أقلام وأراء

حسام ميرو: مستقبل المؤسسة الأممية

حسام ميرو: مستقبل المؤسسة الأممية 10 أكتوبر 2022

في علم الاجتماع السياسي، توجد معادلتان رئيسيتان في العلاقات الدولية، تتصل الأولى بموازين القوى بين الدول، بينما ترتبط الثانية بفلسفة الحق. وقد أسفر القرن العشرون عن ولادة الأمم المتحدة، كمؤسسة أممية تعكس عملية الجدل والتفاعل بين المعادلتين، وتقوم إلى حدّ معقول بمعايرة ما يمكن أن ينجم من الحالة الضدية المحتملة بين موازين القوى والحقوق؛ أي حقوق الدول والشعوب بالدرجة الأولى، وكان ثمن تلك الولادة تجربة مريرة خاضتها الجيوش في حربين عالميتين، تركتا وراءهما عشرات الملايين من القتلى والجرحى والمعاقين، إضافة إلى تدمير مدن بأكملها، وإعادة بعض الدول إلى الوراء عقوداً من حيث التنمية والعمران.

الهدف الأساسي الذي قامت عليه الأمم المتحدة في أبريل/نيسان عام 1945 هو منع نشوب الحروب مستقبلاً، وهو ما تضمّنه ميثاق الأمم المتحدة، الذي دخل حيّز التنفيذ في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، وقد أورد المؤسّسون (50 دولة) في البند الأول من الفصل الأول، أن الغاية من هذه المؤسسة «حفظ السلم والأمن الدوليين». وركّز الميثاق على مسألتين، هما «منع الأسباب المؤدية للحروب وإزالتها»، و«حلّ المنازعات الدولية التي قد تؤدي للإخلال بالسلم وتسويتها». وكان من الطبيعي أن يعكس مجلس الأمن موازين القوى بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال منح الدول المنتصرة امتياز العضوية الدائمة في مجلس الأمن، وحقّ النقض (الفيتو).

كان العالم لحظة تأسيس الأمم المتحدة قد استهلك منطق السياسات الاستعمارية للقرن التاسع عشر، وهو ما سيتوّج خلال العقدين التاليين بمنح الدول المنتدبة والمستعمرات حقّ تقرير مصيرها واستقلالها، ونشوء شكل من أشكال التوازن بين القوتين العظميين: أمريكا والمنظومة الغربية من جهة، والاتحاد السوفييتي من جهة ثانية. وقد توسّعت مهام الأمم المتحدة وتفرّعت إلى قضايا أممية عديدة، عبر شبكة واسعة من المؤسسات التي تعنى بالتعليم والصحة والتغذية والقضاء، وتقوم بتنفيذ برامج ومشاريع واسعة في عدد كبير من الدول، كتعبير عن روح ومضمون المسؤولية المشتركة في حل الأزمات التي يمر بها العالم في مستوياته الأساسية.

في الجانب الحقوقي الدولي، كان المبدأ الرئيسي الحاكم لنشوء الأمم المتحدة والذي استقت منه وظيفتها، هو مبدأ سيادة الدول على أراضيها، بغض النظر عن مساحة الدولة وقوتها واقتصادها، والاحتفاظ بحق كلّ دولة في تقرير طبيعة علاقاتها الخارجية، في إطار التنافس السلمي، خصوصاً أن الحرب العالمية الثانية، كانت قد بدأت بانتهاك ألمانيا النازية سيادة جارتها بولندا واجتياحها. وبناء عليه، فإن وظيفة الأمم المتحدة هي تأمين هذا المبدأ عبر الوسائل السلمية بالدرجة الأولى، مع استثناء خاص نصّ عليه الفصل السابع، وتحديداً في المادتين 40 و41، وذلك عبر قوات تابعة لدول أعضاء في الأمم المتحدة، وهو ما تمّ تطبيقه في عدد محدود من الحالات.

تماسك هذه المؤسّسة الأممية خلال ما يقارب ثمانية عقود، لم يكن من دون مشكلات وأزمات تفاقمت مع الزمن، بعضها من طبيعة بنيوية، تتعلق بارتفاع منسوب البيروقراطية التي تؤخّر عمليات الاستجابة للأزمات العالمية، أو من خلال تنامي حالات الفساد الإداري والمالي في داخلها، أو شبكات النفوذ، وهو ما تمّ انتقاده مراراً، ودفع نحو إحداث تقليص البنى الإدارية أو تمويلات بعض المؤسسات، لكن المعضلة الكبرى تكمن في التحولات الدولية نفسها. فكثير من الدول التي كانت محدودة التأثير في سوق العمل الدولي لحظة تأسيس الأمم المتحدة، أو أنها خسرت الحرب العالمية الثانية، أصبحت اليوم قوى وازنة في سوق العمل الدولي.

وفي إطار التحولات الدولية، عجزت الأمم المتحدة عن التدخّل الفعال في معالجة انفراط عقد سيادة بعض الدول في العقد الأخير، والأسوأ من ذلك، أنه استُخدمت الأمم المتحدة كمنصة للإقرار بموازين القوى الجديدة الناشئة، وترك قوى الأمر الواقع تحسم الصراعات، ما أتاح من جديد استعادة السياسات الاستعمارية القديمة التي تتخطى مبدأ سيادة الدولة على أراضيها. ويعكس هذا الأمر الخلل الكبير الموجود في العلاقات الدولية.

مستقبل الأمم المتحدة مرهون بقدرتها على المحافظة على المهمة الأساسية التي استوجبت إنشاءها، لكن معظم المعطيات تشير إلى أن مقوّمات وجودها أصابها عطب بالغ، وأن المعادلات والاستقطابات الناشئة، قد يدفعان بها نحو التجميد مضموناً، إذا ما تعذّر ذلك شكلاً، وهو ما نشهد فصوله الأولى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى