أقلام وأراء

حسام ميرو: مستقبل روسيا في النظام الدولي

حسام ميرو ٦-٦-٢٠٢٢م

منذ أن بدأت الحرب الروسية الأوكرانية، كان واضحاً أن الهدف الاستراتيجي لهذه الحرب هو تحديد موقع روسيا في النظام الدولي، والذي يتضمن في طبقته الأولى المؤسسة له سوق العمل الدولي، وفي بنيته الفوقية التأثير السياسي للقوى الكبرى: أمريكا والصين والاتحاد الأوروبي وروسيا.
فقد أظهرت روسيا خلال السنوات الأخيرة اندفاعة نحو الحضور العسكري المباشر في ساحات عدة في الشرق الأوسط، وإفريقيا، وشبه جزيرة القرم، إضافة إلى تمتين تحالفاتها مع الصين وإيران، وتضمنت هذه الاندفاعة، إعادة تموضع روسيا في المتوسط، من خلال «قاعدة حميميم» في مدينة اللاذقية السورية. وكنتيجة لهذه الاندفاعة دخلت موسكو على خط سياسات دول كثيرة، في اشتباك سياسي واقتصادي متعدّد الأوجه، كما في العلاقة مع تركيا، حيث يحضر التنافس جنباً إلى جنب مع التعاون.
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في عام 1991، عانى النظام الدولي مشكلة في تعريفه، ومشكلة أخرى في تحديد ملامحه المستقبلية. فالسعي الأمريكي لجعل هذا النظام يقوم على قطب واحد تمثّله مصالح وأجندة واشنطن، واجه صعوبات وتحديات كثيرة، خصوصاً أن الصين واصلت صعودها الاقتصادي على المستوى العالمي بخطوات ثابتة، معتمدة في الجانب السياسي على وسائل القوة الناعمة، وعلى تاريخ طويل من التمسّك بمبدأ الدبلوماسية، وعدم الانخراط المباشر في المشكلات الدولية، لكن الصعود الصيني القوي في سوق العمل الدولي وإنْ كان ضرورياً لبناء نظام دولي متعدد الأقطاب، لكنه لم يكن كافياً لإيجاد هذا النظام التعدّدي.
الاندفاعة الروسية، بشكل أو آخر، كان يمكن لها أن تؤسس لعملية تفاوضية، حول شكل النظام الدولي الجديد، وطبيعة «المحاصصة» فيه، وحدود كل طرف من الأطراف، فقد أوصلت موسكو عبر انخراطها في الملفات الدولية رسالة إلى الولايات المتحدة والغرب والصين، بأنها قادرة على إحداث اختراقات في بنى جيوسياسية عديدة، في محاولة منها لدفع هذه القوى إلى اجتراح مسار آخر للنظام الدولي، تعود فيه روسيا إلى لعب دور رئيسي ومحوري، لكن هذا المسعى  بقدر ما له من مشروعية  وربما ضرورة لإعادة بناء نظام دولي مستقر، فإنه يفتقد من نواحٍ عديدة نقاط القوة التي فرضتها السوق «العولمية» في العقود الثلاثة الأخيرة، فالحضور العسكري والجيوسياسي مهم، لكنه يحتاج إلى دعائم في سوق العمل الدولي، حيث حدّدت الاتجاهات «العولمية»  إلى حد كبير  مكانة القوى الكبرى، المنخرطة بشدّة في الإنتاج التكنولوجي، وما بعد التكنولوجي (المعرفي).
في مقابل مشكلة روسيا وأزمتها البنيوية في إعادة تعريف نفسها دولياً، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، كانت هناك أزمة أخرى على مستوى إعادة تعريف هوية الاقتصاد الروسي، ففي المستوى السياسي غابت الأيديولوجيا القديمة (الشيوعية)، لكن من دون توليد أيديولوجيا جديدة؛ بل عادت روسيا إلى المسار القومي المستمد من التاريخ الروسي القيصري، في الوقت الذي كانت فيه الدول الأوروبية الشرقية التي كانت جزءاً من المنظومة الشرقية، قد مضت نحو الليبرالية والديمقراطية.
وفي الاقتصاد بقي الاعتماد قوياً على الريع المتحقّق من تصدير النفط والغاز، والاستثمار في صناعة الأسلحة، ولم تتمكن من تحقيق تنافس فعّال مع الدول التكنولوجية الأوروبية، التي لا تمتلك النفط والغاز. فعلى سبيل المثال لا الحصر، بقي الناتج القومي الروسي أقل من نظيره الألماني بأكثر من الضعف، وهذا الرقم من شأنه أن يتضاعف مرة أخرى، إذا أخذنا في الحسبان نسبة عدد سكان ألمانيا (83 مليون نسمة)، قياساً إلى عدد سكان روسيا (144 مليون نسمة).
الحرب الروسية الأوكرانية أصبحت نتائجها العسكرية واضحة إلى حد بعيد؛ إذ إن السيطرة الروسية الممكنة ستوجد شرقي أوكرانيا، ومهما بدت هذه المنطقة حيوية واستراتيجية فإن السؤال هو: ما الذي يمكن أن تقدّمه السيطرة العسكرية على شرقي أوكرانيا من إضافة على مستوى التنافسية الاقتصادية مع الدول الصناعية الكبرى، فالأسواق العالمية تقوم على العرض والطلب، والمكانة تتأسس من القدرة على تقديم منتجات لا يمكن الاستغناء عنها، بأسعار تنافسية، أو تقديم منتجات فريدة وحصرية، وهو ما لم تتمكن روسيا من تحقيقه، على الرغم من العوائد الريعية الكبيرة التي دخلت إلى الخزينة الروسية منذ بداية القرن الحالي.
مستقبل روسيا في النظام الدولي الجديد  في جزء كبير منه  هو رهن تعاملها مع نتائج الحرب الراهنة، وحقائق النظام الرأسمالي العولمي، وإعادة النظر في مدى تطابق الشكل السياسي الحالي مع احتياجات تطور البنى الاقتصادية الوطنية، لكي تتمكن من المنافسة العالمية. والوصول إلى صيغة ممكنة وتوافقية، بين متطلبات الأمن القومي، وبين متطلبات تنمية بنى الإنتاج، وهو ما كانت الصين سباقة إلى تحقيقه، من خلال نسختها الخاصة، خارج إطار النسخة الغربية.

 

مركز الناطور للدراسات والأبحاث  Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى