزمة التي تمسك بتلابيب الحياة السياسية في إسرائيل، فقد أسفرت عن نتائج لا تساعد مطلقا على تشكيل حكومة مستقرّة، أو قابلة للاستقرار. لذا يرجّح معظم المراقبين فشل كل المرشحين المحتملين لتشكيل (وقيادة) حكومة تحظى بموافقة 61 نائبا في الكنيست، وهو الحد الأدنى للعدد المطلوب للفوز بثقة السلطة التشريعية. وحتى في حال نجاح أحد هؤلاء في تشكيل حكومةٍ تحظى بثقة أغلبية أعضاء الكنيست، فسوف تحتوي هذه الحكومة، في داخلها، على تناقضاتٍ تكفي لتفجيرها في أي لحظة، ومن ثم لن يكون هناك مفر آخر سوى اللجوء إلى انتخابات تشريعية جديدة خلال فترة قد لا تتجاوز ستة أشهر، وقد تمتد إلى عام على أقصى تقدير. وفي غياب مؤشّرات مقنعة تضمن نجاح الانتخابات التالية، أو أي انتخابات أخرى تجري في ظل أوضاع إسرائيل حاليا، يمكن القول، من دون مبالغة، إن الأزمة الحادثة ليست من نوع الأزمات العابرة، وإنما هي عميقة وممتدة، فقد كانت الانتخابات التشريعية كاشفة لمجموعة من الظواهر، يمكن إجمالها على النحو التالي :

الظاهرة الأولى، تتعلق بطبيعة النظام السياسي الإسرائيلي، فقد اختارت إسرائيل لنفسها نظاما برلمانيا خالصا. وعلى الرغم من سماته الديمقراطية الظاهرة، وربما بسببها، إلا أنه يواجه، منذ البداية، أزمة بنيوية تجعله عاجزا عن إفراز أحزاب أو كتل أو تيارات سياسية كبيرة، تتمتع بالحد الأدنى من التجانس اللازم لتمكينها من تحقيق أغلبية برلمانية، ففي جميع الانتخابات التشريعية التي شهدتها إسرائيل منذ تأسيسها لم يستطع أي حزب أن يحقق بمفرده أغلبيةً برلمانيةً تمكّنه من تشكيل حكومة بلون واحد، ولذا كانت كل الحكومات ائتلافية. مع ذلك، كان من الممكن تعويض هذا القصور الذاتي في بنية النظام السياسي الإسرائيلي، من خلال حكومات ائتلافية تقودها أحزاب قوية نسبيا، تحصل في العادة على نسبٍ عالية من المقاعد البرلمانية تتراوح بين 40% و55%، فحزب ماباي (انبثق منه لاحقا حزب العمل) تمكّن من قيادة حكومات ائتلافية ذات توجه يساري، منذ نشأة الدولة الإسرائيلية عام 1949 وحتى ما بعد منتصف سبعينيات القرن الماضي. وعلى الرغم من بروز حزب الليكود اليميني على الساحة، وتمكّنه من قيادة حكومة ائتلافية عام 1977، إلا أن نوعا من التوازن بين قوى اليمين واليسار استقر من 1977 وحتى 2006، ما سمح بتداولٍ للسلطة في ظل حكومات مستقرة نسبيا، غير أن هذا التوازن ما لبث أن اختلّ تماما، بسبب انهيار قوى اليسار والوسط، وتصاعد قوى اليمين التي تشرذمت وانقسمت إلى قوى علمانية وأخرى دينية متطرّفة وثالثة فاشستية. صحيحٌ أن النظام السياسي الإسرائيلي حاول تجاوز أزمته البنيوية، من خلال قانونٍ يسمح بالانتخاب المباشر لرئيس الوزراء، إلا أن هذه المحاولة باءت سريعا بالفشل، لأنها أدّت إلى تقوية وضع رئيس الوزراء، وأضعفت تماسك الائتلافات الحكومية الهشّة. ولأن رئيس الوزراء لا يملك سلطة حقيقية في مواجهة الائتلافات الحكومية، لم يسفر التعديل التشريعي عن استقرار النظام، فتم العدول عن هذا القانون عام 2001، والعودة إلى النمط القديم. وبمرور الوقت، ازداد النظام السياسي ضعفا بسبب تشرذم الأحزاب وانقسامها، هو ما تعكسه نتائج الانتخابات التي استطاع فيها 13 حزبا وكتلة سياسية الحصول على تمثيل في الكنيست، منها حزب واحد فقط، هو الليكود بقيادة نتنياهو، حصل على 30 مقعدا، أي بنسبة لا تتجاوز 25% من إجمالي المقاعد. ولم يحصل الحزب الذي يليه إلا على 17 مقعدا، وتراوح نصيب بقية الأحزاب والكتل الأخرى بين أربعة وتسعة مقاعد. وتشير هذه النتائج بوضوح إلى مدى التشرذم الذي وصلت إليه الحياة الحزبية. يلفت النظر هنا أن الخلاف الرئيسي بين الأحزاب السياسية المتنافسة في الانتخابات لم يكن بشأن برامج أو أيديولوجيات ورؤى سياسية أو فكرية متباينة، وإنما دار حول شخصية نتنياهو، حيث انقسمت الأحزاب والكتل السياسية إلى فريق يؤيد استمرار نتنياهو في قيادة الحكومة وآخر يريد إزاحته كليا من المشهد السياسي. ولأن أيا منهما لم يحصل على أغلبية برلمانية تمكّنه من تشكيل الحكومة، فقد بدت أزمة النظام السياسي الإسرائيلي أشد استحكاما مما كانت عليه في أي مرحلة سابقة.

نجح نتنياهو في إحداث انشقاق في صفوف الأحزاب العربية، ترتب عليه دخولها الانتخابات بقائمتين “.

الملاحظة الثانية: تتعلق بطبيعة المجتمع الإسرائيلي. ولأنه مجتمعٌ يعبر عن مشروع صهيوني يعمل على إقامة دولة يهودية على الأرض الفلسطينية، شكلته موجات استيطانية لمهاجرين من مختلف بقاع الأرض، لا يجمع بينهم سوى الديانة اليهودية، وترسخت أوضاعه عبر سلسلة من المذابح لسكان البلاد الأصليين، ومن الحروب مع الدول المجاورة، كان من الطبيعي أن يعكس تنوعا سياسيا وفكريا وإثنيا بالغ التعقيد، وأن تُمسك بخناقه عقدة الأمن التي ولّدت لديه إحساسا بالتهديد من الداخل والخارج معا. وقد شكّلت هذه العقدة الأمنية أحد الدوافع الرئيسية وراء تماسك المجتمع الإسرائيلي، والتفافه وراء حكومات ائتلافية، وأحيانا حكومات وحدة وطنية في أوقات الحروب والأزمات الخارجية، غير أن تراجع حجم التهديد الذي يواجهه حاليا، خصوصا بعد توقيع حكومات عربية على اتفاقيات سلام مع إسرائيل، وانحسار عمليات المقاومة الفلسطينية، بسبب الانقسام بين حركتي فتح وحماس، وأخيرا اندفاع دول عربية عديدة نحو تطبيع علاقاتها بإسرائيل، على الرغم من تعنت موقفها من عملية السلام، كانت عوامل ساعدت على انحسار المخاوف الأمنية محددا لتوجهات الناخب الإسرائيلي. يلفت الانتباه هنا أن نتنياهو حاول استثمار الإنجازات التي حققها، عقب تمكّنه من الإسراع بوتيرة التطبيع مع عدة دول عربية، للحصول على مكاسب انتخابيةٍ تساعده على تشكيل الحكومة وقيادتها في المرحلة المقبلة، غير أنه فشل في ذلك فشلا ذريعا، فمع تراجع المخاوف الأمنية التي كانت تؤرّق المجتمع الإسرائيلي في الماضي، وتدفعه، في الوقت نفسه، نحو التماسك والوحدة، يتوقع أن يزداد المجتمع الإسرائيلي غير المتجانس بطبيعته انقساما وتشرذما.

الخلاف بين الأحزاب السياسية المتنافسة في الانتخابات لم يكن بشأن برامج ورؤى سياسية وإنما حول شخصية نتنياهو“.

الملاحظة الثالثة: تتعلق بنوعية القيادات التي تتصدّر المسرح السياسي الإسرائيلي في المرحلة الراهنة، فمن الواضح أن الحياة السياسية والفكرية في إسرائيل أصيبت، ومنذ فترة ليست قصيرة، بنوع من العقم، جعلها تبدو عاجزةً عن إفراز قيادات تحظى بالقدر نفسه من الاحترام الذي حظيت به بعض القيادات التاريخية، سواء كانت تنتمي لليسار، مثل بن غوريون أو غولدا مائير أو حتى بيريز ورابين، أو لليمين مثل بيغن أو شارون أو حتى شامير، فكل هؤلاء قدموا خدمات كبيرة للدولة الإسرائيلية. أما الآن، فتبدو الساحة السياسية في إسرائيل عقيمة وخالية تماما من أي قيادات سياسية وازنة، ولم يعد يتصدّرها سوى رجل واحد، اسمه بنيامين نتنياهو. وهذه ظاهرة تستحق التوقف عندها قليلا، فحين ولد نتنياهو كانت دولة إسرائيل قد أعلنت عن قيامها قبل شهور، وحين حققت إنجازها العسكري الأكبر في تاريخها، الانتصار في حرب 1967، لم يكن عمر نتنياهو قد تجاوز الثامنة عشرة عاما. وحين حققت إسرائيل إنجازها السياسي الأكبر في تاريخها، إخرج مصر من معادلة الصراع العسكري بالتوقيع على معاهدة صلح منفرد معها، لم يكن نتنياهو قد دخل معترك الحياة السياسية. لذا يعد صعوده السياسي السريع والمذهل ظاهرة تلفت الأنظار، فقد تولى رئاسة حزب الليكود عام 1993، وأصبح رئيسا للوزراء أول مرة عام 1996، وظل في هذا المنصب حتى عام 1999، ثم عاد إليه عام 2006 ولم يغادره، مسجّلا رقما قياسيا في عدد مرّات رئاسة الوزارة تجاوز به مؤسس الدولة الإسرائيلية، بن غوريون. اللافت هنا أن هذا المجد الشخصي لم يحققه رجلٌ أنجز لإسرائيل ما عجز غيره عن إنجازه، فليس في تاريخ نتنياهو ما يمكن اعتباره إنجازا سياسيا أو عسكريا لافتا، فضلا عن أنه يواجه اتهامات بالفساد واستغلال النفوذ قد تفضي به إلى السجن في أية لحظة. الشيء الوحيد الذي يجيده فن المناورة والخداع، وقد برع فيه إلى حد مذهل. وتميزه هذا هو ما مكّنه ليس فقط من البقاء على رأس الحكومة، بدلا من قضاء بقية عمره في السجن. لذا يمكن القول إن نتنياهو جزء من الأزمة التي تعيشها إسرائيل، وليس جزءا من الحل.

ازداد النظام السياسي ضعفا بسبب تشرذم الأحزاب وانقسامها“.

الملاحظة الرابعة والأخيرة، تتعلق بالأحزاب والكتل السياسية العربية في إسرائيل، والتي تمثل من اصطلح على تسميتهم “عرب 48”. كانت إسرائيل قد بذلت جهودا مضنية للقضاء كليا على هوية أصحاب الأرض الأصليين، لكنها فشلت فشلا ذريعا في هذا. وفي ظل تواصل إصرارهم على الاحتفاظ بهويتهم الوطنية، راح فلسطينيو الداخل يشكلون تدريجيا شوكة في حلق إسرائيل، خصوصا بعد نجاحهم في تشكيل قائمة انتخابية تمكنت من الفوز بـ15 مقعدا في انتخابات مارس/ آذار 2020، لتصبح بذلك ثالث أكبر كتلة تصويتية في الكنيست السابق. ولأن عرب 48 يشكلون ما لا يقل عن 20% من إجمالي سكان إسرائيل، ويتعرّضون، في الوقت نفسه، لأنواع من الاضطهاد والحصار من السلطات الإسرائيلية، كان مأمولا أن يصبحوا جزءا من الحركة الوطنية الفلسطينية، وأن يواصلوا صعودهم السياسي، والتحوّل من ثم إلى رقم صعب في معادلة السياسة الإسرائيلية، يجبر إسرائيل، في نهاية المطاف، على تغيير موقفها من القضية الفلسطينية والاعتراف للشعب الفلسطيني ككل بحقوقه الوطنية. ولكن يبدو أن ظاهرة التشرذم التي يعاني منها المجتمع الإسرائيلي قد تمدّدت لتطال أصحاب البلاد الأصليين أيضا، فقد نجح نتنياهو في إحداث انشقاق في صفوف الأحزاب العربية، ترتب عليه دخولها الانتخابات بقائمتين، حصلت إحداهما على ستة مقاعد والأخرى على أربعة، ومن ثم خسرت خمسة مقاعد، أي ما يعادل ثلث قوتها التصويتية في الكنيست السابق. وبدون الدخول في تفاصيل الخلافات المستعرة بينها، يمكن القول إن الوضع الحالي للأحزاب والكتل السياسية العربية يساعد على استحكام مأزق مزدوج يواجه كلا من المشروع الصهيوني والحركة الوطنية الفلسطينية نفسها. والمثير للتأمل هنا، وهو ما يشكل مفارقة تبعث على الضحك والأسى في الوقت نفسه، أن نتنياهو، والذي يكنّ أعمق مشاعر الكراهية للعرب، وخصوصا للفلسطينيين، قد يتمكّن من الإفلات من السجن والبقاء على رأس الحكومة الإسرائيلية بدعم من رئيس القائمة المشتركة (أربعة مقاعد)، منصور عباس الذي ينتمي للتيار الإسلامي. وتلك قمة المأساة أو الملهاة التي كشفت عنها الانتخابات الإسرائيلية.

*حسن نافعة – كاتب وأكاديمي مصري، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى