أقلام وأراء

حسن إسميك يكتب – كيسنجر … هذا نموذجي للنظام العالمي الجديد

حسن إسميك – 15/12/2020  

هنري كيسنجر، “الثعلب العجوز” الذي بلغ السابعة والتسعين من عمره، ما زال رقماً صعباً في المشهد السياسي العالمي، وشخصية تتمتع بحضور مميز على منابر الإعلام. فهو الأستاذ السابق في جامعة هارفارد، والذي اعتبُر أشهر وزراء خارجية أميركا في القرن الماضي، وأكثرهم تأثيراً في الشأن الخارجي والداخلي على حد سواء. وكانت له الكلمة الفصل في عدد من القضايا الدولية، لقدرته الهائلة على المواءمة بين النظرية والتطبيق.

يتحلى الرجل بصفات المؤلف الفذّ الذي أرست أفكاره أُسس مدرسته السياسية الخاصة، التي باتت تعجّ بالأعضاء. أصدر الكثير من المؤلفات المعروفة قبل توليه أي منصب حكومي، وبعد تقاعده أيضاً. لكن لعل كتابه الأخير (النظام العالمي: “تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ”) الصادر في العام 2016 كان الأهم، إذ يحمل بين طياته خلاصة النظريات السياسية التي وضعها في ضوء خبرته العملية، محاولاً طرح فكرة جديدة لبناء نظام عالمي جديد، لكن بصورة تشاركية بين دول العالم، بعيداً عن نظام الأقطاب الذي كان سائداً.

يستهل الوزير الأسبق المقدمة بإعلان انحيازه المطلق للتجربة الأميركية على امتداد القرن العشرين، باعتبارها تتسم بالمرونة واحترام المعايير المشتركة والسيادة القومية والوطنية. إلا أنه يعترف بالتحديات التي تواجه هذا النظام، وأبرزها حالة الفوضى التي يشهدها مطلع القرن الحادي والعشرين بسبب انتشار أسلحة الدمار الشامل، وعمليات الإبادة التي تمارسها بعض العناصر المنظمة، وانتشار تكنولوجيا جديدة تدفع بالصراع الى مستويات خارجة عن سيطرة البشر.

ويحاول كيسنجر الإجابة عن تساؤلاته المعرفية حول بروز قوى عصية على قيود أي نظام، وذلك من خلال العودة إلى اللحظة التاريخية المتمثلة بمؤتمر “صلح وستفاليا” العام 1648 في ألمانيا، الذي أرسى نظاماً جديداً في أوروبا يقوم على أساس سيادة الدول، خصوصاً أنه عُقد بعد حروب مذهبية طاحنة دامت سنوات طويلة.

وعلى الرغم من أن الدول الأوروبية خاضت حربين عالميتين، فإنها ظلت على التزامها بهذا الاتفاق الذي يؤكد عدم التدخل في الشؤون الداخلية لبعضها البعض احتراماً لمبدأ توازن عام بين القوة والشرعية. ولذلك يرى سيد الديبلوماسية الأميركية الأسبق أن هذا الاتفاق يمثل منظومة لا زالت قابلة للتطبيق على المستوى العالمي.

مع انبثاق عالم الحرب الباردة الذي شهد السعي الى تحقيق توازنات بعيداً عن مبادئ النظام الأوروبي الذي رسم معالمه “صلح وستفاليا”، انطلقت سباقات التسلح بين القوتين الُعظميين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. وحين انتهى الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، وانفردت أميركا بقيادة العالم، لم يعد هناك نظام عالمي مستقر وبات من الضروري خلق نظام عالمي جديد في رأي كيسنجر.

أما الشرق الأوسط الذي سرعان ما يتأثر بكل الأحداث والوقائع العالمية، فقد خصّه الكتاب بكثير من الاهتمام، معتبراً أن بلدان هذه المنطقة قد تآكلت بسبب الإهمال، فتحولت إلى ميدان صراعات بالوكالة تدعمها قوى خارجية، شأنها في ذلك شأن أفغانستان التي لم تنعم بالديموقراطية، وليبيا التي تعيش حرباً أهلية وترزح أجزاء منها تحت سيطرة المتشددين الإسلامين. ولئن تعرضت سوريا والعراق للتقسيم بفعل التفتت القبلي والعرقي ذي الصبغة الدينية المتشددة، على حدّ قوله، فهو يرى أن ما يحدث في سوريا على وجه الخصوص هو عبارة عن كارثة إنسانية. ويعلن خوفه من تصدير المبادئ والأفكار التي راجت في ساحات الصراع تلك إلى الدول المجاورة، ما قد يفتح الباب أمام سيطرة لاعبين غير منظمين كالقاعدة وطالبان وداعش وغيرها، ويؤدي إلى مزيد من التفكك في النظام الدولي وانتشار القوى الخارجة عن القانون في الخريطة الإسلامية الواسعة.

من الواضح للقارئ أن كيسنجر يحاول تبرئة الولايات المتحدة من المسؤولية عن تطور تلك الصراعات، والزجّ بروسيا وحدها في قفص الاتهام، بسبب استخدامها، إلى جانب الصين، حق الفيتو.

وفي إطار معالجة الملف الشرق أوسطي المعقد، يعرج الكاتب على تجربة إيران، ليذّكر بأحلامها التوسعية المبكرة التي تأكدت بظهورها كعامل مهدد لتوازن القوى بعد دخولها في سباق التسلح النووي. ويضعها في مصاف القوى الخارجية المؤثرة في الوطن العربي من خلال دعمها للجماعات المسلحة غير المنظمة لاسيما في الميدانين السوري والعراقي، مؤكداً ضرورة الإجهاز على عقائد التخويف والإرهاب الممنهج بالعنف.

بعيداً عن منطقتنا، يتناول الفصل الخامس الذي جاء تحت عنوان “تعددية آسيا” التجربة الآسيوية التي شهدت ما يعرف بصعود نمور آسيا، وذلك بعد مخاض ثوري عنيف. عاشت الدول الآسيوية التي احتضنت تلك الظاهرة ازدهاراً وحيوية اقتصادية مميزة مقارنة بمثيلاتها في الشرق الأوسط. إلا أن ثمة عنصر تهديد ضمني حاضراً في تلك القارة، فالصين تشدّد بشكل صريح على أن الخيار العسكري واجب من أجل تحقيق المصالح الوطنية- القومية. ومع ذلك، يرى كيسنجر أن آسيا هي أكثر الأقاليم من حيث تبني مفاهيم الدولة السيادية، رغم أن قلبها يختلج بالحنين إلى الماضي الإمبراطوري.

وحين يتعمق في تاريخ الصين العظيم، يرى أن ثمة أهمية متبادلة تحكم علاقة هذه الإمبراطورية بالولايات المتحدة، فالأولى تشكل ركيزة بالنسبة للثانية، كما لا يمكن لأي منهما الاستغناء عن الآخر في أي نظام عالمي، بالرغم من تباينهما من جوانب مختلفة. هكذا يقر وزير الخارجية الأميركية الأشهر بوجود مصالح مشتركة بين أميركا والصين، لإقامة شراكة استراتيجية في منطقة المحيط الهادئ بهدف الحفاظ على توازن القوى في العالم. إلا أنه يعرب بحنكته السياسية المعهودة عن مخاوفه حيال تلك الشراكة، وإذ لا يوجد اتفاق قادر على ضمان المكانة الدولية للولايات المتحدة، لا بد من التأكيد على مبدأ القوة والشرعية في العلاقات.

ويحاول كيسنجر إبراز نموذج النظام العالمي المعاصر الأكثر جدارة بالتطبيق، من خلال تتبع المسار التاريخي للولايات المتحدة وإظهار قوتها الفاعلة على الأصعدة كافة والمستمدة من إيمانها المطلق بدورها في تحديد مصائر البشرية جمعاء.

ويلفت إلى أن الولايات المتحدة سارعت في حربين عالميتين، وثالثة باردة، إلى التصرف بحزم لتثبيت النظام الدولي وتحصينه، والمحافظة على مفهوم منظومة الدول “الوستفالية” وتوازن القوة. ويأتي هذا كإشارة واضحة لوقوفه إلى جانب النزعة المثالية الأميركية، كما أسماها، لأن الولايات المتحدة برأيه حمّلت نفسها مسؤولية تحسين حياة البشر، فمضت تبذل جهوداً استراتيجية بغية الوصول الى هذا الهدف. ويخلص إلى أن معالجة الفشل في هذا العصر ممكنة فقط من خلال إيجاد رابطة تجمع بين الدول الفاعلة وعلى رأسها الولايات المتحدة ، وذلك عبر استراتيجية متماسكة وعملية ومستمرة، فالنظام العالمي الجديد ينبغي أن يكون متعدد الأقطاب وليس أحادي القطبية. بيد أن كيسنجر يلح على تبني السياسات الأميركية، ويثني على تأسيس شراكة متينة بين الغرب (أميركا) والشرق (الصين) تمسك بدفة القيادة في العالم، ما يحرم روسيا من فرصة المساهمة في توجيه الدفة ويجردها حتى من دور المنافس لمن يقبضان عليها.

يتيح الكتاب للمرء التأمل في المآلات المستقبلية للنظام العالمي، وفي دور العرب ومكانتهم في “نظام كيسنجر العالمي الجديد”، ومعاينة تساؤلات من قبيل هل ستظل المنطقة العربية أرضاً للصراعات، ومسرحاً لرسم خرائط العالم المتغير بتغير السياسات الدولية المتعاقبة، ومكاناً لاختبارات القوى العالمية وتنافسها المحموم على السيادة على العالم، وهل سيكون للشرق الأوسط مكان على الساحة التشاركية التي تحدث عنها كيسنجر؟

تسعى بعض دولنا جاهدة إلى انتزاع مكان للعرب على خريطة التوازنات الدولية يتناسب وأهمية الجغرافيا التي يعيشون فيها. ولكنها لا تجد العرب يقفون من خلفها بتماسك وحماس كافيين، وكأن بعضهم راضٍ بنصيبه الوافر من الضعف والتخلف والفقر، وغير قلق حيال القوى الأجنبية التي تحاول إضعافهم وتحييدهم وتقويض أي دور مستقبلي ممكن لهم.

وعلى صعيد موازٍ، لا يحق للولايات المتحدة أن تغسل يديها من الدماء التي تجري في الشرق الأوسط، فعندما تكون “قائد العالم” لا يحق لك الوقوف متفرجاً، وإذا لم تتمكن أميركا من الوقوف في وجه المطامع الإقليمية والدولية فمن يستطيع؟ لقد كان الأجدى بواشنطن أن تكون أكثر حزماً في تعاملها مع ملفات المنطقة، لتضع حداً لمطامع منافسيها التقليدين الذين يحذر منهم كيسنجر من جهة، ولكبح القوى الخارجية التي تدعم التنظيمات والمليشيات المسلحة في الوطن العربي، من جهة أخرى. فقد أثبتت الوقائع أن مهادنة الإرهاب لن تقود إلا إلى المزيد من الإرهاب.

واليوم، تقف الولايات المتحدة أمام منعطف حاسم جديد، بعد فوز جو بايدن بالانتخابات الرئاسية. وهو يكرر كلما أطلّ عبر وسائل الإعلام أنه سيستعيد دور أميركا في القيادة العالمية، وسينهي نهج الانكفاء “الترمبي”. تتطلب هذه القيادة في “نظام كيسنجر العالمي” المتعدد الأقطاب شراكات وتحالفات موجهة الأهداف بشكل مسبق، وعلى الولايات المتحدة تعزيز تحالفاتها في المنطقة العربية، وضمان أمن شركائها العرب وحماية مصالحهم، وإلا ستجد نفسها وحيدة في مواجها منافسة كبيرة إقليمية ودولية هناك.

لذا فإن التفكير بالتحولات التي يشهدها النظام العالمي بات أولوية بالنسبة لنا كعرب، في ظل الظروف المحلية والإقليمية التي تمر بها بلادنا. في المقابل يجب على الغرب أيضاً التفكير بمشاريعه في منطقتنا، فالشرق الأوسط لم يكن يوماً منطقة ثانوية ولطالما أحدثت زلازله السياسية هزات ارتدادية بلغت أقاصي الأرض.

يضاف إلى ذلك أيضاً ما تمتلكه الولايات المتحدة من قوة في الشرق الأوسط، كما أن تحالفاتها العربية تمنح تحركاتها ووجودها الشرعية. وهذان هما الشرطان اللازمان، بحسب كيسنجر، لـ “ضمان حصول التغيير بوصفه موضوع تطور لا صراع إرادات فجا”. وإذا لم يتحقق التوازن بين القوة والشرعية، على طريقة “صلح وستفاليا”، سنرى كيف “تختفي الضوابط وتغدو الساحة مفتوحة أمام أكثر الادعاءات شططاً وأشد الأطراف الفاعلة عناداً وحقداً، ثم تحل الفوضى”.

أخيراً… يبدو جلياً تماماً في الكتاب، أن كيسنجر همّش العرب وحرمهم من لعب أي دور في نظام عالمه الجديد. لذلك فهم مطالبون اليوم بقراءة هذا العمل للاتعاظ وإعادة النظر في أوضاعهم المزرية، واتخاذ الموقف الحاسم إزاء ما يعانون من انقسام وتشرذم، وخوض حرب الكل ضد الكل، وإلا فسيظلون تابعين للأطراف الدولية التي تعمل لتحقيق مصالحها هي بصرف النظر عما يريدون وما يهمهم، سواء كانت أميركا، أم الصين، أم روسيا، أم أوروبا. وما دام الأمر كذلك، ستبقى القوى العالمية المتنافسة تمتلك أدوات السياسة والسيطرة، وسيزداد في المقابل حالنا سوءاً وتراجعاً. وعليه… ستتنامى قوة الطرفين الإيراني والتركي على حسابنا نحن الذين لا نبالي لاستمرار ضعفنا، فهما يدركان أن بوسعهما التلاعب بنا وبمنطقتنا التي تعتبر ساحة حل الصراعات والحروب بالوكالة.

وفي حقيقة الأمر فإن تفاقم الخلاف والتباين بين دول منطقتنا، كان وما زال يصب في مصلحة القوى العظمى والإقليمية ويساعد على تكريس أمنها، وذلك نظراً لسياسات الهيمنة والاستقطاب التي تتعامل من خلالها هذه الجهات مع دول عربية تبقى الخاسر الأكبر، نظراً الى هدر طاقاتها وتراجعها بمعايير التنمية والتقدم، ومن حيث موقعها على خريطة السياسة العالمية.

وإذا كان “ربّ ضارة نافعة”، فإن كتاب “الثعلب العجوز” الذي تجنب إسناد أي دور للعرب في رسم معالم نظامه العالمي، يجب ان يكون محفزاً لنا كي ننهض من سباتنا العميق.

تنبهوا واستفيقوا أيها العرب/ فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب

فيم التعلل بالآمال تخدعكم/ وأنتم بين راحات الفنا سُلب

نحن اليوم في عالم متغير على الدوام … ومطالبون أكثر من أي وقت مضى بتوحيد جهودنا بغرض توجيهها إلى إبرام اتفاق “وستفاليا عربي” لتأكيد وحدة الصف، وكي نكون طرفاً فاعلاً على المسرح الدولي إلى جانب اللاعبين المؤهلين لرسم معالم أي نظام عالمي جديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى