أقلام وأراء

جواد بولس يكتب – هل يحلم عماد بالزنابق البيضاء

جواد بولس *- 26/2/2021

اعتليت سيارة زميلي أحمد ومضينا من حي بيت حنينا باتجاه محكمة العدل العليا. كان الفضاء فوقنا نقيّاً وسماء القدس زرقاء رمادية وبعيدة، وفي الجو برودة لاذعة لطالما خبرناها بعد سقوط الثلج الذي يزور المدينة أحياناً، ليذكّر ناسها أن للجنّة وجهين واحدا أزرق مثل لون الأماني والآخر أبيض مثل لون الخوف.

دسّ أحمد بيدي بضع أوراق كانت نيابة الدولة العامة قد أرسلتها في الصباح عبر بريدنا. لم يكن فيها غير ما توقعت عندما قدمت الالتماس، وطلبت تدخل المحكمة لإلغاء أمر الاعتقال الإداري بحق الأسير عماد البرغوثي؛ فهو ليس كما تدعي الأوراق على لسان المخابرات العامة الإسرائيلية خطيراً على الأمن وسلامة المواطنين، ولا حق لهم باعتقاله ادارياً وسلب حريته وإبعاده عن عائلته وجامعته التي يعمل فيها محاضراً في مادة الفيزياء.

حاول أحمد أن يستدرجني لأخرج عن صمتي الخانق، فهو يحس متى أكون غاضبا حتى الحنق؛ كنت أجيبه باقتضاب وتعمدت إغفال سؤاله الأخير الذي وجهه إليّ قبل وصولنا إلى ساحة المحكمة: كيف لم تيأس بعد هذه السنوات الطويلة، وأنت تعرف أنك اليوم ستخسر هذه القضية تماماً، كما خسرت المئات مثلها خلال مسيرة عملك أمامهم؟ كنت ألف رقبتي بالشال، وألقي على ذراعي العباءة السوداء حين نظرت نحوه، فقرأ ما فيهما، وتبعني.

وصلت بهو المحكمة الفسيح في تمام الساعة الواحدة، نصف ساعة قبل ميعاد الجلسة المحدد، تقدمت نحو القاعة ببطء وعلى يساري ارتفع حائط من حجارة الصوان الضخمة التي قطعت من جبال القدس، وقبالتها نوافذ كبيرة من زجاج تكشف بعضا من المدى. لا أعتقد أن مصممي هذه البناية اختاروا تلك الحجارة كرمز لرسوخ العدل ولعلوّه، بل، على الأغلب، لتكون تذكارات تنقر صمم التاريخ، كما قرأوه، وشهادات على جبروت شعب وإصرار بنيه على زرع روايتهم في قلب الزمن. على مدخل القاعة توجد يافطة مكتوبة باللغة العبرية، تحذّر بأن عدد الحضور في الداخل يجب الا يتخطى الأربعة عشر شخصا، وعلى الجميع أن يحافظوا على لبس الكمامات. جلست على أحد المقاعد الشاغرة، ومن حولي كل الوجوه مغطاة بكمامات، فبدا المشهد وكأنه مأخوذ من احتفال تنكري. قرأ الحاجب اسم موكلي معلنًا بداية الجلسة. لم يُجلب عماد لحضورها، رغم أنني طلبت ذلك مسبقاً، لكن المحكمة رفضت طلبي بسبب أنظمة كورونا، وموقف مصلحة السجون الإسرائيلية في هذه المسألة. شعرت بخبو حماس القضاة، الذي كان ظاهراً عليهم في الملف السابق؛ ولم أعرف ما إذا كان ذلك نتيجةً لتعبهم في نهاية يوم عمل طويل، أم لأنهم بدأوا يمقتون النظر في ملفات الأسرى الفلسطينيين الإداريين، لأنها، ربما، بحكم عبثيتها الرتيبة، حوّلتهم إلى ما يشبه الروبوتات، التي تمضغ سوابق من كانوا قبلهم، وتلوك التعابير والمواقف نفسها، وتنتج قرارتها كمعلبات في خط إنتاج سريع.

وقفت أمامهم وأنا في حالة تأهب يألفونها؛ فأحسست بنظراتهم تثقب صدري وأعناقهم تترقب ما عساني سأقول اليوم، وهل سأقصّ عليهم قصيدة أم حكمة وجع جديدة وأتركهم بعدها كي يسكروا، مرّة أخرى، في نبيذ نصرهم الرخيص. جلسَت إلى يميني ممثلة النيابة العامة، وورائي، على مقاعد فارغة، أربعة من «شبيبة» الشاباك الذين يبدأون طريقهم كمتدربين في ساحات الغبار الفلسطيني، ويكبرون في حضن احتلال منسي. كنت والحقّ وحيدين على هذا المسرح.

تفضل سيد بولس، بادرني رئيس هيئة القضاة، سائلاً إذا كنت قد قرأت رد النيابة العامة على التماسي. طبعا قرأته؛ أجبت، ثم أردفت أنني لا أصدق ما هو مكتوب ولا أؤمن بعدالة هذه الإجراءات مطلقاً؛ وأتوقع أن ترفضوا التماسي مثلما فعلتم، أنتم وغيركم من القضاة، طيلة أربعين عاماً مثّلت خلالها، أنا وزملائي المحامون، كما تعلمون، آلاف الأسرى الإداريين الفلسطينيين، ولم نفز ولا حتى بقضية واحدة. فهذه المسألة محسومة لديكم، ولن تغيّرها تداعيات قضية عماد البرغوثي الفاضحة، كما ستسمعونها الآن كما جرت في المحكمة العسكرية في عوفر: فقد قامت عناصر قوات الأمن الإسرائيلي باعتقال الدكتور عماد من بيته في تاريخ 22/7/2020 وحققوا معه حول مجموعة ملصقات كان قد نشرها على صفحته في فيسبوك. بعد انتهاء عملية التحقيق قامت النيابة العسكرية، في الثاني من أغسطس، بتقديم لائحة اتهام ضده عزت إليه فيها مخالفات التحريض، ومؤازرة تنظيم محظور، ونشر شاراته ورموزه.

مع تقديم لائحة الاتهام طلبت النيابة العسكرية إبقاءه في السجن حتى نهاية الإجراءات القضائية ضده. قرر قاضي محكمة عوفر العسكرية بتاريخ 27/8/2020 ، وبعد سماع الأطراف، ومعاينة ملف البينات، الإفراج عن الدكتور عماد بشروط مقيدة، لعدم اقتناعه بأن الدكتور وما عزي له من مخالفات وبينات، يشكل خطراً على أمن المنطقة وعلى سلامة المواطنين. لم تستسلم النيابة العسكرية ولم ترض بذلك القرار؛ فقامت بتقديم استئناف عليه أمام محكمة الاستئناف العسكرية. ومرة أخرى، بعد سماع الأطراف، قرر قاضي محكمة الاستئناف العسكرية، في تاريخ 2/9/2020 رد طلب النيابة وإبقاء قرار الإفراج عن الدكتور بشروط مقيدة ساري المفعول. لم تفرج سلطات الاحتلال عن الدكتور عماد، رغم حصولنا على قرارين صادرين عن قاضيين عسكريين؛ فبعد قرار محكمة الاستئناف أعلمتني النيابة العسكرية بإصدار أمر اعتقال إداري بحق عماد البرغوثي، موقعٍ من القائد العسكري للمنطقة، وذلك لغاية تاريخ 6/11/2020؛ ثم الحقوه بأمر ثان قضى بأن يبقى عماد رهن الاعتقال لغاية 28/2/2021 ؛ وكانت المحكمة العسكرية في عوفر قد صادقت على هذين الأمرين، أما اليوم، في هذه الجلسة، فقد أعلمونا نيتهم إصدار أمر اعتقال جديد ثالث بحقه. إنها إجراءات باطلة، وممارسات قمع سياسية صارت ممكنة، لأنكم أوجدتم في محاكمكم مسطرتين نقيضتين؛ فواحدة كالبلطة تهوي على حقوق الفلسطينيين، وتقتلع أحلامهم وتدمر حياتهم، والأخرى تسهمد للمواطنين اليهود دروب الليل على الهضاب، حيث يفرخ الفزع يأساً وقنابل. توقفت لألتقط نفسي، فحاول رئيس الهيئة أن يقاطعني، ويلفت انتباهي إلى أن موكلي ليس متهماً بالتحريض فحسب، بل حسبما يدّعي في أمر الاعتقال الإداري فهو ناشط بارز في حركة حماس، ومتورط في عملية ترميم قيادة الحركة في الضفة، ويشارك في لقاءات تنظيمية مع ناشطين آخرين، وفي أنشطة تحريضية بما فيها على الفيسبوك. سمعته وتساءلت: ما شأن كل هذا والاعتقال الاداري؟ فحتى لو كان كل ذلك صحيحا، لا يجوز اعتقاله إدارياً، لأن اللجوء للاعتقال الإداري يكون فقط في الحالات الاستثنائية والقصوى، وليس في مثل هذه الحالات بالتأكيد.

رفع القاضي الذي كان يجلس على اليمين رأسه، بعد أن أرخاه للأسفل منذ بداية الجلسة، وتوجه إليّ بصوت نعس وقال: «أنا أحترمك سيد بولس منذ سنوات طويلة وليس مريحاً أن نسمع ما تقوله أمامنا، فانت تأتي إلى هنا كي تشكك فينا، هذا أمر يصم الآذان». أكملت حديثي من حيث توقف، فأنا أقول هذا وأكتبه منذ سنوات طويلة وقبل تعيين حضرتك قاضيا في المحكمة العليا، لأنني شاهد على حكاية العبث التي قد بدأت منذ اليوم الأول للاحتلال، وبعد أن وافق، طوعاً، من سبقوكم على هذه المقاعد أن يكونوا جنوداً في أثواب قضاة، وأن يتمموا ما لم ينجز في أرض المعارك؛ فالفلسطينيون جاؤوكم ضحايا نكسة وموهومين بـ»نور» احتلالكم ورأفتكم، فأدمنوا، مهزومين، ظلمكم بعد أن سدت عليهم جميع المعابر، وأنتم كقضاة أكملتم المشهد فاستمر العرض كما نرى والمصيبة بالخواتم.

شعرت بأنهم يغضبون مما أقول، فمضيت في حزني، إلى أن أوصلتهم إلى ذلك «الجندي» وليكن اسمه شلومو أو عماد، الذي يحلم بالزنابق البيضاء «ويريد قلباً طيباً، لا حشو بندقية ويريد يوما مشمسا، لا لحظة انتصار مجنونة فاشية، وطفلاً باسماً يضحك للنهار لا قطعة في الآلة الحربية» عندها أوقفني رئيس الجلسة وقال: «كنا سعداء لو رأينا حركة حماس تحلم بالزنابق». فقلت له: أرأيت يا سيدي أنها ليست محكمة وقانونا، وأنها معركة كانت ولما تزل سياسية.

قرأوا ملف عماد «السري» في دقائق، ثم رفع رئيس الجلسة رأسه وصوبه نحوي وقال بنبرة الحانق الساخر، هكذا شعرت: «لقد صدقت يا سيد بولس» وتوقف على طرف ابتسامة شامتة «قصدك انني خسرت القضية» أجبته، وقد أحسست لغماً في حلقي؛ فقال: نعم، ووقف ومثله فعل القاضيان الآخران وانسلوا بسرعة إلى ما وراء السراب. لم أشعرهم بما أخفته عيناي، ولم أعرف إذا سمعوني عندما قلت: «أعرف أنني الصادق».

نظرت في عيني أحمد وكانتا مشرقتين. «لقد أغضبتهم» قال وصمت. فربتُّ على كتفه وسألته أتريد أن تعلم لماذا ما زلت آتيهم رغم أربعين سنة من عمر «الخسائر» لأنني أعرف أن فقدان الأمل هو عدو العدل الأكبر وان لكل باطل جولة.

* كاتب فلسطيني .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى